المحرر موضوع: مسقط رأس جبران * ترجمة: يوآرش هيدو ‏  (زيارة 434 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل marqos yousif

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 27
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي
لايشاور الإنسان حول مولده  ولا حول موته ولن يشاور حول مقامه الابدي* ‏ويعبر الإنسان عن تذمره لوصوله عند ميلاده بالبكاء وعن رحيله عن هذه الأرض يخوفه من الموت .
وقد عبّر جبران عن  تذمره بسبب مولده  في السادس من كانون الأول1883في (بشريّ) بجبل لبنان.
تجثم ‏مدينة بشريّ على نجد صغير على حافة منحدر صخري شاهق من منحدرات (وادي قاديشا ). هناك طريق مبلط اليوم الى بشري.  لكن في ايام جبران لم يكن هناك سوى ممر يؤدي إلى الجبل ماراً  بضواحي المدينة ببيوتها  المتضامة ، المشيدة  من حجارة ذات ألوان عاجية وسطوح عتيقة الطراز  مكسوة  بالآجر الأحمر.
‏قبل ظهور الطائرات السمتية  ووسائط النقل الحديثة ، لم يكن بمقدور أي جيش أو غاز من الوصول إلى بشري .
لقد كانت مثل قلعة حصينة بلا أسوار.  يبدو ان اسلاف  جبران قبل آلاف السنين  قد اغضبوا الآلهة  وخاصة  الإله ( بعل ) فهيج  عواصفه ورعوده   وهديره  الصاخب من أعماق المحيط وخلق سلسلة الجبال التي تمتد من أوروبا حتى البحر الأحمر.
‏توجد بمتحف بيروت صخرة عليها سمكة متحجرة عمرها ثمانية او عشرة ملايين عام .لقد عُثر على هذه السمكة في الجبال على مقربة من بشري . إن عمل الالهة هذا خلق منحدرات واودية عميقة ، اعمقها ( وادي قاديشا ) أي الوادي المقدس.  يبدأ هذا الوادي من شاطئ البحر وينتهي بالقرب من القمة . لم يكن بوسع جبران ولا السياح في هذه الأيام الا أن يفكروا  ملياً  بالقوة التي نصبت هذه الطبقة من الصخور على جانبه مندفعاً
‏صوب السماء ، وخلقت من قاع المحيط شريطاً
يشبه الموجة من الجبال التي تمتد مسافة اميال.
‏لقد كتبت بربارة بونغ،  صديقة جبران وكاتبة سيرته ، : "إذا أردت أن تزور وادي قاديشا،  يتعين عليك أن تغادر العالم المعاصر وان تغوص جسدا وروحاً في جو موغل في القدم وسرمدي في آن معاً. انه جمال من النوع المفرط ومطلق العنان ، يمتلك قوة هائلة لتجعل  العقل  يمعن التفكير في الكلمات التي نصف بها الأبدية."
‏لقد كانت هذه الجبال عبر القرون مغطاة بالأرز الذي ورد ذكره أكثر من  مئة  مرة في الكتاب المقدس،  يطلق عليه " ارز  الله"   او " الأرز  في جنة الله". ويطلق اليوم على غابة الأرز بالقرب من بيت جبران  "الأرز المقدس".   وإذا ما  منحت حراسة هذه الغابة الى اقرب مدينة ، فان بشري ستؤهل بلا شك لهذا الشرف. ولكون جد جبران لامهِ  قسيساً ،  فإن أسرته كانت تمتلك الحق قبل غيرها لتسلم  مفاتيح " ارز الله ". لقد احتفل أسلاف جبران الفينيقيون بطقوسهم الدينية بين أشجار الأرز هذه.
‏أن أقدم القصص المكتوبة ، مثل گلگامش ، عشتار،  وتموز ، حدثت في غابة الأرز.
 لقد سار ونام وتامل جبران تحت ظلال الأرز .
فقد قرأ عن الالهة  القديمة وتاريخ الأرز وكيف استخدم في قصور الإمبراطوريات القديمة لآشور وبابل وفي  المعابد أو الهياكل في اورشليم وتوابيت الفراعنة .
فقد كان خشب  الارز  هو الذي منح السفن الفينيقية القوة والمنعة  لمقاومة عناصر الطبيعة . وعندما عاش جبران تحت ظلال ناطحات السحاب بنيويورك ، لم ينس قط الأرز في جنة الله . فقد انعكست على مرآة  روحه،  كما انعكست في كتاباته.
 في كتابه _ يسوع ابن الإنسان  _كتب جبران في الفصل الذي عنوانه امرأة من جبيل : " إبكين   معي يا بنات عشتاروت ،  ويا كلّ محبي تموز ،
 مرن قلوبكن فتذوب وتنهض فتجري كالدم دموعا
 لأن الذي صنع من الذهب والعاج لم يبق في الوجود .
لقد هجم عليه الخنزير البري في الغابة المظلمة   ومزق جسده بأنيابه،  وها هو الآن يضطجع ملطخاً  مع اوراق الأعوام المنصرمة .
