المحرر موضوع: لورد ... مدينة القيامة والحياة  (زيارة 316 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل المونسـنيور بيوس قاشا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 242
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
  لورد ...
مدينة القيامة والحياة

المونسنيور د. بيوس قاشا
كنتُ قبل أيام برفقة أحد الشمامسة في موعد مع القديسة مريم في لورد بفرنسا. هذه المدينة الجميلة، مدينة الألم والفرح، ترقد في جبال البيرينيه، في موعد للصـــــــلاة
والشكر وطلب الشفاء، للصلاة من أجل المرضى والمتألمين والحزانى، من أجل بلدي وبلدتي بخديدا، من أجل رسالتي، من أجل السلام والأمان في العالم أجمع. كوني أحد طلاب مدرسة القديسة مريم فأنا مهما أنتجتُ من خيرات، ومهما فعلتُ في مسيرة الحياة، ومهما قدّمتُ عند أقدام العذراء لإكرامها ولطلب شفاعتها، لا أوفيها حقها أبداً بل سأبقى مديناً لها.
فلورد، تلك المدينة، كما يسمّونها مدينة الألم، إنما حقيقة ليست إلا مدينة القيامة والحياة. فكل مَن يقصدها يصرخ " يا مريم، يا أمّ يسوع، أطلبي من أجلي، اشفعي لي، ليستجاب طلبي" فكل زائر يفتش عن الشافي الذي من السماء، فهو كالأبرص (لو1:5-11) والأعمى (يو1:9-41) وكطيما ابن طيما الأعمى (مر46:10-52).
إيماناً مني بهذا كله، قصدتُ مرة أخرى هذه المدينة هذا العام (2023)، لورد، كي أبقى وفياً لها كما كنتُ أميناً في مسيرة الحياة، أميناً للسماء التي أحبّتني ولربّها الذي دعاني أن أكون خادماً مثله وله. فلقد اكتملت فرحتي يوم أقمتُ الذبيحة الإلهية في مغارة الظهورات، وفي اليوم التالي في الكنيسة العليا لبازيليكيها الجميلة.
نعم، إنها رسالة حج فقد اغتسلتُ بماء عينها كما اغتسلتُ فيها يوم كنتُ طالباً في مصر الفراعنة عام 1977. من هناك، وتلبية لنداءٍ داخلي أردتُ أن أكتب كلمات قليلة عن إبنها المسيح يسوع، الوسيط الوحيد والراعي الأمين، وعن شفاعتها ومكانتها. فأرجو منك أيها القارئ العزيز أن تتقبّل كلماتي المتواضعة، وأن تكون مسامحاً لي ربما لأخطائي، فما أنا أمامكم وبينكم إلا خادماً وخادماً أميناً (لو26:22) وإن قالوا ونشروا ما شاءوا يوماً ما لغايات ومصالح عديدة... فإليك ذلك.
في هذا العالم غالباً ما نشعر وكأننا في غابة دون شريعة، وبأن الأبواب مغلقة في وجوهنا، فنقف يائسين وبلا رجاء أمام الظلم الذي يطالنا ويطال العديدين وربما المسلّط على رقابنا كما تسيطر علينا الآلام والمرض وعبودية الخطيئة والموت، فنصرخ "إلى متى يا رب؟ أين أنتَ يا إلهي؟ أين أنتِ يا مريم القديسة؟" وإذا رفعنا رؤوسنا يأتينا الجواب من الإنجيل المقدس "إن خلاصكم قد دنا" (لو28:21) فارفعوا رؤوسكم فأنا واقف على الباب أقرع (رؤ20:3) وما ذلك إلا دعوة لنا لكي نكون كخراف بين ذئاب. ومن هنا ندرك أن الخليقة دون الله ضعيفة، والإنسان أضعف من أن يخلّص نفسه، إذ يسعى الجميع اليوم لأن يخدمهم الجميع، ولكن الحقيقة تدعونا إلى أن نسجّل وجودنا في مدرسة يسوع كي نكون أبناءً لمريم القديسة. فَعِلْمُ يسوع سهل ومجاني، ويكفي أن نعطي قلوبنا له وبذلك قد نصنع العجائب. فالحياة هنا مدرسة، نحيا فيها لنتعلم كيف نموت، نتعلم الموت في ذاتنا مرة وفي مَن نحبه أكثر من ذواتنا مراراً على مثال المسيح يسوع الذي أحبّنا فهو لنا طريق الحياة. فما نحتاجه ليس إلا كلمة صغيرة قالتها القديسة مريم يوماً ولا زالت تعلّمنا إيّاها كل يوم بل في كل ساعة "نعم، هاءنذا أَمَةُ الرب" (لو38:1) وهذا يعني الثقة الكاملة بإرادة الرب المُحب، إنها ثقة عمياء إلى النهاية.
