المحرر موضوع: مَن يهدم الحضارات والمجتمعات، وكيف؟  (زيارة 302 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 426
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مَن يهدم الحضارات والمجتمعات، وكيف؟
لويس إقليمس
بغداد، في 20 شباط 2024
سموّ أيّة حضارة أو مجتمعات ناصحة يأتي من قيمة تربية شعوبها ورفعة أبناء بلدانها وتقدّم كلّ جوانب الحياة فيها ولاسيّما من تطوّر أدواتها الصحيحة الكثيرة. فإذا غابت أركان هذا السموّ بكل جوانبه وأدواته وآليات سلوكه، حلّت الكارثة بل الكوارث عندما بدأ أمثال هذه الحضارة بالسقوط في متاع الهزالة والضحالة متخذةً من كهوف الجهل لحافًا وغطاءً لها مقنّعة بآفات تخلّف لا تغني ولا تسمن. فهذه الأجندات الضحلة غير المثمرة لا يمكن أن تديرها سوى عقول خائرة فارغة لابسة كلّ أشكال الجهل وغارقة في خرافات تديم لها السطوة على عقول البسطاء والسذج من الأتباع، دينيًا ومذهبيًا وحتى عرقيًا وإتنيًا. وبالتأكيد، فشكلُ هذا الجهل مصدرُه الأساس إداراتُ بلدانٍ تقودها زعامات مصلحية وساسة جهلة لا يتوانون في الاستناد والالتجاء لأدواتٍ تافهة وترّهات غير جديرة بالاحترام تتخذ غالبًا من الدين والمذهب والانتماء العشائري سبيلاً أساسيًّا لإدامة السلطة والإثراء الفاحش على حساب الشعوب وفرض أتاواتهم بدالّة أدوات المال والجاه والسلاح التي يمسكون بها بأسنانهم وأيديهم وأرجلهم على السواء. وعندما تصبح هذه الأدوات الأخيرة خارج سيطرة الدولة، حينئذٍ يصعبُ ترويضُها وتجنيب شعوبها الوقوع تحت سطوتها بسبب تجبّرها واستئسادها بما تتبجح به وتمتلكه من أساليب وأدوات مبتكرة على طول الخط وممّا لا يخطر على البال. فهي ماكرة وسفيهة وضروسة في آنٍ معًا ممّا يستدعي العلاج بالكيّ الذي لا يمكن أن يُفلح إلاّ بتدخلٍ مرجوٍّ من السماء الغافية في أكثر الأحيان أو بفعل فاعل دولي يمتلك من الأدوات والوسائل ما تعجز عنه شعوب الداخل.
هكذا تجري عمليات تفكيك الحضارات والمجتمعات، بدءًا من تدليس العقائد لغاية تآكلها عندما يتم امتزاجها بأدوات أخرى إضافية تساهم في إضعاف إيمان الناس من حيث لا يدرون أو يدركون، طالما أنّ سطوة مَن يقودهم من مدّعي الدين تأتمر بأمر الطارئين والدخلاء وأرباب الفتن وأصحاب المصالح. وما أبسط الوسائل المستخدمة في أيامنا هذه من جانب تنظيمات وجماعات تديرها زعامات في مجملها دينية، أو بالأحرى مدّعية الدين والإيمان، مهووسة بسرقة المال العام والإثراء على حساب الأوطان وشعوبها البائسة المغلوبة الخاضعة من قمة رأسها حتى أخمص قدمها لهذه الأطراف من دون نقاش ولا تفكير ولا تمحيص. وما يزيد من اتساع حدود هذه الأجندات الدخيلة غير مستوفية الشروط الإنسانية البسيطة، ضياع القناعات لدى بسطاء الشعب اللاهثين وراء فتات الأسياد الذين "كانوا بالأمس جياعًا لكلّ شيء ثمّ شبعوا" وأداروا الظهور لمَن كان السبب بالإتيان بهم إلى السلطة والواجهة والثراء الفاحش بلا حدود ولا رقيب ولا حسيب. والأنكى من هذا وذاك، أن تُدار حلقات هذه السطوات العليا، الدينية منها بخاصة، عبر وسائل مستنبطة لتغيير قناعاتِ طبقاتٍ محسوبة على أرباب الثقافة والفكر والعلم. وفي هذا كمالُ الانحطاط المجتمعي والتفكيك الحضاري حينما يسقط المثقف وصاحب الفكر والعلم بين أيدي مثل هذه الجماعات. وما على هذا الأخير سوى الرضوخ والخنوع بأمر الحاكمين باسم الدين، والدين منهم براء براءة الذئب من قميص يوسف!