ولن يوقظ وقع خطواته البذور الهاجعة في  حضن الربيع.
 إن  صوته لن يأتي مع الفجر إلى نافذتي .
وسأحيا وحيدةً  أبداً.
ابكين   معي يا بنات عشتاروت  ويا كلّ  محبي تموز،
 لان حبيبي قد افلت مني ،
ذلك الذي تكلم  كما تتكلم الأنهار ،
ذلك الذي كان صوته وزمارته توأمين،
 ذلك الذي كان  فمه  ألماً ملتهباً  تحول إلى عذوبة لذيذة ،
ذلك الذي كانت المرارة تتحول  على شفتيه إلى شهد العسل.
ابكين يا بنات عشتاروت  ويا كلّ محبي تموز.
ابكين معي حول نعشه كما تبكي النجوم،
‏وكما تتساقط أوراق القمر على جسده الجريح .
بللن بدموعكن اغطية فراشي الحريرية،
‏حيث استراح حبيبي مرة في حلمي ثم ابتعد عني في يقظتي .
‏إستحلفكن يا بنات عشتاروت  ويا كلّ محبي تموز،
 اقرعن صدوركن وابكين  وعزينني، لان  يسوع الناصري
قد مات."
‏لم تكن جبيل واحدة من أكثر المدن الفينيقية جبروتاً. لكنها كانت أعظم مركز ديني. فقد سميٌ العهد القديم أحياناً بكتاب جبيل .
أن الإله الرئيسي لتلك  المدينة كان ( إيل )  ، أبو الالهة جميعاً .  و إيل هو الاسم الذي ورد في الكتاب المقدس مراراً تحت اسم الوهيم وفي العربية  اله.
إن أقدم كتابة الفبائية  اكتشفت في  جبيل.  ولابد أن يكون جبران،  وهو يدرس في بيروت ، قد مر بحبيل
 وطرابلس في كل مرة عند عودته الى البيت  في زيارة.
وجبيل واقعة  على شاطئ البحر ، شمالي  بيروت ،
وتبعد مسيرة يوم كامل على ظهر حصان من بشري.
 لم تكن معرفة جبران في الجغرافية والتاريخ مقتصرة
 على مدينته أو الطريق الذي يسلكه إلى المدرسة.
 إن وصفه للأماكن والأحداث والتقاليد وتاريخ الشرق الاوسط ، كل هذا يبرهن على أنه قد زار تلك الأماكن.
 وكان جبران في الثانية عشر من عمره عندما جاء إلى الولايات المتحدة . بعد سنتين من الدراسة في
بوسطن ، عاد إلى لبنان لإكمال تعليمه . وخلال الصيف رافقه أبوه في رحلة إلى جميع أنحاء لبنان وسورية وفلسطين. بعد أربع سنوات من دراسة العربية والفرنسية، غادر إلى بلاد اليونان، روما، اسبانيا، ثم باريس
‏ليواصل دراسته . بعد سنتين من الدراسة في باريس عاد جبران إلى بوسطن. من بين الأماكن التي زارها جبران كانت الناصرة،  بيت لحم ، اورشليم ، صيدا،طرابلس ،بعلبك ، دمشق ، حلب ، و تدمر.
‏إن هذه الأسماء ليست سوى نقاط صغيرة على خارطة العالم ، لكنها تركت تأثيرا عميقا على تفكير وكتابات وفلسفة جبران . فقد  انعكست على مرايا  روح جبران وعلى كل كلمة كتبها .
ومن المعقول أن نفترض بأن جبراناً في الوقت الذي كانت قدماه  تتعثران  بحجارة ( الناصرة ) ، قرر أن يكتب "يسوع ابن الإنسان ".
‏بعلبك ، واحدة من عجائب الدنيا . بين أحجارها المبعثرة وأعمدتها يقف  المرء في تواضع وخشوع  ويحني راسه 
امام مهارة بنائيها  وقوتهم  وتفانيهم  من أجل الهتهم.  كانت بعلبك مشيدة شرقي واحدة  من أعلى القمم في سلسلة الجبال المحيطة بالبحر  المتوسط .
غابة الأرز تقع على الجانب الغربي من القمة وبيت جبران المتواضع يقع على مسافة قصيرة من كليهما .
كانت بعلبك أقدم واعظم مركز ديني للرجل الأبيض . لقد وضع الفراعنة المصريون بالقرب  من أضرحتهم  قوارب من خشب الأرز.  لتنقلهم يوم البعث على امواج البحر المتوسط إلى بعلبك .
كان الإله( بعل )  يُعبد  في كل الأماكن المقدسة للرجل  الأبيض ، من بلاد بابل حتى بحر البلطيق.  وكان بعل و أمه  عشتار المنافسين الأعظم ل(يهوا )  .فقد  أوجد بعل المطر لكل شيء حي لكنه كان في الوقت نفسه مزاجياً سريع الاهتياج.  وفي سَوْرَة غضبه خلق العاصفة والبرق والزلزال. كيف كان بمقدور جبران أن يزيل صورته عن مرايا روحه  وهو يتفرس كل يوم في وادي  قاديشا الذي خلقه غضب هذا الإله؟

•ترجمت عن كتاب:
( The Treasured Writings of Kahlil Gibran )

المقالة(ص 732_737 )