المحرر موضوع: في احترام الاختلاف وحرمة إهانة المقدّسات  (زيارة 360 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 427
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
في احترام الاختلاف وحرمة إهانة المقدّسات
لويس إقليمس
بغداد، في 5 تموز 2023
تشكل الذاكرة الجمعية العراقية شيئًا كبيرًا في ثقافة أبناء الرافدين باختلاف مشاربهم الدينية والإتنية والفكرية بسبب زحمة أشكال الإحباط والنكوص والتراجع المتتالية في الأخلاق والسلوكيات عبر التماهي مع فساد مَن أتاح لهم الغازي الأمريكي المتغافل عن هذه جميعًا. وهذه جزءٌ بسيطٌ من نتائج رعايته غير السديدة بل اللاّمبالية بأخلاقيات المجاميع البشرية في البلاد بعد أن سمح لغير المستحقين وغير الجديرين بإدارة عجلة البلاد بالطريقة القائمة منذ أكثر من عشرين عامًا، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا بعيدًا عن أساسيات حياة الزمن الجميل المتعارف عليه. فقد تشبّع الواقع المرير في السلوكيات غير المتزنة لنفرٍ من الضالّين والمرضى النفسيين على كثرتهم، بكلّ صور التخلّف والتزلّف والتراجع في القيم والإنتاج وحب الوطن والعمل المشرّف في أيّ حقلٍ من حقوله. كما أرخت العديدُ من أحداثه أربطتَها الجميلة وأواصرَها القوية في تقليدها لصالح حكايات وروايات وسلوكيات وأفعالٍ غير مدروسة بل غير متزنة لا تنمّ في الكثير منها إلاّ عن شكل التربية البيتية والمجتمعية الضعيفة والهزيلة السائدة في الوسط المعاش. فيما تتحمّلُ الدولة ومؤسساتُها التربوية والتعليمية ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى الوسط العائلي المتهالك والسماح بسيادة العرف العشائري بدل القانون، الجزءَ الأعمَّ في أسباب هذا الانحدار الخلقي والمجتمعي الذي يشكلُ جزءً من شكل الضعف البادي في إدارة الدولة ومؤسساتها لمجتمعاتها المتهالكة. فعندما تضعف مؤسسات الدولة التربوية والتعليمية والقضائية والسياسية والاقتصادية والمالية والإنتاجية في شكليها الصناعي والزراعي في مجملها، فإنه لا ينتج عنها سوى مثل هذه الترّهات والسلوكيات والتصرّفات غير المستساغة التي تفتقر للتنشئة الصالحة في توجيهها وثقافتها. فهذه دومًا نتاج التراخي في فرض هيبة الدولة ونمط التربية والتعليم ودور القضاء الذي يتماهى مع أرباب السلطة وزعاماتها والفاسدين فيها ويغضّ الطرف عن الأسباب الحقيقية وراء مثل هذه السلوكيات غير المقبولة. فعلى أشكالهم يولّى عليهم!
لقد انشغلت العديد من الفعاليات المحلية والدولية في الأيام الماضية بما حصل من جريمة إحراق نسخة المصحف الذي يُعدّ من مقدّسات إخوتنا المسلمين أمام دارة دينية في مملكة السويد بحجة احترام الحريات الشخصية عندما سمحت أجهزة الشرطة بهذا الفعل الشائن الذي استنكره جميع الأسوياء من جميع الملل والجماعات. قد يكون هذا النفر الضالّ الذي قام بمثل هذا الفعل الشنيع في حركة صبيانية استفزازًا لمشاعر أكثر من مليار ونصف مسلم في العالم،  قد انطلق من إيديولوجيا فردية قاصرة وفكر ضحل لا ينتمي للإنسانية واحترام حقوق الإنسان بشيء بسبب الظروف التي نشأ فيها وارتباطه المتهوّر غير السويّ بجماعات سياسية ميليشياوية عملَ معها في بلده في ظروف استثنائية غير صحيحة شابتها الكثير ممّا شابَ مَن يُعدّون جزءً من كيان السلطة الهشّة الغارقة في أشكال الفساد والانعزال عن الشعب في سياساتها التحاصصّية غير الرصينة وهي تلملمُ كلَّ ما تستطيع من أدوات الجاه والمال والنفوذ، ممّا يُعدّ من بديهيات إنتاج مثل هذه السلوكيات التي أقدمَ عليها هذا الفرد الذي وصفه الكثيرون بالمعتوه. وأيّا كانت الصفة التي يستحقها، فالفعل في حدّ ذاته مكروه ٌ ومستنكَرٌ ومرفوضٌ جملةً وتفصيلاً. فالإنسان السويّ يسعى دومًا للعيش الآمن الرغيد والسلم المجتمعي الذي يحفظ كرامته وكرامة الآخرين بذات القدر على نفسه وأهله وبني قومه. وهذا من أبسط الحقوق والواجبات.   