من أدوات هدم الحضارات، تجهيل دور الأمّ
من هنا، لا يبدو صعبًا تناول المعول وهدم أية حضارة أو إفساد أي مجتمع لما لمثل هذا المعول من قدرات تدميرية في استخدام كلّ ما هو قاهرٌ لأسس الحياة وعماد المجتمع المرتكز على حضارة راسخة سابقة جرى بناؤُها بأيدي نزيهة في حقبة من الزمن الجميل الذي إنْ ضاعَ حينئذٍ يصعبُ استعادة أجزاءٍ من أسسه وبنيته ومعاييره الصالحة. هكذا هو العراق اليوم. وربما غيرُه من بلدان المنطقة. ونحن هنا لا نتجنى على جهة أو زعامة أو إدارة، داخلية أو خارجية، فيما تشهدُه بلادنا من ويلات وآثارٍ مدمّرة بعد غزوه قبل أكثر من عشرين عامًا، وبالذات على أيدي الغازي الأمريكي سيّء الصيت في كلّ شيء في 2003، حينما سلّمَ معولَه لأدواته المتعددة الداخلية والخارجية، من أجل تهشيم البنية التحتية في البلاد بما كان يملكه من مستلزمات الشعوب المتحضّرة ذات السيادة والهيبة في كلّ ركنٍ من أركان الوطن. فالنيّة كانت مبيّتة في الأساس لتدمير حضارة أقدم شعوب الأرض بأدوات وخطوات عديدة، استهلّها بإفساد التربية المنزلية وتفتيت الأسرة وتجزئة المجزّأ فيها الذي كان بدأه عبر فرض الحصار القاسي ضدّ شعب العراق البائس الخارج من حربين ضروسين خاسرين بفعل غطرسة الإدارة البائدة وخروجها عن أخلاقيات التعايش السلمي والصلح المجتمعي داخليًا وإقليميًا ودوليًا. وقد تحمّل الشعب العراقي بمختلف مجتمعاته كلّ تلك التبعات. ف "هذا المطر الأسود من تلك الغيمة القبيحة".
