المحرر موضوع: رقصة الموت  (زيارة 275 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كريم إينا

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1311
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رقصة الموت
« في: 00:13 14/10/2023 »
قصة قصيرة
رقصة الموت
كريم إينا
لا يعرف ماذا يفعل بأمواله الكثيرة، فكّر بمشروع تجاري، أن يشتري قطعة أرض زراعية تسقى مطراً، إنشغل بالتفكير عدّة مرات ماذا يفعل بها؟. وأخيراً خطرت في باله فكرة جهنمية ببناء قاعة للحفلات فيها، ظلّ يراجع دوائر الدولة لغرض الحصول على الموافقات الرسمية لإنشاء القاعة، إعترضتهُ عدّة صعوبات من قبل مدراء الدوائر بعدم الموافقة، لكنّهُ لم يستسلم أو يضعُ لها حساباً في نفسه، بل قرر رشوة موظفي الدوائر بأموال خيالية من أجل الحصول على الموافقة، وبعد صراع طويل بينهُ وبعض الشخصيات الإدارية لتلك الدوائر، إستطاع على إستحصال الموافقة بإنشاء قاعة فيها، كانت من معدن الألمنيوم والبلاستك، تكنى بـ ( صاندويج بنل) السريعة للإستعال، ونتيجة لرخصها في السوق عمد البناء بها بسرعة بأقلّ كلفة، كانت القاعة قريبة من أعمدة الضغط العالي، ممّا يشكّلُ خطراً على المارة والساكنين في تلك المنطقة، رغم جشعه المستمر ظلّ مصرّاً لبنائها بهذا المعدن الشديد الحساسية للحرارة، وضع لها تصميم خرافي يخلو من أبواب طوارىء، إضافة إلى إنعدام نظام رش المياه ببخاخات من السقف عند حدوث الحريق، بل رصّع سقف قاعته بورود من البلاستك والقش الصناعي إضافة إلى قماش من النايلون والستن المبخوخ بسبري مثبت سريع الإشتعال، مرّت سنين طوال وهو على هذه الحالة يجني من القاعة أموال طائلة، وفي يوم من الأيام، أتى ختن وعروسهُ إلى القاعة، ينويان إقامة حفلة زفافهم فيها بعد إتمام مراسيم الزواج في الكنيسة، فرض عليهم صاحب القاعة إيجاراً بمبلغ أربع عشرة ورقة، أمّا الطعام والتصوير والكوشة بسعر آخر يقع على عاتق العريس، بدأت الحفلة يوم الثلاثاء 26 / 9 / 2023، حضر إلى القاعة أكثر من ألف شخص من المدعوين، من الرجال والنساء والأطفال إضافة إلى بعض من كبار السن، غمر جو المدعوين فرصة ترفيهية للرقص والفرحة، أمامهم ما لذّ وطاب، عندما دقّت الساعة الحادية عشر ليلاً تم إشعال الشعالات بواسطة جهاز كهربائي لا يؤذّي أحد، رغم أنّ والد العريس أصرّ وبلّغ صاحب القاعة بعدم إشعال الشعالات داخل الحفلة خوفاً من إحتراق فستان العروسة، ومن الصدف في تلك الأثناء لم تكن هناك طائرة مسيّرة تصور فوق الجميع كدليل دامغ لذلك، صعدت إحدى الشعالات إلى سقف القاعة كالبرق، بعد برهة من الزمن لامست الورود المعلقة في دائرة السقف، مجرّد ثواني بدأت الأضواء تقدح، والنيران تلتهم السقف، كان العرسان منشغلين برقصة السلو، نظرا إلى الأعلى شاهدوا تناثر قطع من النيران على رؤوس الموجودين في الحفلة، ظنّ المدعوين بأنّها فيكة العصر فلم يعيروا لها أهمية، وفجأة إعترى الإحتراق ترشّح ونزول موجة من الدخان الأصفر الذي نشر الرعب بين صفوف المدعوين، إجتاحت النيران مساحة واسعة من القاعة ما أدّى إلى نفاذ الأوكسجين، بدأ الغثيان