المحرر موضوع: في الاختلاف والتعصب  (زيارة 335 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 428
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
في الاختلاف والتعصب
« في: 19:13 11/08/2023 »
في الاختلاف والتعصب
لويس إقليمس
بغداد، في 10 حزيران 2023
قد يكون الاختلاف في الرأي والتباين في الرؤى النابعة من تحليل واقعي لشؤون الحياة وإدارة المؤسسات في اية مجموعة أو هيئة أو دولة مظهرًا من مظاهر التطوّر والوقوف على الصالح والجيّد في البناء الإيجابي لأيّ مجتمع أو مجموعة، وترسيخ أسس المؤسسات في كلّ جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والإدارية وغيرها ممّا يتعلّق بشؤون الحياة اليومية للإنسان والبشرية والأمم. وهذا نابعٌ من فكرٍ واعٍ يسعى لشكلٍ رائعٍ من التكامل عبر تجميع وجهات النظر باختلافها لبلوغ الأفضل للصالح العام. ف"الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية"، كما تقول العبارة المعروفة. من هنا، ليس بالضرورة توافق جميع الآراء حول مفهوم معيّن أو مشروع مقترح أو رأي إداري أو فنّي. بل قد يكون من شأن مثل هذا الاختلاف أن يشكّل حافزًا للبحث نحو الأفضل وإيجاد البدائل الممكنة لرسم خارطة طريق صحيحة يُستلهم منها شكل الإدارة الناضجة بعد إيفائها درسًا وتمحيصًا وتقريرًا. وفي كلّ الأحوال ينبغي احترام جميع وجهات النظر، سواءً المتوافقة أو المتقاطعة، من دون أن يقود هذا إلى ما يمكن وصفه بسوء الظنّ أو تحوّله إلى عداء مقيت ليس من ورائه فائدة أو منفعة لجميع الأطراف.
ثمّة سؤالٌ يتبادر إلى الأذهان. هل يمكن يا تُرى، لشكل الاختلاف في الرأي والرؤية أن يقود إلى منحدرات الخلاف والتعصّب والفتنة والعداء لحدّ التهديد والقتل والتشهير والتسقيط، وما قد تحمله هذه السلوكيات السلبية غير المأمونة من معاني التخريب والتدمير والهدم في مجتمع أو مؤسسة دينية أو مدنية؟ في اعتقاد أصحاب الآراء الراجحة وأصحاب الفكر المنفتح، ليس من العدل والإنصاف بلوغ شكل الاختلاف مثل هذه المنحدرات التدميرية للإنسان والمجتمع والمؤسسة والدولة، ومن ثمّ المجتمع الدولي الذي يحوي جميع هذه الفروع الأصلية ضمن أجنحته الاخطبوطية في إيجاد شكلٍ من التوازن في العلاقات الوطنية المحلية أو الدولية، وحث الجميع على تحقيق شكلٍ فاعلٍ من الأخوّة الإنسانية المجبولة بحب الآخر واحترام خياراته، والتي راجت مؤخرًا بُعيد تحقيق لقاءات مسكونية ودولية بين قادة العالم الدينيين والروحيين والعلمانيين من رجال دين وسياسة مختلفين في أصول الثقافة والتمدّن والأصالة، بعيدًا عن كلّ أشكال الأصولية والتعصّب اللتين تُعدّان من الأدوات التدميرية للإنسان والبشرية والأمم.