لقد سعى المحتلّ الأمريكي بعد خبرته في دراسة نفسية المجتمعات العراقية المتنوعة فكريًا وسياسيًا وإتنيًا ودينيًا ومذهبيًا وتربويًا وعشائريًا، سعى لتجزئة الأسرة وتفتيتها وزرع بذور التمرّد وأدوات الجهل والتخلّف بين أبناء العائلة الواحدة والمجتمع الواحد والدين الواحد والمذهب الواحد وصولاً إلى تجهيل المجتمع العراقي بأسره عندما أفقدهُ ركيزته الأساسية المتمثلة بأمّ البيت وحامية الأسرة وحبيبة الرجل بحجج وأعذار وهمية، منها الحاجة لدمقرطة الشعوب المقهورة وفسح الحريات المفتوحة لها بكل تجلياتها وأوهامها وإغراءاتها. فصارت هذه الأخيرة أسيرة لأشكال القهر والظلم والانفلات بحجة التحرّر من مظالم المجتمع وقوّامة رجل البيت الذي فقدَ هو الآخر سيطرتَه وضاعت كلمتُه وسط هدير أصواتٍ شاذة خرجت عن طوع التربية المنزلية الصحيحة التي بُنيت عليها الأسرة العراقية وحضارة البلد عبر مئات بل آلاف السنين. فعندما يتمّ تغييب دور الأم كحامية للأسرة ورديفة للرجل في التربية المنزلية الصحيحة، حينئذٍ تفقد المجتمعات كلّ أدوات سرّ بقائها في التماسك والعيش المتآلف والسلم المجتمعي الصحيح مع غيرها. ألم يقل الشاعر:
             الأم مدرسة إذا أعددتها            أعددتَ شعبًا طيبَ الأعراق
هكذا لم يعد للكثير من الأمهات في هذا الزمن الأغبر دورٌ كبير ومهمٌّ في بناء الأسرة والمجتمع والبلد بسبب تراجع دورها في تماسك أسرتها للأسباب الكثيرة التي نعلمها ونختبرها في حياتنا اليومية، ومنها تحرّرُها الخارج عن السيطرة وتماهيها مع ما تشهده وتطّلعُ عليه وتستخدمه عبر وسائل التواصل الاجتماعي بلا  رقيب ولا تمييز للغث من السمين منها. وكذلك بسبب تقليدها الأعمى لما تعرضه مختلف مراكز التجميل واللهو والسهر من أدوات واستعراضات ودعايات رخيصة في معظمها بحيث أخلّت بجسدها وأفسدت أنوثتها وأخرجتها عن طبيعتها البشرية بل والإنسانية أحيانًا. وبالنتيجة، فقد تحوّلت الكثير من النساء والفتيات إلى أدوات رخيصة في شارع لم يعد يكنّ لها ذلك الاحترام الحضاري، كما عهدناه وكما تستحقه الأمّ والمرأة العراقية عبر مسيرة السنوات الغابرة التي عشناها معظمنا نحن أجيال الزمن الجميل وروّاد المدنية وأصحاب الفكر والانتماء الصحيح للوطن والمجتمع.
هدم العلوم والتعليم ورموز القدوات
استدرك الأسياد أهمية العلم والتعليم والفكر في بناء المجتمعات. لذا عمدوا إلى هدم أركان العلوم وإفساد التعليم في بلاد الرافدين التي لا شكَّ في كونها بلد الحضارة الأولى واستمرار إدامة هذا الدور البناء في حياة الشعب العراقي لغاية السقوط الأكبر في 2003، حينما تغيرت الأدوات وأصبح المعلّم والمدرّس والاستاذ الجامعي ألعوبة بأيدي ناسٍ جهلة لا يفقهون من العلم ما يمكنهم من تواصل بناء أركان البلد بذات الأسس التي بُني بها الوطن في سالف الأيام. بل الأنكى من هذا وذاك، صار المعلم ألعوبة بايدي إدارات فاسدة فرضت أجندتَها وبرامجها ومناهجها عبر ما يُسمى بالتعليم الأهلي الحرّ الذي رضخ لإرادة المستثمر في انتقاء الإدارات والهيئات التدريسية وفق رؤيته القاصرة وأجندته المادية والوجاهية البحتة. ناهيك عن التقاعس في دُور العلم والمدارس الحكومية وغالبية المؤسسات التعليمية الجامعية التي تراجعت كثيرًا وأصبحت الشهادات تُباع وتُشترى بمال السحت الحرام لتوزعَ على المسؤولين وأبنائهم وأدواتهم طمعًا بمنصب رفيع أو وجاهةً للتباهي من دون وجه حق.
