المحرر موضوع: بغديدا- قره قوش تبكي دمعًا وتنزف دمًا  (زيارة 303 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 428
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
بغديدا- قره قوش تبكي دمعًا وتنزف دمًا
لويس إقليمس
بغداد، في 5 تشرين أول 2023
تعيش بلدة بغديدا/ قره قوش في سهل نينوى، هذه الأيام مناسبة الأربيعين الحزينة لكارثة قاعة الهيثم للمناسبات التي راح ضحيتها لغاية الأمس مائة وثلاثون ضحية بينهم أطفال وشباب وفتيات وناس ورجال أبرياء إلى جانب مئات المصابين بحروق مختلفة، وذلك بسبب الإهمال وسط تكهنات بكون الحادثة قد تكون فيها بصمات مشبوهة، تاركين ذلك بيد الجهات المختصة من قضاء وجهات جنائية وإدارات متعددة كي تأخذ دورها الصحيح من دون مجاملة ولا ضغوط ولا تحيّز.  لقد  لفّ الحزن والأسى هذه البلدة المنكوبة منذ ليلة الثلاثاء 26 من أيلول 2023 بفاجعة لم تألفها المنطقة في تاريخها. قاعة الهيثم للمناسبات احترقت، اشتعلت، تداعت بنايتُها الهشّة المشيدة خارج المعايير، وتهاوى سقفها المهزوز في دقائق معدودات وخارج الزمن القياسي حينما تحوّل إلى ركامٍ من رماد وجثث محترقة متناثرة في أرجائه بُعيدَ فقرة إستخدام الشعّالات النارية الحديثة تمهيدًا لرقصة العروسين التقليدية. فمن استطاع النجاة بنفسه لم يبخل، ومَن لم يستطع دخل في فرن المحرقة متحسرًّا مُكرَهًا. أمّا مَن فقد توازنه من غير تصوّر أو تصديق ما حصل وما جرى، فقد دارت به الحيرة وأخذ الارتباك مأخذَه وظلّ فاقدًا وعيَه وقدرتَه على الحركة في تقرير ما ينبغي فعلُه وهو يشهدُ لنيران مستعرة وسط ظلامٍ فاقمَ المأساة عندما أطفأَ صاحبُ القاعة الأضواءَ في لحظة جهلٍ أو ارتباكٍ أو تعمّدٍ ليقطع سبيل النجاة لمَن قد يفكرُ بإيجاد منفذٍ. فهل يُعقل أن تتسببَ الألعاب النارية هذه باشتعال القاعة التي كانت تغصّ بأكثر من ألفِ مدعوٍّ بهذه السرعة الفائقة؟ أم هناك ما كان مخفيًا ولا بُرادُ  الإفصاح عنه أو كشفُه لتعارضه مع مصالح وأجندات وأهداف تقف وراءَها أطرافٌ سياسية وسط صراع أحزاب السلطة وميليشياتها على حساب أهل البلدة ومنطقة سهل نينوى بالذات؟ لا أحد يتصوّر لغاية الساعة كيف بدأت النكبة ولماذا انتشرت النيران بسرعتها الفائقة؟ ولماذا أُطفئت الأنوار؟ ولماذا غابت أدوات الأمان والسلامة ومعها مخارجُ الطوارئ وما سواها من وسائل التوعية والتوجيه والدلائل المنظورة وغير المنظورة؟ ومَن وراء تشييدها خارج السياقات القانونية؟؟؟ 
   حصلت الكارثة وفقدت بلدة بغديدا كوكبةً من شيبها وشبابها، نسائها ورجالها، آباءٍ وأمهاتٍ، بنين وبنات، وكلهم أعزاء على ذويهم وأُسرِهم وعشائرهم وبلدتهم ومنطقتهم. لا سلوانَ بكلمات أو عباراتٍ لا تجدي. فالضحايا لا يستحقون مثل هذه الميتة البشعة التي لا يتمناها أي بشرٍ طبيعيّ. لقد سبقتها نكبات كثيرة وعديدة في بلد النكبات والمصائب، وخَبِرَها العراقيون بقساوتها وجفائها وخسائرها وما