في الدّين
على الصعيد الديني في المسيحية مثلاً في الكنائس، كلّما ضاقت المؤسسات الدينية والروحية في شكل توجيهاتها وتعاليمها وتفاسيرها للأصول الدينية والأدبيات والطقوس الكنسية وحصرها في زمن الماضي في هذه الطقوس وفي طريقة أدائها من دون مراجعة صحيحة ووافية لاختيار المناسبِ منها للحياة اليومية الواقعية، جاء تأثيرها سلبيًا على سلوك البشر من الأتباع والسامعين والمتعاطفين، وبما ينسحبُ شكل هذا التأثير السلبي على السلوك الروحي المتأمَّل من فوائده المرجوّة أثناء الأداء والممارسة. فمَن يصرُّ على اتباع ذات الطريقة المنقولة حرفيًا في كتب الأقدمين من طقوس وصلوات، بالرغم من اعتقادنا بصلاح طويّة أسلافنا العظام ومقبولية أدائهم حينذاك وفي ذلك الزمن والظرف والعقلية، إلاّ أنّ ذات المنهج القديم في الأداء قد لا ينسجم اليوم مع تطلعات وظروف البشر والأتباع في هذا الزمن الخاضع للعولمة المتغيّرة وسرعة الأداء والتحوّل وتعدد الانشغالات التي يتحكّم بها الوقت وشكل الالتزامات الآنيّة المتغيّرة مع كل ساعة وكلّ يوم. وهذا يكشف لنا بل ويؤكّد أنّ تطور الحياة ومتطلبات الزمن والمكان تستلزم شيئًا من المراجعة وإدخال التأوين في الأداء واختيار الصالح من الأصل كي يأتي مقبولًا ومنسجمًا مع تطور العصر والفكر والزمن والمكان والظرف والوقت، من حيث اقترانها بالفهم والوعي والإدراك لما يمارسه الإنسان المؤمن من طقوس وصلوات. بمعنى، تتحمل الجهات الأمينة على الإيمان والساهرة على الحياة الروحية للأتباع أن تسعى لإدخال أشكالٍ مقبولة ومناسبة للجميع في اختيار وتجديد الطقوس وتأوين القديم منها كي تتلاءمَ مع الظرف والزمن والمكان. وصدقًا قالها بطريرك الكلدان لويس ساكو لمنتقديه المتعصّبين من طالبي العودة إلى القديم في كلّ شيء عندما كتب "إنّي راع وحارس لإيمان الجماعة وتنشئتهم، ولستُ أمينًا للمتحف".
وهكذا مَن يطالب بتعصّب بتعليم لغة الأقدمين السريانية الآيلة للانقراض إلاّ في أدنى صورها واحتياجاتها واستخداماتها الكنسية في المناسبات. ففي الوقت الذي ليس من السهولة بمكان تحقيق مثل هذه الأمنية على نطاق واسع، حرصًا وحفاظًا على لغة الآباء والأجداد، إلاّ أنّ الجهود التي تبذلها جهاتٌ حريصة وناشطة في هذا الزمن الصعب هي موضع تقدير واحترام في ضوء المستلزمات المتيسرة. وهذا يتطلب من القائمين عليها دعمًا وتشجيعًا، ليس من منطلق العنصرية والتعصّب لأجل اللغة حصرًا التي لم تعد تتجاوب مع مقتضيات العصر والحياة اليومية المتجددة، بل من أجل نقلها وفق منهجية علمية للأجيال بهدف التذكير بالموروث الثري الذي كانت عليه في سابق الزمان وما صابها من انحسار وتراجع لصالح اللغة العربية بعد القرن العاشر أو ربما الحادي عشر الميلادي للأسباب والظروف التي يعرفها الجميع. هكذا هي دورة الحياة! حضارات بلغات مختلفة تسود ثمّ تباد وتتراجع لصالح غيرها، ومنها لغتنا السريانية. والحمد لله أنها مازالت تصارع وتجالد الزمن بهمّة الحريصين عليها والإرادة القوية لمحبيها والحارسين عليها بنقل ما يمكن نقله، سواء بسمتها الفصحى أو عبر لهجاتها العديدة من السورث المحكية في القرى والمدن المسيحية، سواءً في العراق أو سوريا أو لبنان وبلدان الاغتراب بعد سلسلة الهجرات المتعاقبة التي ستترك حتمًا آثارَها كارثية بعد جيلين أو ثلاثة. 