يلمس المدعوين، خرج عدد كبير من الناس إلى الخارج بواسطة الباب الضيق، ثمّة باب آخر عن طريق المطبخ لا يعلم به أحد فقط عمال القاعة، بعد هنيهة أبلغ أحدهم صاحب القاعة بوجود حريق في الحفلة، قدمت أرجله قبل يديه بإطفاء كهرباء القاعة، ساد الصمت داخل القاعة وحلكة قاتلة وفزع كبير بين صفوف المارة، ممّا جعلهم واحداً يصعدُ على ظهر الآخر، وسط ذلك اللغط الكبير، كان الأطفال الضحية الأكبر عند تمرّغها تحت الأرجل، إستطاع أحدهم النجاة والخروج من نافذة القاعة بعد كسرها، وهو يرتجفُ مذعوراً مسك الموبايل خابر قسم الدفاع المدني، بعد ثلث ساعة وصلت الإطفائية وهي مزودة بنصف تانكر من الماء فقط، المسافة التي وقفت فيها الإطفائية كانت بعيدة كلّ البعد عن القاعة، ممّا حال وصول ضخ خرطوم الماء على كلّ الجهات داخل القاعة، صراخاتٌ وأنينْ وأصواتٌ تنبىءُ برقصة الموت، بين فينة وأخرى إزداد لهيب النار وسط المدعوين، حضرت القوات الأمنية والشرطة لإسعاف الضحايا من حالات الإغماء التي إنتشرت بينهم، رغم تلوث الجو بالدخان كان هناك شاب شجاع بعقده الثالث وجد فتحة في الحمامات قام بتوسيعها، إستطاع من خلالها أن ينقذ ثلاثون شخصاً خارج القاعة، ولكنّهُ في نهاية المطاف أغمي عليه سقط داخل القاعة وأحترق هكذا تكونُ التضحية عندما يشعرُ المرء بنكران الذات، عائلة معزومة إلى العرس، أبقت أطفالها لأوّل مرّة في البيت دون الندم عليهم، وكأنّهم كانوا يعرفون بما سيحدثْ، وأخرى عُزمت لكن إنشغالها بمرض أحدهم ذهبوا إلى أربيل ولم يحضروا العرس، إضطر إبنهم الأكبر الذهاب إلى الحفلة لإعطاء ظرف الصبحية للعريس والخروج من القاعة فحالفهم الحظ بالنجاة، عندما خيّمت ظلال الظلمة لمدّة نصف ساعة، توقفت أجهزة التبريد عن العمل لإحتراقها بالكامل، الكل يخفق من العذاب داخل القاعة، أمّا خلف القاعة يوجد خزان للمياه الثقيلة مفتوح، ونتيجة دخان الظلام الذي خيّم على القاعة، خرج رجلٌ مسن من القاعة والدوار برأسه، لا يرى شيء وجد نفسهُ واقعاً في خزان الصرف الصحي، صاح بدهشة، صدفة توجّسهُ شاب فأخرجهُ بصعوبة، كالعادة تكوّمت عدّة جثث في نفس المكان لا يعلم بها أحد، أخرجوا بعد ذلك في اليوم الثاني، والنظرات تلجّ في تلك الأعين، كان شبح الموت يحومُ فوق رؤوس الضحايا، كانت كلمات المحترقين تتدحرج كالجمرات المشتعلة يلفظها بركان غاضب، الكل لم يحتمل النار المشتعلة في عروقهم، إزداد عدد المفقودين والموتى إلى مائة وخمسون شخص، الكل يركض رجالاً ونساء، شباباً وأطفال للنجاة بأنفسهم، قبل الذهاب إلى الحفلة أوصى الأب إبنهُ وقال: لهُ بني عندما تكون في الحفلة وتشعرُ بوجود هزّة أرضية أو حريق إهرب إلى الخارج، فعلاً عمل الإبن بما قال: لهُ والدهُ، رغم ذلك سقطت شعلة صغيرة من النار على رقبته ظلّ يقفز هنا وهناك إلى أن تخلّص منها ثمّ نفذ بجلده إلى الخارج، أمّ تبحثُ عن طفلها لا تراهُ، الأب يذهب إلى مشفى أربيل ومشفى السلام بنينوى للبحث عنهُ لكن دون أثر، ثمّة صوت من بعيد يردّد ويقولُ: فحواهُ بابا.. بابا.. يلتفت الأب إلى الخلف فيرى إبنهُ المحروق بلون أسود لم يتعرّفُ عليه بأمّ عينه، قد