لقد أحبّ ربنا يسوع حياته فتجرّد عنها في هذا العالم وحفظها للحياة الأبدية. فإن محبة الله لا ترى إلا الإنسان، ولا تهدف إلا إلى خلاصه، وهذه هي المحبة الحقيقية التي يمثّلها الصليب. فالله لم يحب الإنسان لأنه ذكي أو غني أو صاحب مركز أو سلطة أو... أو.... فالله أحبّ الإنسان لضعفاته وسقطاته، أحبه لأنه يعرف أن الإنسان في حاجة إلى هذه المحبة ليخلص، لأن المحبة وحدها هي القادرة على تخطّي الضعف والسقوط، وصليب المسيح وحده أنقذ الخليقة وانتصر على الموت. فلا طريق سوى طريق الصليب والتي فيها ستصل الخليقة إلى الخلاص... إنه طريق الحب. فقد بكى لبكائنا وجُرح لأجل معاصينا (إش5:53) وصار غريباً كي يصبح كل غريب قريب كل منا، وارتضى بأن يصبح من عائلتنا البشرية ليأخذنا جميعاً إلى مجده فنستسلم له بأن نكون معه. فَمَن يريد – تقول لنا أمّنا مريم في لورد – أن يجد ذاته عليه أن يعمل على إهلاكها. فالإنجيل، كلمة الله، لا يعدنا أبداً بإمحاء الألم من حياتنا على هذه الفانية لأن حياتنا ما هي إلا في طريق الإيمان وإيمان يومي، وكلمته نور لخطاياي (مز105:119)
فالمحبة هي أن تكون أخاً لكل واحد بقربك وأنتَ مسؤول عنه، ولا تستطيع ايها الإنسان أن تقول كما قال قائين "لستُ حارساً لأخي" (تك8:4) فطريق الرب تمر بالإنسان المحتاج كما ارتبط يسوع بمصير المساكين والصغار والفقراء، وعطاؤه كان من أجل الإنسان وعلى كل المستويات وبحسب إرادة السماء وليس بعطاء الكلام والذي لا يكلّف شيئاً. فشريعة الرب تعلّمنا ماذا علينا أن نختار، وتعلّمنا أنه قد اعتمدنا باسم المسيح يسوع لا باسم أحد من البشر. عظيم هو هذا السر، فالله أراد أن يختفي وجهه وراء كل وجه ويمرّ بنا يومياً دون أن يراه مَن ينتظر مروره ودون أن يعرفه مَن يتلقّى منه العطايا. فالله معنا وبيننا ولكن بعضنا لا يعرفه، فهو لا ينتظر منا شيئاً إلا أن نبادله المحبة بالمحبة كلما نلتقيه. فحين نمتلك مالاً فهذا المال ليس مُلكُنا ولكن الله أعارنا إياه لكي نوزعه حولنا للذين هم في حاجة، للقريب والغريب، للفقير والمسكين، لليتيم والأرملة. فأمر لا يُصدق أن يكون الله جائعاً أو متألماً أو مظلوماً أو مسجوناً، وهو الأمر الذي فاجأ الأبرار كما فاجأ الأشرار لكنه أمل حقيقي، فإلهنا هو مَن ارتبط بخليقته حتى اتّحد بكل واحد. فيسوع مات ظلماً ولكنه افتدانا، ومات القديسون والشهداء ظلماً ولكنهم قدّسوا العالم. فالدعوة لنا هو أن نتمسك بما هو حق، ولننتبه كي لا يضلّنا أحد، وما أكثر المضلّين في عالم اليوم.
كما أن دعوتنا تطلب منا أن لا نترك مكاناً للبغض، للحقد تجاه القريب ولا تجاه البعيد، ولا تترك مجالاً للانتقام وأخذ الثأر، ففي الانتقام يغلبنا الشر، وفي المسالمة نغلب الشر بالخير فنربح الآخر ولا نخسره. لذا لننتبه فإن مملكتنا ليست من المال والسلطة وتلبية الرغبات والكراهية كما نريد أو كما نظن ذلك، فالرب يؤكد لنا أن مملكتنا هي في داخلنا، وهو يرغب في أن يكلّمنا، وهل عنده ما يقوله لنا؟ وهل من جديد يقوله؟ فإنه فقط يريد أن يذكرنا.
- فهو يرغب دوماً في قول كلمة الحياة، حيث لا حياة، فقد قال "أنا الحياة".
- هو في قلب الظلم، وعنده ما يقوله في الحقيقة، فقد قال "أنا الطريق والحق والحياة".
- في قلب الأنانية، عنده ما يقوله في المحبة، "أحبوا بعضكم بعضاً".
- في قلب الكبرياء، عنده ما يقوله في التواضع والخدمة، "أنا بينكم كالخادم، وديع ومتواضع".
- في قلب الحقد، عنده ما يقوله في الغفران والمحبة، "أترك قربانك على المذبح...".
- في قلب الشكّ، عنده ما يقوله في الإيمان والثقة، "مَن آمن بي وإن مات فسيحيا".