في المجتمع المدني
ذات المنطق يمكن أن ينطبقُ على شكل الحياة في المجتمعات المدنية المتراجعة في كبّ شيء، والتي تعاني من تداعيات أصولية وإرث تعصّبي يأبى ترك الماضي القديم في العديد من تداعياته وسلبياته وتأثيراته على مجاميع البشر، في القرية والمدينة وما يمكن أن تنسحبَ هذه جميعًا على البلد والشعب والأمّة. فالمتعصّب يرفض التغيير في الموقف والرأي والرؤية من منطلق الغيرة المفرطة والالتزام السلبي بمعايير قديمة لا تلبّي طموحات المجتمعات التي تنوي التجدّد والتطوّر مع الزمن وصولاً لحياة آمنة ومرفهة وهادئة في أحضان دولة مدنية متقدمة. فالأفكار المتعصبة عمومًا والتمسّك بأهداب الماضي بكل سليياته التي لم تعد صالحة ليومنا هذا، حتى لو كان هذا الماضي صالحًا لوقته وزمانه وأهله، فإنه اليوم بحاجة إلى تطوير ومراجعة وتغيير كي ينسجمَ مع طموحات الأجيال الجديدة من البشرية التي تبحث عن الأفضل لحياتها التي تعقدت وتطورت وضاقت الأرض بالجميع وبأزمات العالم التي لا تنتهي.
 من هنا، ليس من المعقول أن تسود الأحكام العشائرية في بعض الدول ومنها العراق بصورة خاصّة، في زمن بلغ فيه تطوّر بعض شعوب الأرض ما لا يستطيع تصديقَه عقلُ الإنسان الاعتيادي المتمسّك بجلابيب الماضي المتخلّف الذي لم يستطع أو بالأحرى لا يقبل بمواكبة الحياة المعاصرة بفكرها وسلوكها وشؤونها اليومية السلبية المعطِّلة لعجلة التطور والإنتاج واقتصارها على فرض قوانينها الاجتماعية وأعرافها المتخلّفة ناصبةً نفسها بديلة عن القانون والدستور ومؤسسات هذه الأخيرة الرسمية بحيث اتجهت لخلق مؤسسات موازية ومهدِّدة للدولة في الكثير من سلوكياتها وكأنها الحاكمة بأمر رب العالمين. وقد تستعين العشائر لغرض فرض سطوتها وتمرير قوانينها بدعمٍ من جهات متنفذة في الدولة أو من جانب أحزاب السلطة وشخوصها فارضةً هيبتها وقرارَها بقوة السلاح والتهديد والتشهير خوفًا على مصالحها ومكاسبها وما جنته من شكل هذه السلوكيات السلبية في مسيرة حياتها بسبب المنفعة المادية والحسيّة والعائلية التي أصبحت شكلاً من أشكال التجارة في الحكم وتقاضي المكاسب بل والتباهي بالمبالغ الخيالية الجزائية وإنزال الأحكام والغرامات والتعويضات التي شاعت باسم صفة "الفصل العشائري" سيّء الصيت. وهذا بحدّ ذاته شكلٌ من أشكال التعصّب السلبي في تطرّفه وأدائه وطريقة تعامله في المجتمع، ما ينبغي رفضُه رفضًا قاطعًا بسبب استفحاله في الفترة الأخيرة في مجتمعنا واتخاذه مناحي سلبية عبر رفض تدخل قنوات الدولة الرسمية وأجهزتها التنفيذية في الحدّ من سلوكيات العشائر غير المقبولة بل الخارجة عن القانون. وربما حصل هذا ومازال يحصل غيرُه كثيرٌ في الكواليس بسبب ضعف الدولة وأدواتها القضائية وأذرعها التنفيذية وصبغة التواطؤ في الأجهزة مع أصحاب الفصل أحيانًا لتغيّر الأسباب والعوائد. وبالرغم من سعي أجهزة الدولة الأمنية المتعددة ووزارة الداخلية للحدّ من هذه الظاهرة الخطيرة، إلاّ أنّ البلاد تشهد يوميًا حالات متجددة من فرض الأتاوات أو ما يُسمّى بالفصل العشائري الذي يؤدّي إلى مزيدٍ من التقاتل بين أبناء العشائر لأتفه الأمور أحيانًا، أمام أنظار الأجهزة الحكومية. وفي كلّ الأحوال، ليس للمعترض أو المخالف مكانٌ وقيمةٌ في المجتمع العشائري عندما يرفض الخضوع لقوانين العشيرة وقراراتها المجحفة في الكثير منها.