شاءت الصدف في تلك الأثناء حضنهُ وقال: لهُ أنا آسف يا بني لما عانيت من ويلات الفاجعة، سوف لن أتركك بعد الآن وحيداً، أرسلت الحكومة المحروقين بدرجة 80 بالمئة إلى تركيا لإنقاذهم حسب قرار الأطباء العراقيين، أمّا البعض الآخر تم إرسالهم إلى مشفى دهوك ومشفى الجمهوري في الموصل، وسط الظلمة الحالكة والضجيج الصاخب، كان صاحب القاعة مشوّش يشربُ الكحول في غرفة الإدارة، يضربُ الأخماس بالأسداس، مرّت ساعة على هذا المنوال والمعازيم دون عشاء بل أصبحوا عشاءاً فاخراً لتلك النار الملتهبة، في صباح اليوم الثاني دفنت الكنيسة عدد كبير من الضحايا الذين سقطوا داخل القاعة في مقبرة بغديدا، كان الصراخ مزدحم، وأنين المتألمين يأتي ثمّ يبتعد، خرج عامر مع زوجته من باب القاعة الكبير بعد كسره من قبل بعض الشبان، قالت: لهُ زوجته أين إبنك وإبنتك؟!... في تلك اللحظة هرع عامر مسرعاً داخل القاعة للبحث عنهما، وفي تلك الأثناء دخلت زوجته وراءهُ داخل القاعة، خرج عامر فرحاً بإنقاذ أولاده، ولكن زوجته لم يراها البتّه، قرّر دخول القاعة مرّة أخرى للبحث عنها وأوصى أولاده بالبقاء خارج القاعة، وفي تلك الأثناء سقطت قطعة ثقيلة من الحديد الساخن على رأس عامر فقد الوعي وألسنة النار ظلّت تلتهمُ به لحدّ التفحم، إمرأة مزيونة بشال بغديدا المزركش الجميل إختفت، كادت النيرات تلتهم الزجاج والعظام والحديد، لم يسلم منها شيء، وصلت درجة الحرارة داخل القاعة  إلى 800 درجة فهرنهايتية، كأنّ القاعة ضربت بقنبلة هيدروجينية، طفق وميض إبنها البكر يبحثُ عنها هنا وهناك، وهو يصرخ ويبكي ماما.. ماما..، لمح من تحت الأنقاض قطعة صغيرة باقية من شال والدته التراثي، ظلّ يبكي عليها بألم، أصبح الفساد في تلك اللحظة حاضنة لكل كارثة، والضحايا أصبحوا كبش فداء، كان هناك تسويف لقضية الفساد وأنفاس الضحايا ظلّت تحتقن، لقد طال صبر الجميع رغم لفح الهواء الحار وجوههم، فأخذت ثورتهم تموت، بينما مالك القاعة فراح يتمخطر ويستأنفُ التطلّع إلى واجهات القاعة بكامراته الأربع التي تشعّ نيراناً، تكادُ تقلبُ سواد الليل نهاراً ساطعاً يبهرُ العيون، عزم على أن يبقى في غرفة الإدارة للتحكم بالكامرات والأضوية، بعد معرفته بوجود تماس كهربائي قد أخلّ في أجهزة التبريد فبدأت تطلقُ غازها المسموم، نهض مسرعاً صعد على عدّة كراسي ليصل ويأخذ جهاز الهارد من الكومبيوتر، قام بعدها بمسح مقاطع الفيديو لإزالة الشبهة عنهُ، وبدم بارد خرج من نافذة الشباك كاللص وترك باب غرفة الإدارة مغلق، في لحظة نشوب الحريق كان هناك شاب يرفع أصابع يدهُ اليمنى واليسرى مشيراً بعلامة النصر، تلك الحركة الرمزية ممّا أثارت شكوك وغضب المراقبين في شبكة سوشيل ميديا، وبدا التساؤل فيما بينهم ربّما قد تكونُ حادثة الحريق مكيدة مدبّرة بفعل فاعل، شابٌ لا يقوى على فتح عينيه، سار وسط المدعوين وشُعل النار تسقطُ عليهم، عند قطع التيار الكهربائي صاحبها دخان أصفر، ما أزاد في الطين بلّة، في تلك الأثناء كانت إمرأة واقفة خارج القاعة، رأت صاحب القاعة يخرج من غرفته يدورُ حول نفسه، ثمّ يصحو ليهربُ بسيارته إلى محافظة أربيل، بعد