عندما يشعر المواطن في بلده وفي مجتمعه بشكلٍ من أشكال الظلم والاستغلال والإهمال والاستخفاف بحاجاته وفي قتل طموحاته وهو في عزّ شبابه، فإننا لا نتوقع منه فعلَ المعجزات في التضحية بكلّ ما يملك لخاطر عيون الساسة وزعامات السلطة ووجهاء المجتمع من مدنيين ودينيين وسياسيين. والحالة الطبيعية في مثل هذه الظروف أن ينفجر مثل هذا الإنسان غير المستقرّ. ومن الطبيعي أيضًا أن يُقرنَ مثل هذا الانفجار بأفعال صاخبة جنونية غير متزنة وغير رصينة لتكشف عنصر الضحالة والنقص وفقدان التوازن في السلوكيات لديه، متيقنًا بأنّ مثل هذا السلوك الطائش كفيلٌ بإعادة الحقوق والحصول على المرام، أيًا كان شكلُه أو أداتُه. فالشخص الذي أقدمَ على هذه الفعلة المكروهة البشعة لا تستقيم عنده كل دوافع الخير أو الشرّ، طالما لا يتسم عقلُه وفكرُه بتقدير نتائج أفعاله وحصيلتها عليه شخصيًا أو على أهله وبني جلدته ودينه وطائفته. وهذا ممّا حمل حتى أهلَ بيته ومقرّبيه لاستنكار الحالة وإدانته والتبرئة منه ومن فعلته البشعة.
أمّا افي حقيقة الإدانة الدولية، فيكفي ما صرّح به بابا الفاتيكان ناطقًا باسم الإنسانية والمجتمع الدولي والكنيسة الكاثوليكية والمسيحية عمومًا في التعبير عن سخطه الشديد وشجبه لفكرة السماح بهذه الفعلة بحجة الحرية الدينية والفكرية. فالفكرة فوضوية ومرفوضة أصلاً. وطالما أن الكتاب تقدّسه جماعة لذاتها، فهو في عداد المقدَّس وواجب الاحترام من الغير حتى في اختلاف العقيدة والفكر والتأوين والرؤية. وهذه من بديهيات احترام العيش المشترك لأيّ مجتمع يبحث عن البناء والعلاقة الطيبة والحياة الرغيدة والأمن المجتمعي على السواء. ومن ثمّ لا ينبغي استغلال مسألة حرية التعبير تبريرًا للانتقاص من مقدسات الآخر المختلف أو احتقاره، ما يبعث على نشر الكراهية والحقد وحالات من الاستفزاز والعنف التي يمكن أن تقوّض الواقع المعاش في أدنى صوره وأشكاله. لكن في اعتقادي، لن يستطيع مثل هذا الفعل الشنيع الذي أقدمَ عليه هذا الفرد المنعزل بل المعزول مجتمعيًا ودينيًا أن يقوّض واقع التفاعل القائم بين الجماعات الدينية والإتنية في بلادنا بعد حالات الإدانة والشجب التي صدرت من جهات مسيحية محلية ودولية ووطنية وثقافية مختلفة الاتجاهات والفكر. فهذه لا تتجاوز حالات شاذة لمَن يسعى للشهرة والمال في مثل هذه الفعال غير المتزنة. إنّما الحكمة في عقول مَن سعى ويسعى لاحتواء الجنبة وعدم تمدّدها وحصرها داخل عنق الزجاجة وإغلاقها بسدادة محكمة غير قابلة التوسع والاستغلال لصالح جهات مشبوهة ترعى وتستغلّ مثل هذه الحالات الشاذّة في كلّ تفاصيلها.
ويبقى احترام الاختلاف في الدين والمذهب والقومية والفكر والرؤية من حق الجميع واجبَا موجبًا لكونه من اساسات ولَبَنات البناء المرصوص في شكل هذا الاختلاف الذي يُعدّ غنى مهما اختلفَ عليه البشر. أما السلوكيات الملعونة من أمثال هذه وغيرها وكلّ ما يدخل في قائمة الشعبويين وأصحاب الفكر الطائش المريض والمنغلق، فهي خُلقت لتدمير نسيج العقد الاجتماعي في ايّ مجتمع متماسك من دون الوعي بنتائجها السلبية على الفاعل والمفعول معًا. كما تبقى الإساءة لمقدّسات أية جماعة أو فئة من المحرّمات الواجبة سواءً في كتبها أو رموزها أو مواقعها. فهذه حتمًا من أشكال التطرّف المنبوذ والتعصّب المرفوض والانغلاق غير المبرّر في الفكر والقول والفعل.