في عالم السياسة
في عالم السياسة أيضًا، تحتل المواقف السياسية العقائدية أي تلك المرتبطة بأيديولوجية عقيمة متخلفة جامدة لا تقبل التطويع والتعامل مع مستجدات الحاضر، دورًا هامًّا في تعقيد المشهد السياسي برفض هذه الفئات العقائدية بالتعامل المرن التوافقي مع الشركاء إلاّ وفق أجندتها ومصالحها ورؤية صاحبها. وهذا شكلٌ آخر من أنواع الترهيب وفرض الرأي بقوة العقيدة التي تستقي قوتها وثباتَها السلبي من أصول عقائدية جامدة ترفض التغيير الإيجابي في سلوكها وتعاطيها مع الشركاء في الوطن. وفي الكثير من الأحيان يستخدم رموزُ هذه السياسة للسمة العاطفية في تحشيد الأتباع والتحريض ضدّ المعترضين لأفكارها وطريقة أدائها السياسي بعيدًا عن الإجماع العام الذي ينبغي أن يكون سيّدَ الموقف عبر تنازلات متبادلة وتفاهمات تكتنفها الصراحة وقبول الفكر المختلف وصولاً لحلولٍ وسطية مقبولة من جميع الأطراف. فلا يكفي فرض النظريات والتوصيات والفرضيات التي تزيد من حالة الجمود الفكري وتخلق شبكات بل مجتمعات منغلقة تأبى التفاوض والتفاهم والحلول الوسطية لبناء مجتمع آمن ومستقرّ ومرفّه في آنٍ معًا. وهذا ما نحتاجُه في عراقنا، ليس بفرض جهة معينة لأفكارها وتصوّراتها على الساحة السياسية المضطربة، بل بقبول تصورات وافكار الشركاء وأصحاب الفكر والعلم والثقافة، وحتى قبول أفكار عامة الشعب الذي يمثل القاعدة الأصيلة المرشحة الداعمة لأية مجموعة سياسية في أي زمان ومكان.
من هنا، لا بدّ لأصحاب النظريات العقائدية أن تتفاعل مع شركاء الوطن والمجاميع المجتمعية المختلفة في قومياتها وأديانها ومذاهبها وطوائفها وأحزابها وتعدّد ثقافاتها وإرثها الديني والحضاري، إنْ هي أرادت النجاح في مساعيها للحكم الرشيد الذي ينبغي سلوكُه من الأطراف الجادّة في خدمة المجتمع والشعب والأمة والدولة. وهذه من أبسط المبادئ في الحكم الرشيد عبر تطويع النظريات والأفكار والفرضيات لخدمة المجتمعات والأمم كبحًا لجماح الأفكار المتعصبة التي تسكن عقول بعض الزعامات وأفكارهم ورؤيتهم في نمط الحياة. هكذا تكون النتائج الكارثية لآفة الصراع المتجدّد في البشرية عمومًا عندما يكون المتسبب فيها هو التعصّب العقائدي الأعمى والتطرّف في الفكر والانتماء والتعامل اليومي. ولا شيء غير العمل الصالح وبما يرضي الله والإنسانية، إلى جانب الثقافة الإيجابية وتلقّي التعليم والتربية الصحيحين بديلاً للسلوك الهوجائي غير المتمدّن وغير المتحصّن بالتحضّر في كلّ شيء، في المأكل والملبس والتداول والتفاهم واحترام الآخر المختلف والسلوك اليومي وفق مفهوم إنساني ومن منطلق تساوي جميع البشر في الخلقة وفي الحقوق والواجبات من دون تمييز.