خلفته هي وغيرُها من مآسٍ وأوجاعٍ أضحت من سموم العصر ما بعد السقوط الدراماتيكي في العام 2003 بسبب الأوباش الأمريكان ومَن تعاونَ معهم من دول الغرب الماكر من المنافقين والدجالين. فما يحصل لنا في عراق ما بعد سقوط النظام السابق يعود كلّيًا إلى هذا التحالف الأمركي- الغربيّ الظالم الذي سلّمَ البلادَ بأيادي قذرة الأداء، غير نزيهة الأفعال، ولا نظيفة اليد، ولا واعية العقل والروح، ولا جديرة في الأداء والإدارة، لا تعرف للوطن معنى ولا للمواطنة قيمة ولا للوطنية مدخلاً أو مخرجًا ولا للإنسانية مرجعًا وهدايةً وطريقًا. وفي ضوء هذا كلّه، فإنّنا نحمّلُ الغازي الأمريكي وأدواته تنفيذ أجندة خبيثة لإخلاء العراق والمنطقة من المسيحيين بمثل هذه الأفعال والحوادث والأجندات. وهناك أدلة وقرائن عديدة تصبّ في هذا الهدف من حيث عدم اهتمام حكومات الغرب ومنها أمريكا بالذات بأوضاع المسيحيين الحقيقية إلاّ في الدعاية والإعلان عن قدراتها، لكونها اختارت جانب الديمقراطية الماكر والعلمانية الملحدة المنقوصة في تنفيذ أجنداتها المشبوهة في المنطقة والعالم. فمتى يجازيهم الله على فعالهم الشنيعة وجرائمهم الكبرى بحق شعب العراق والمنطقة والعالم؟ حبلُ السماء طويل... ولكن إلى متى؟
جنازة شعبية ورسمية بين الصدمة والغضب
شهدنا في أول يومٍ على المأساة طوابير من سيارات على مرمى البصر تنقل جثامين الضحايا بلغت في 47 جثة في أول جنازة كبرى للبلدة من الذين تمّ التعرّف عليهم في أول يومٍ بعد الكارثة. كرنفالٌ طويلٌ من سيارات مرافقة ولمسافة عدة كيلومترات تخترقها حشودٌ بشرية انطلقت من مركز البلدة لغاية مقبرة القيامة حيث تليت صلوات الجنازة حسب طقس الكنيسة السريانية الأنطاكية بحضورٍ كنسي متميّز من جميع الطوائف والأديان وعلى مستويات عالية، وفي تشييعٍ رسمي وشعبي وعائليّ لم تشهده البلدة بل المنطقة والمحافظة وربّما البلاد بأسرها. اختلطت دموع المسلم والإيزيدي والشبكي والكردي والتركماني والكاكائي والصارليّ مع دموع أشقائهم وأصدقائهم وجيرانهم المسسيحيين. كيف لا وبلدة قره قوش بأهلها الطيبين المتسامحين مع جيرانهم كانوا دومًا السباقين في تلبية الواجب والتعاطف مع جيرانهم في المصائب والنكبات واحترام الصداقات وأصول الجيرة. وما أكثر هذه المصائب ممّا شهدته المنطقة والبلاد!
لحظات من الحزن والأسى مترافقة مع دموع الحزانى ومختلطة مع حسرات الثكالى وأّمهات وآباء وإخوة وأخوات الضحايا واصدقائهم وأقربائهم. الكلُّ يبكي ويتحسّر ويندب ويتوعد. والكلّ تخنقه العبرات وهم يشهدون حجم المأساة. عوائل عديدة فقدت أكثر من شخصٍ عزيز، كانوا بالأمس يرقصون ويضحكون ويفرفشون ويتهنّأون بزفاف عروسين شابين جميلين وبفرحة ذويهما وسط زغاريد الفرح. واليوم تكتنفهم الحسرات بذات الزغاريد، ولكنها مقرونة بالحزن والأسى لفقدان الأحبة والتأسّي للمصابين المحترقين في أتون القاعة الكبيرة بنيرانها الظالمة التي لم ترحم أحدًا.