  قصارى الكلام، لقد تحول دور المعلّم في عموم البلاد، من دور المربي الفاضل إلى وسيلة احتقار واستهزاء أمام الطلبة حيث لم يعد له ذلك الاحترام المطلوب الذي خبرناه عندما كنّا نعيش بين أسوار دولة ذات سيادة وكرامة ورقيّ وسموّ في كلّ شيء. كما لم تعد للمعلم من كلمة لتُسمعَ كما اعتدنا في أيامنا نحن أجيال الماضي الجميل عندما كنّا نخشى الظهور في الشارع أو في المكان الذي يتواجد فيه المعلم أو المدرّس، ليس خوفًا منه فحسب بل احترامًا لقَدره وقيمته ودوره في التربية الفاضلة التي كان فيها بمثابة الأب الثاني في المدرسة. ومازلنا نشهد لتلك الأيام الجميلة في تبنّي القدوات في الصفوف وتكريمها بما تستحقه من ثناء وتفاخر ليس في المدرسة فحسب، بل في البيت الأسري والمجتمعومؤسسات الدولة على السواء. فما كان أحلى أن يقرأ الطلاب يافطة صغيرة في وسط سقف الصف عبارة " فارس الصف فلان بن فلان". وقد كنتُ من بين هؤلاء في حقبة الدراسة الابتدائية خاصة حيث كان يشهد لي مَن توالوا على تعليمي من الذين ما أزال أكنّ لهم كل الاحترام والتقدير. بل مازلتُ أناديهم بكلمة " أستاذي"، سواءً مَن أشرف على تعليمي الابتدائي أو الثانوي أو في فترة دراستي الدينية في معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل في فترة نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. وهذا لمن دواعي شرفي أني بلغتُ ما بلغتُ إليه على ايديهم من ثقافة وفكرٍ وأدبٍ وأسلوبٍ في الكتابة والتعبير. لذا أقول، إنه لمن المؤسف أنّ المعلّم لم يعد له اليوم ذلك الدور التربوي الرائد الذي يستحقه، كما هي الحال في الدول المتحضرة ولدى الشعوب المتمدنة. فالأمم المتحضرة والدول المتقدمة هي التي تصون كرامة العلم والقائمين عليه وترفعهم في أعلى مراتب الكرامة والاحترام والتبجيل تقديرًا لرسالتهم السامية في المجتمع. فقد صدقَ مَن قال: "كاد المعلّم أن يكون رسولاً!"
أخيرًا، ممّا لا يخفى على أحد أيضًا وللتذكير فقط، أنّ من أهداف المحتل ومعه ممَن ادّعى تمثيل دور المعارضة والاستعانة بهم في إدارة دفة السلطة في عراق ما بعد 2003، فقد انصبَّ دورهم جميعًا على إنهاء دور العلوم والعلماء في نطاقه الواسع سواءً بالقضاء عليهم وتصفيتهم جسديًا أو حثّ العديد منهم للهرب خارج البلاد خشيةً من تحييدهم، كما حصل لمئات بل الآلاف منهم بشهادة أدوات المعارضة نفسها التي تسلمت السلطة وأقرّت على الملأ تبنّيها دور "مقاولات تفليش البلاد" بدعم من الغازي الأمريكي وأعوانه في التحالف الدولي الماكر ودول الجوار المستنفعة وأدواتها في المعارضة سابقًا التي تنكرت لأيّ انتماء وطني حين تسلمت السلطة وأغارت على الكفاءات حقدًا وكرهًا وخشيةً من نهضتها ثانية. نتطلع إلى اليوم الذي يعود للعلم والعلماء وأرباب الفكر، وللمعلم والأم صاحبة المدرسة المنزلية، تلك الكرامة المستحقة بعودة البلاد إلى معايير الدول المتحضرة واستنهاض القيم الأساسية التي فقدتها بلادنا بعد الغزو المكروه والطمع المفضوح والهدف المسموم بشماتة واضحة وبلا استحياء ولا عيب من الشعوب صاحبة الحق والكرامة والتاريح والحضارة. ففي الأخير، لن يصحّ إلاّ الصحيح!