التبليغ عنهُ مجرد بضع ساعات تم القبض عليه متلبساً بالجريمة في مدينة عينكاوا، أثناء الحفل الكل كانوا يرقصون وفرحين، وفي لحظة خاطفة بدأت رغوة النيران تتساقطُ على الأطفال والرجال والنساء دون رحمة، الكل يركض صوب النور، أصبح جسد البعض جسراً لعبورالآخرين، جرى للبعض حالات إختناق والموت البطيء، بدأ رجال الإطفاء والشرطة بإخلاء الموتى والجرحى، إعترت الفاجعة فزعة وطنية من لدن رجال الأقضية والنواحي المتاخمة لبغديدا، وهنا إسدل الستار بالهتاف بالتصفيق لتلك الجريمة، أصبحت ألوان الطيف مسلّطة على مسرح الجريمة كلّما وقعت عليها الأضواء، بعد ثواني معدودات، أصبحت الأجسام تتمايل، والعيون تخاطب العيون والأذرع المقطوعة مع اللحن تتحرك، والحزن يمورُ في جوفهم والأرواح تسبحُ في عالم مسحور، مرّت لحظات كلّها قلق بين الختن وعروسه، كادت حلبة الرقص خالية، ليست وهماً، إنّها حقيقة، وما أبشع الدنيا لو خلت منها، كأنّ المدعوين يعيشون في غابة وبين الأدغال يظهر فيلم الأكشن بينهم، القوي يلتهم الضعيف، هناك سكتت أمّ طفل لترخي دموعها وهي ترقصُ رقصتها الأخيرة بموت فلذّة كبدها، فراحت تبكي وتزفر وتندبُ حظّها العاثر، وا أسفاه... على زوجها الذي مات بلحظة، وهي صامتة بشحوبها ونسمة الموت الباردة التي خطفت زوجها، فأطفأتْ حياتها إلى الأبد!. كانت ضائقة الحياة ثقيلة على عيشها، طفلها وزوجها كأنّهما في نضارتها زهرتان يافعتان، وفي لحظة من اللحظات كادت تستعيدُ كلماتها بقولها: أيُّ خطيئة إرتكبنا كي يسخرُ منّا القدر، ما زالت تردّدُ مقولتها: مات ذلك الذي كان يروي ظمئي، ويشبع أطفالي، وترك الحرمان يلسعُ في ...!، لعلّ البلاء إزداد عنفاً وسط الأطفال، تلك النفوس التي أزهقت بلمحة بصر، كانت أعين الزمن الغادر تحلمُ بالخديعة وتُغيّبُ عن أنظارها أسى الضحايا، كادت الفاجعة واضحة بشكل فظيع تكتبُ على قصاصة من ورق، تعلنُ فرارها عن مسرح الجريمة، كانت الضحايا تُساقُ إلى المذابح والهياكل لتعيش في الظلام، أصبح الطفل لافان وحيداً وسط كتلة النار، يخفقُ قلبهُ في خيال مضطرب، أصبحت الساعات التي إبتعد بها عن عائلته غير داخلة في حساب العمر!. بدت عيناهُ مفتوحة نحو الأفق البعيد، لكنّ شعلة النار جعلتهُ مشغول البال ولاهياً عن الدنيا المتحركة بين أربعة جدران..، ومنذُ ذلك اليوم يقولُ: والدهُ آهِ يا ولدي الصغير... أين أنت الآن؟!... أنظرْ والدك كيف إنقلبت عيشتهُ دونك، لم أتحرك من مكاني، ما زلتُ أنتظر قدومك يا ولدي العزيز، أحسّ بخدر في عروقي، وألعابك إستحالتْ بشكل لا يطاق...، سيلٌ من الصور والأحداث تمرّ أمامي بسرعة كشريط سينمائي، آهِ يا قاعة الهيثم، متى ستعلن طبول الحق، كي يتمزّق صمت الليل، متى يسقطُ الجلاوزة من فعلتهم الشنيعة؟!... ربّما صدفة القدر ستتعرّفُ على الجناة، وهناك يكونُ البكاء وصريرُ الأسنان. لا بدّ أن يبقى من الفجر ساعة، ويكونُ الفراقُ قدراً ومصيراً لتلك الضحايا، أحياناً لحظات الصحو توحشُ في عالم الإغتراب، ما بين الإغفاءة المخادعة، واليقظة الموجعة، ينفجرُ صوت الحقيقة، حين ذاك سيعلو السوط وينخفض بشدّة على ظهور الظالمين.