صباح اليوم التالي، كانت البلدة على موعدٍ مع قداس جنائزي مهيب ترأسه غبطة بطريرك السريان الكاثوليك الذي أبى إلاّ أن يشاطر البلدة السريانية الأصيلة وأهلَها بمصابهم الجلَل. ثم التوجه إلى قاعة كنيسة مار بهنام وسارة التي استقبلت جموع المعزّين الذين غصّت بهم الكنيسة التي تحوّلت لقاعة استقبال بهذه المناسبة الحزينة، وذلك وسطَ حضور ذوي الضحايا المتوشحين بالسواد زيادة في الحزن وإصرارًا على إظهار مدى فضاعة الحدث وقساوته. لم تهدأ للقاعة سكينة حتى إنّي أشفقتُ على ذوي الضحايا، وأنا منهم، على التزامهم الوقوف طيلة ساعات في قبول التعازي وما رافقها من كلمات وعبارات العزاء والسلوان المترافقة مع المعانقة في الأحضان والمختلطة بدموع الحزن والحسرة والصدمة والغضب في آنٍ معًا. ولا أعتقد أنّ الحضور الرسمي اللافت من جانب السادة رئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية وما بعده رئيس البرلمان ووزراء وبما قدموه من وعودٍ بالتحقيق في الحادثة الفظيعة ومن مغرياتٍ مادية قد أضاف شيئًا للتخفيف من تداعيات النكبة، بل نعدّهُ جانبًا دعائيًا لتخليد المشاركة الشكلية بالصور والمناظر، ووسيلةً إضافية لتخدير أصحاب الشان ورعاتهم وذويهم ومحبيهم، وأيضًا لإبعاد الشبهات عن أطراف شريكة حقيقية قريبة من أصحاب الشأن والقرار الذين يحكمون البلاد وممّن لهم باعٌ في تأجيج الأحداث واختلاق النكبات من أجل المزيد من المكاسب ودفع الضحايا لترك الأرض والوطن إلى بلدان الاغتراب نتيجة ً لمزايدات سياسية بين قوى الصراع في سهل نينوى. فهذا أصلُ ما يجري خلف الكواليس بين شركاء الوطن بمثلّثهم الحاكم ما بعد سقوط النظام الوطني. لذا فالكثير من الحضور والمتابعين لما يجري في ضوء هذه النكبة لا يعتقدون بفاعلية مثل هذه الوعود التي ستلحق سابقاتها من فواجع البلاد، وما أكثرها، حيث ظلت في طيات التاريخ للنسيان. فالدماء الزكية والأشلاء المتناثرة وجنائز الضحايا الأصفياء بسبب فظاعة "الجريمة" الجلل، لا يمكن شراؤُها أو تعويضُها بحفنة من وعود أو أموالٍ زائلة. فعندنا نحن المسيحيين خاصة، نتيقنُ من أنَّ  للبشر قيمتَه وللإنسان حرمتَه وللمؤمن الصابر برعاية ربه ما يتيح له البقاء في أحضان سيده المسيح بين الأبرار والصديقين وفي الأحضان الإبراهيمية عالية المقامات والمراتب وليس بالأموال والمغريات التي لا يمكنها تعويض مدى الخسارة الكبرى. فدماءُ الضحايا وأرواحُهم ليست بهذا الرخص كما يتصور البعض.
كفى للدخلاء في البلدة والسهل
لقد أدركتُ مثل غيري هول الفاجعة التي ضربت بلدة بغديدا السريانية المسيحية المتميّزة بين كلّ أقضية وبلدات العراق. ولن يهدأ لأهلها بالٌ لغاية اتضاح حقيقة ما جرى والأدوات المتداخلة في الكارثة، مهما كانت وأيًّا كانت... فالتحقيقات الشفافة، والمهنية الصحيحة، والقانونية المقترنة بالأدلة المادية المحسوسة ماتزال مطلوبة، بعد صدور نتائج مخيبة للآمال، تمامًا كما توقعها الكثيرون، من جانب لجنة وزارة الداخلية بكون الحادث عرضيًّا. بل هناك مَن يصرّ من ذوي الضحايا والرئاسات الكنسية المحلية على إشراك أطرافٍ دولية في التحقيقات، بسبب تأشير شبهات ونوايا مبطنة بتسييس عمل اللجنة التحقيقية الأولية التي تسرّعت في اتخاذ قرارها الباتّ ولم تأخذ في الحسبان جميع القرائن والأدلة المادية والمعنوية من المواد المحترقة وربطها بتسريبات متعددة لمقاطع صورية تشهد بحصول سلوكيات مشبوهة وغريبة خلف كواليس القاعة ليلةَ العرس، بحسب تحليلات وخبراء كشف الأدلّة الذين تسارعوا لتحليل ما جرى. فالكلّ واقعٌ بين الصدمة والحيرة والغضب ممّا حصل ومن أسلوب تعامل الجهات التحقيقية بتسرّعها غير المبرّر وعدم إلمامها بمجمل الأدوات والمسببات وتجاهلها للكثير من الحسّيات المادية التي قد تكون ماتزالُ عالقة بين ركام القاعة المتفحمة والتي قد تؤشرُ أدلة ملموسة ومحسوسة لدوافع جنائية.