غير متصل عنكاوا دوت كوم

  • مشرف
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 37773
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مَن يهدم الحضارات والمجتمعات، وكيف؟
لويس إقليمس
بغداد، في 20 شباط 2024
سموّ أيّة حضارة أو مجتمعات ناصحة يأتي من قيمة تربية شعوبها ورفعة أبناء بلدانها وتقدّم كلّ جوانب الحياة فيها ولاسيّما من تطوّر أدواتها الصحيحة الكثيرة. فإذا غابت أركان هذا السموّ بكل جوانبه وأدواته وآليات سلوكه، حلّت الكارثة بل الكوارث عندما بدأ أمثال هذه الحضارة بالسقوط في متاع الهزالة والضحالة متخذةً من كهوف الجهل لحافًا وغطاءً لها مقنّعة بآفات تخلّف لا تغني ولا تسمن. فهذه الأجندات الضحلة غير المثمرة لا يمكن أن تديرها سوى عقول خائرة فارغة لابسة كلّ أشكال الجهل وغارقة في خرافات تديم لها السطوة على عقول البسطاء والسذج من الأتباع، دينيًا ومذهبيًا وحتى عرقيًا وإتنيًا. وبالتأكيد، فشكلُ هذا الجهل مصدرُه الأساس إداراتُ بلدانٍ تقودها زعامات مصلحية وساسة جهلة لا يتوانون في الاستناد والالتجاء لأدواتٍ تافهة وترّهات غير جديرة بالاحترام تتخذ غالبًا من الدين والمذهب والانتماء العشائري سبيلاً أساسيًّا لإدامة السلطة والإثراء الفاحش على حساب الشعوب وفرض أتاواتهم بدالّة أدوات المال والجاه والسلاح التي يمسكون بها بأسنانهم وأيديهم وأرجلهم على السواء. وعندما تصبح هذه الأدوات الأخيرة خارج سيطرة الدولة، حينئذٍ يصعبُ ترويضُها وتجنيب شعوبها الوقوع تحت سطوتها بسبب تجبّرها واستئسادها بما تتبجح به وتمتلكه من أساليب وأدوات مبتكرة على طول الخط وممّا لا يخطر على البال. فهي ماكرة وسفيهة وضروسة في آنٍ معًا ممّا يستدعي العلاج بالكيّ الذي لا يمكن أن يُفلح إلاّ بتدخلٍ مرجوٍّ من السماء الغافية في أكثر الأحيان أو بفعل فاعل دولي يمتلك من الأدوات والوسائل ما تعجز عنه شعوب الداخل.
هكذا تجري عمليات تفكيك الحضارات والمجتمعات، بدءًا من تدليس العقائد لغاية تآكلها عندما يتم امتزاجها بأدوات أخرى إضافية تساهم في إضعاف إيمان الناس من حيث لا يدرون أو يدركون، طالما أنّ سطوة مَن يقودهم من مدّعي الدين تأتمر بأمر الطارئين والدخلاء وأرباب الفتن وأصحاب المصالح. وما أبسط الوسائل المستخدمة في أيامنا هذه من جانب تنظيمات وجماعات تديرها زعامات في مجملها دينية، أو بالأحرى مدّعية الدين والإيمان، مهووسة بسرقة المال العام والإثراء على حساب الأوطان وشعوبها البائسة المغلوبة الخاضعة من قمة رأسها حتى أخمص قدمها لهذه الأطراف من دون نقاش ولا تفكير ولا تمحيص. وما يزيد من اتساع حدود هذه الأجندات الدخيلة غير مستوفية الشروط الإنسانية البسيطة، ضياع القناعات لدى بسطاء الشعب اللاهثين وراء فتات الأسياد الذين "كانوا بالأمس جياعًا لكلّ شيء ثمّ شبعوا" وأداروا الظهور لمَن كان السبب بالإتيان بهم إلى السلطة والواجهة والثراء الفاحش بلا حدود ولا رقيب ولا حسيب. والأنكى من هذا وذاك، أن تُدار حلقات هذه السطوات العليا، الدينية منها بخاصة، عبر وسائل مستنبطة لتغيير قناعاتِ طبقاتٍ محسوبة على أرباب الثقافة والفكر والعلم. وفي هذا كمالُ الانحطاط المجتمعي والتفكيك الحضاري حينما يسقط المثقف وصاحب الفكر والعلم بين أيدي مثل هذه الجماعات. وما على هذا الأخير سوى الرضوخ والخنوع بأمر الحاكمين باسم الدين، والدين منهم براء براءة الذئب من قميص يوسف!