- في قلب الضعف، عنده ما يقوله في التسليم له، "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين...".
- في قلب الفقر، عنده ما يقوله في العناية الإلهية، "أبوكم السماوي يعرف ما تحتاجون إليه".
- في قلب الموت، عنده ما يقوله في القيامة والانتظار، "أنا القيامة".
إنها أقوال في صميم الحياة، فهو يدعونا فيها إلى الجرأة، وهو ينتظر جوابنا، وقد ارسل لنا أمّنا القديسة مريم لتعلّمنا ما قالته يوماً للملاك "ليكن لي حسب قولكَ يا رب" (لو38:1). إنها الرسول الأمين للبشر أجمعين، فهي تدعونا جميعاً إلى زيارتها فهي تنتظرنا في المغارة، في جبال البيرينيه، لتقودنا إلى الطريق الحقيقي في المسيح يسوع. فهي لنا شبه قناة الرحمة وينبوع الخيرات، والنصوص الليتورجية مليئة بالألقاب التي أُغدقت على أمّنا القديسة وفاءً من الكنيسة، فهي ألقاب كتابية وأخرى كنسية وأخرى ليتورجية كما هي دروس اجتماعية لمسيرة العائلة. فهي من خلال طاعتها واستسلامها لمشيئة الرب عاشت حياتها في الخفاء مما حدا بالرب يسوع أن يرفعها بالمجد، كما قضت مسيرتها الأرضية متمّمة مسؤولياتها اليومية فنالت الطوبى من كل البشر (لو48:1) كما دعاها رب السماء "أمّ الله". فالكنيسة تقدم لنا أمّاً عاشت برنامجاً خاصاً لحياتها، وهي تدعونا أبناءها للعيش على مثالها كما طلب ابنها في عيش المحبة الصادقة والأخوية، والمحبة العملية الخادمة للرب والبشر "هاءنذا أمة الرب" (لو38:1). ففي ذلك هي لنا مثال في جوابها، فقد استنارت بنور الله فأنارت الدنيا والبشرية، فهي تدلّني على المسيح يسوع وعلى عطائه اللامحدود، وهي تعلّمني كيف أسمع كلمة الله بكل تواضع ووداعة، وعلى الطفل أن يكون مثل أمّه وبذلك يترجم الإنسان حياته محبة وخدمة وصلاة، ويحمل تواضعاً ووداعةً وسلاماً... إنها في لورد تنتظرنا لتدلّنا على يسوع.
ختاماً أقولها: ما أحوجنا اليوم إلى مَن يقدم القليل مما يملك مع الكثير من المحبة والإيمان، فالرب يسوع الذي دعانا مع القديسة مريم إلى زيارة لورد لا ينتظر إنجازاتنا بل ينتظر منا قلباً منفتحاً يختار النصيب الأفضل الذي لا يُنزع. فمن خلال القديسة مريم نلتقي مع يسوع المسيح الحاضر من أجل تنمية الإيمان. ويطيب لي أن أجعل من مريم القديسة صحن مائدتي الأساسي لكي ألتقي بها وتقودني بدورها إلى يسوع، الوسيط الوحيد، لأجدّد الثقة برسالته التي أوكلها إليّ. فسرّ مريم القديسة يذكّرنا بأن مسؤولياتها اليومية هي طريق ارتفاعنا نحو الله، ومعها نطلب نعمته لنحيا سرّ فرحه في العالم، فيكون هو المخلّص في محيطنا. كما نطلب منه الشجاعة لنكون على مثال أمّنا القديسة مريم في أحزاننا والآلام التي كانت سمة لها، سمة القيامة والصليب لأنها أحبّت كثيراً وبكل كيانها. أحبّت الإله الذي برّأها، وأحبّت الناس كنفسها، فأحبّوها وأتوا إلى زيارتها في هذه المدينة، مدينة الألم بل مدينة القيامة والحياة.
لذلك علينا أن ننتبه إلى إيماننا كي لا نخدّره كلما استيقظ، وكي لا يبقى نائماً فلا يزعجنا، بل علينا السهر عليه بشفاعة أمّنا القديسة مريم. فإيماننا وإن كان ربما مثل حبة خردل فهو قادر أن ينقل الجبال (متى20:17)... وما ذلك إلا عطاء من رب السماء.
فلنسعى إلى إيجاد ذواتنا بالمسيح عن طريق مريم حاملة الألم من أجلنا لتعرّفنا إلى أين تقودنا رغبتنا في اتّباع يسوع ونحن سعداء في ألمنا، فما ذلك إلا لخلاصنا... إنه حصتنا في مسيرة هذه الحياة... إنه صليبنا وبه نجد ذاتنا وإيماننا. فلا تنسى أيها المؤمن زيارة لورد، مدينة القيامة والحياة، فهي المدرسة الأمينة لتكون طالباً في مدرسة مريم شفيعة المرضى والمتألمين... نعم وآمين.