نقول في خاتمة الوصف والنكبة، إنّ الحزن والوجع لن يفارقا أبناء بغديدا والطائفة السريانية بشقّيها ما عاشوا. فالتاريخ قد سجّل منذ اللحظات الأولى جوانب هذه الكارثة وآثارَها وحيثياتها بأحرف بارزات رُسمت في ضمائر وعقول أبناء البلدة وقرى الجوار وفي جوانح أهل سهل نينوى وأهالي الموصل وكردستان بجميع طوائفهم وأديانهم ومللهم، بل والعراقيين جميعًا الذين كشفوا عن تعاطفهم وتضامنهم عبر تسارعهم لتقديم كلّ أشكال الدعم والتضامن والعزاء وبأية صورة ممكنة!
أهالي البلدة وعموم مسيحيّي سهل نينوى لم يطلبوا أو يطالبوا بأمورٍ خارجة عن المألوف. بل جُلّ ما يصبون إليه عيشَ أيامهم وسنواتِ حياتهم بهدوء وراحة وسكينة تكتنفها وسائل الأمن والسلام والمحبة والتسامح في ظل وطن واحد وخيمة واحدة ودستور عادل وقوانين مدنية توحّد ولا تفرّق، بل تقوم على مبادئ المساواة والعدالة والمواطنة في ظلّ حكومة قوية توظّفُ طاقاتها لخدمة الجميع بعيدًا عن أصوات شاذة لأحزاب وتشكيلات وفصائل خارجة عن القانون اتخذت من المال والسلاح والنفوذ سبيلاً للحكم وفرض السطوة على المواطنين بأية وسيلة وأيّ ثمن لغاية تحوّلها إلى دولة عميقة مدمّرة. من هنا، فالبلدة المنكوبة والقرى المجاورة لها لن يقبلوا بأية مزايدات سياسية على حساب أمنهم واستقرار مناطقهم وديمومة عيشهم بسلام وطمأنينة. فالبلدان لا تُبنى بالفوضى وعلى فساد الساسة أو على أيدي الجهلة العقائديين الذين يقدّسون الأشخاص والأحداث بلا وعيٍ وبأي ثمن ولأيّ سبب، إنّما بالجدارة والكفاءة والولاء للوطن ومحبة أرضه وسمائه واحترام حقوق الإنسان. وهذه من سمات أبناء المكوّن المسيحيّ الأصيل في هذا البلد والمنطقة بشهادة الجميع.
وهذه باختصار دعوتُنا جميعًا أن يخرج كلّ دخيل وغريب من أرض العراق، بلد الحضارات والرقيّ والثقافة. ودعوة خاصة أخرى، لإبعاد منطقة سهل نينوى وبلدة "قره قوش- بغديدا" السريانية بالذات عن صراعات الأحزاب وتكالب الميليشيات وسائر الفصائل المسلحة المطلوب مغادرتُها كافةَ المدن والبلدات العراقية لتجد مصيرها في الأخير إلى الحلّ والتفكّك والزوال، وترك حماية السلم الأهلي والدفاع عن الوطن بأيدي قوات نظامية للجيش والشرطة بعيدًا عن تغوّل أحزاب السلطة وميليشياتها وأدواتها الفاسدة ومكاتبها الاقتصادية المشبوهة. فهذه بأجمعها أساسُ كل المشكلات في الوطن. وهي المعوّق والمعرقِل والمؤخِّر لأية بوادر لإعادة الحياة لهذا البلد "الضحية" بسبب تدخّل الغازي الأمريكي ومَن أوكلهم الحكم باسمه عبر أتباعهم من ذيول الجارة الشرقية التي تسلمّته ثمنًا لاتفاقات مشبوهة بهدف القضاء على كلّ قدراته وإضعاف شعبه وتجريد أرضه من الرقيّ والإنتاج وتركه بلدًا استهلاكيًا وسدّ الطريق أمامه في التقدم والرفاهة والحياة الطبيعية مثل سائر الشعوب والأمم. من هنا، لن نقبل أن يكون الإداريون البسطاء في القضاء كبش فداءٍ عن المتسببين الحقيقيين في الفاجعة وما قبلها. فالفساد كان ومايزال أساس كلّ مشاكل البلاد بسبب تغوّل تجار السياسة وسطوتهم على كلّ مفاصل الدولة بالمال والسلاح نتيجة استقوائهم بأشكال هذا الفساد متعدد الجوانب والأشكال.