من أدوات هدم الحضارات، تجهيل دور الأمّ
من هنا، لا يبدو صعبًا تناول المعول وهدم أية حضارة أو إفساد أي مجتمع لما لمثل هذا المعول من قدرات تدميرية في استخدام كلّ ما هو قاهرٌ لأسس الحياة وعماد المجتمع المرتكز على حضارة راسخة سابقة جرى بناؤُها بأيدي نزيهة في حقبة من الزمن الجميل الذي إنْ ضاعَ حينئذٍ يصعبُ استعادة أجزاءٍ من أسسه وبنيته ومعاييره الصالحة. هكذا هو العراق اليوم. وربما غيرُه من بلدان المنطقة. ونحن هنا لا نتجنى على جهة أو زعامة أو إدارة، داخلية أو خارجية، فيما تشهدُه بلادنا من ويلات وآثارٍ مدمّرة بعد غزوه قبل أكثر من عشرين عامًا، وبالذات على أيدي الغازي الأمريكي سيّء الصيت في كلّ شيء في 2003، حينما سلّمَ معولَه لأدواته المتعددة الداخلية والخارجية، من أجل تهشيم البنية التحتية في البلاد بما كان يملكه من مستلزمات الشعوب المتحضّرة ذات السيادة والهيبة في كلّ ركنٍ من أركان الوطن. فالنيّة كانت مبيّتة في الأساس لتدمير حضارة أقدم شعوب الأرض بأدوات وخطوات عديدة، استهلّها بإفساد التربية المنزلية وتفتيت الأسرة وتجزئة المجزّأ فيها الذي كان بدأه عبر فرض الحصار القاسي ضدّ شعب العراق البائس الخارج من حربين ضروسين خاسرين بفعل غطرسة الإدارة البائدة وخروجها عن أخلاقيات التعايش السلمي والصلح المجتمعي داخليًا وإقليميًا ودوليًا. وقد تحمّل الشعب العراقي بمختلف مجتمعاته كلّ تلك التبعات. ف "هذا المطر الأسود من تلك الغيمة القبيحة".
لقد سعى المحتلّ الأمريكي بعد خبرته في دراسة نفسية المجتمعات العراقية المتنوعة فكريًا وسياسيًا وإتنيًا ودينيًا ومذهبيًا وتربويًا وعشائريًا، سعى لتجزئة الأسرة وتفتيتها وزرع بذور التمرّد وأدوات الجهل والتخلّف بين أبناء العائلة الواحدة والمجتمع الواحد والدين الواحد والمذهب الواحد وصولاً إلى تجهيل المجتمع العراقي بأسره عندما أفقدهُ ركيزته الأساسية المتمثلة بأمّ البيت وحامية الأسرة وحبيبة الرجل بحجج وأعذار وهمية، منها الحاجة لدمقرطة الشعوب المقهورة وفسح الحريات المفتوحة لها بكل تجلياتها وأوهامها وإغراءاتها. فصارت هذه الأخيرة أسيرة لأشكال القهر والظلم والانفلات بحجة التحرّر من مظالم المجتمع وقوّامة رجل البيت الذي فقدَ هو الآخر سيطرتَه وضاعت كلمتُه وسط هدير أصواتٍ شاذة خرجت عن طوع التربية المنزلية الصحيحة التي بُنيت عليها الأسرة العراقية وحضارة البلد عبر مئات بل آلاف السنين. فعندما يتمّ تغييب دور الأم كحامية للأسرة ورديفة للرجل في التربية المنزلية الصحيحة، حينئذٍ تفقد المجتمعات كلّ أدوات سرّ بقائها في التماسك والعيش المتآلف والسلم المجتمعي الصحيح مع غيرها. ألم يقل الشاعر:
             الأم مدرسة إذا أعددتها            أعددتَ شعبًا طيبَ الأعراق
هكذا لم يعد للكثير من الأمهات في هذا الزمن الأغبر دورٌ كبير ومهمٌّ في بناء الأسرة والمجتمع والبلد بسبب تراجع دورها في تماسك أسرتها للأسباب الكثيرة التي نعلمها ونختبرها في حياتنا اليومية، ومنها تحرّرُها الخارج عن السيطرة وتماهيها مع ما تشهده وتطّلعُ عليه وتستخدمه عبر وسائل التواصل الاجتماعي بلا  رقيب ولا تمييز للغث من السمين منها. وكذلك بسبب تقليدها الأعمى لما تعرضه مختلف مراكز التجميل واللهو والسهر من أدوات واستعراضات ودعايات رخيصة في معظمها بحيث أخلّت بجسدها وأفسدت أنوثتها وأخرجتها عن طبيعتها البشرية بل والإنسانية أحيانًا. وبالنتيجة، فقد تحوّلت الكثير من النساء والفتيات إلى أدوات رخيصة في شارع لم يعد يكنّ لها ذلك الاحترام الحضاري، كما عهدناه وكما تستحقه الأمّ والمرأة العراقية عبر مسيرة السنوات الغابرة التي عشناها معظمنا نحن أجيال الزمن الجميل وروّاد المدنية وأصحاب الفكر والانتماء الصحيح للوطن والمجتمع.
هدم العلوم والتعليم ورموز القدوات
استدرك الأسياد أهمية العلم والتعليم والفكر في بناء المجتمعات. لذا عمدوا إلى هدم أركان العلوم وإفساد التعليم في بلاد الرافدين التي لا شكَّ في كونها بلد الحضارة الأولى واستمرار إدامة هذا الدور البناء في حياة الشعب العراقي لغاية السقوط الأكبر في 2003، حينما تغيرت الأدوات وأصبح المعلّم والمدرّس والاستاذ الجامعي ألعوبة بأيدي ناسٍ جهلة لا يفقهون من العلم ما يمكنهم من تواصل بناء أركان البلد بذات الأسس التي بُني بها الوطن في سالف الأيام. بل الأنكى من هذا وذاك، صار المعلم ألعوبة بايدي إدارات فاسدة فرضت أجندتَها وبرامجها ومناهجها عبر ما يُسمى بالتعليم الأهلي الحرّ الذي رضخ لإرادة المستثمر في انتقاء الإدارات والهيئات التدريسية وفق رؤيته القاصرة وأجندته المادية والوجاهية البحتة. ناهيك عن التقاعس في دُور العلم والمدارس الحكومية وغالبية المؤسسات التعليمية الجامعية التي تراجعت كثيرًا وأصبحت الشهادات تُباع وتُشترى بمال السحت الحرام لتوزعَ على المسؤولين وأبنائهم وأدواتهم طمعًا بمنصب رفيع أو وجاهةً للتباهي من دون وجه حق.
  قصارى الكلام، لقد تحول دور المعلّم في عموم البلاد، من دور المربي الفاضل إلى وسيلة احتقار واستهزاء أمام الطلبة حيث لم يعد له ذلك الاحترام المطلوب الذي خبرناه عندما كنّا نعيش بين أسوار دولة ذات سيادة وكرامة ورقيّ وسموّ في كلّ شيء. كما لم تعد للمعلم من كلمة لتُسمعَ كما اعتدنا في أيامنا نحن أجيال الماضي الجميل عندما كنّا نخشى الظهور في الشارع أو في المكان الذي يتواجد فيه المعلم أو المدرّس، ليس خوفًا منه فحسب بل احترامًا لقَدره وقيمته ودوره في التربية الفاضلة التي كان فيها بمثابة الأب الثاني في المدرسة. ومازلنا نشهد لتلك الأيام الجميلة في تبنّي القدوات في الصفوف وتكريمها بما تستحقه من ثناء وتفاخر ليس في المدرسة فحسب، بل في البيت الأسري والمجتمعومؤسسات الدولة على السواء. فما كان أحلى أن يقرأ الطلاب يافطة صغيرة في وسط سقف الصف عبارة " فارس الصف فلان بن فلان". وقد كنتُ من بين هؤلاء في حقبة الدراسة الابتدائية خاصة حيث كان يشهد لي مَن توالوا على تعليمي من الذين ما أزال أكنّ لهم كل الاحترام والتقدير. بل مازلتُ أناديهم بكلمة " أستاذي"، سواءً مَن أشرف على تعليمي الابتدائي أو الثانوي أو في فترة دراستي الدينية في معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل في فترة نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. وهذا لمن دواعي شرفي أني بلغتُ ما بلغتُ إليه على ايديهم من ثقافة وفكرٍ وأدبٍ وأسلوبٍ في الكتابة والتعبير. لذا أقول، إنه لمن المؤسف أنّ المعلّم لم يعد له اليوم ذلك الدور التربوي الرائد الذي يستحقه، كما هي الحال في الدول المتحضرة ولدى الشعوب المتمدنة. فالأمم المتحضرة والدول المتقدمة هي التي تصون كرامة العلم والقائمين عليه وترفعهم في أعلى مراتب الكرامة والاحترام والتبجيل تقديرًا لرسالتهم السامية في المجتمع. فقد صدقَ مَن قال: "كاد المعلّم أن يكون رسولاً!"
أخيرًا، ممّا لا يخفى على أحد أيضًا وللتذكير فقط، أنّ من أهداف المحتل ومعه ممَن ادّعى تمثيل دور المعارضة والاستعانة بهم في إدارة دفة السلطة في عراق ما بعد 2003، فقد انصبَّ دورهم جميعًا على إنهاء دور العلوم والعلماء في نطاقه الواسع سواءً بالقضاء عليهم وتصفيتهم جسديًا أو حثّ العديد منهم للهرب خارج البلاد خشيةً من تحييدهم، كما حصل لمئات بل الآلاف منهم بشهادة أدوات المعارضة نفسها التي تسلمت السلطة وأقرّت على الملأ تبنّيها دور "مقاولات تفليش البلاد" بدعم من الغازي الأمريكي وأعوانه في التحالف الدولي الماكر ودول الجوار المستنفعة وأدواتها في المعارضة سابقًا التي تنكرت لأيّ انتماء وطني حين تسلمت السلطة وأغارت على الكفاءات حقدًا وكرهًا وخشيةً من نهضتها ثانية. نتطلع إلى اليوم الذي يعود للعلم والعلماء وأرباب الفكر، وللمعلم والأم صاحبة المدرسة المنزلية، تلك الكرامة المستحقة بعودة البلاد إلى معايير الدول المتحضرة واستنهاض القيم الأساسية التي فقدتها بلادنا بعد الغزو المكروه والطمع المفضوح والهدف المسموم بشماتة واضحة وبلا استحياء ولا عيب من الشعوب صاحبة الحق والكرامة والتاريح والحضارة. ففي الأخير، لن يصحّ إلاّ الصحيح!
أي نشر، أو إعادة تحرير لهذه المادة، دون الإشارة الى " عنكاوا كوم " يترتب عليه أجراءات قانونية