المحرر موضوع: التأريخ وكتابة التاريخ والامانة العلمية :  (زيارة 712 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل د.عامـر ملوكا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 205
    • مشاهدة الملف الشخصي
التأريخ وكتابة التاريخ والامانة العلمية :
الشيء الوحيد الذي تعلمناه من التأريخ ان لا أحد يتعلم من التأريخ: هيكل
  لكي ندخل الى موضوعة التأريخ وكتابته، ومن هو المؤهل لكتابة التاريخ، ودور واهمية التاريخ في حياة الانسان والشعوب في عصرنا الحاضر.
         لابد من ان نعرف التأريخ أولا: التأريخ يكتب بالعربية بالهمزة على الالف التأريخ ويكتب من غير الهمزة التاريخ. بعض المؤرخين يرى الصيغة الأولى أفضل من الثانية وبعضهم يرى عكس ذلك، ويُرجع بعض المؤرخين كلمة التاريخ، كلغة، الى الكلمة العبرية ياريخ ومعناها القمر، ويعتقد بعضهم انها مشتقة من الكلمة الاكدية أرخو . والبعض يعتقد انها كلمة معربة من الفارسية ماه روز  أي بالعربية "القمر اليوم"، أي بمعنى تعيين بداية الشهر. ونستطيع القول بان كلمة تاريخ العربية تعني الزمن والحقبة او الاعلام بالوقت. ونستطيع القول أن التأريخ هو فن او ادب يبحث عن وقائع الزمان من الناحية الزمنكانية وموضوعة الانسان والزمان .. ولم يرد مصطلح التاريخ في الادب العربي قبل الإسلام، ولا حتى في القران او الأحاديث النبوية.
          والتأريخ قد بدأ عندما بدأت المدنية وبدأ الانسان يقص على عائلته حكايات هي مزيج من الاساطير والمعتقدات و بدأ يترك على الصخر والأرض رسومات أو وصف أخبار الحوادث التي مرت على الافراد او القبائل . وفي هذه المرحلة بدأت القرى والمدن واتسعت أكثر فاكثر واحتاج الانسان الى التشريع ووضع القوانين، ثم بعدها الى السيطرة والنفوذ وخوض المعارك للنفوذ وفرض الذات. وهكذا كانت الحياة قد تعقدت، وبدأت تتطوّر حركة الانسان، وحب السيطرة، وتطور وسائل المواصلات، وأدوات الحرب، ونشوء الحضارات وسقوطها. مجموع هذه العوامل كانت عوامل قوة دافعة لنشوء فن او ادب او علم التاريخ. . وتأتي اهمية دراسة التاريخ من قبل المتخصصين او المهتمين من كون دراسة التاريخ هي من الأسس التي تعتمد عليها المجتمعات من خلال التجارب الناجحة او الفاشلة التي مرّت في تاريخ الشعوب. كما أن هذه التجارب تعتبر حوافزا للاقتداء بالرموز البارزة في حياة الشعوب، سواء كانت هذه الرموز رموزا علمية او دينية او قيادية. والحال أن الإنسان بشكل عام لا يستطيع معرفة نفسه وحاضره دون أن يعرف الماضي، كالإنسان البسيط الذي فقد عائلته وعشيرته، فهو يعيش في دوامة البحث عن عائلته وماضيه وجذور أسلافه. ويصف أمير الشعراء أحمد شوقي  ذلك حين قال :

مثل القوم أضاعوا تاريخهم كلقيطٍ عيّ في الحي انتسابا.
  المؤرخ الإنجليزي "آرثر مارفيك يذكر" في كتابه " طبيعة التاريخ " ان أهمية التاريخ وحاجتنا لدراسته تنطلق من كونها ضرورية لإشباع حاجة غريزية لدى الانسان، أو حاجة اصيلة من حاجات الانسان داخل المجتمع . ولدراسة التاريخ أهمية في نهضة وتطور الشعوب من خلال دراسة تجارب الشعوب والأمم وأسباب الإخفاق او النجاح وهو مهم لبناء الأمم والمحافظة على الهوية وقدرتها على الشموخ والتواصل. التاريخ هو ذاكرة الأمم، ولابد من هذا الوعي التاريخي الذي يعتبر من اهم المصادر الثقافية والحضارية لثقافة الحاضر ورؤية المستقبل.
          العالم جوزيف ستارير : يبين ان دراسة التأريخ تضع الانسان على أرضية صلبة لمواجهة إشكاليات المستقبل، ليس من خلال التنبؤ، ولكن لفهم سلوكية وتصرف الانسان عبر التاريخ، مما يمنح او يثري مقدرة الانسان والشعوب على  إيجاد الحلول الأنسب  للحاضر وللمستقبل .
 
 هل التاريخ علم ام فن ام ادب؟
لايزال الكثير من العلماء والباحثين يختلفون منذ أواخر القرن التاسع عشر في تصنيف التأريخ بوصفه علما او أدبا او فنا. فالتاريخ لا يخضع للملاحظة والتجربة والقياس لتحويره أو تطويره كعنصر من الماضي، في حين أن الظاهرة العلمية في حالة تكرارها يمكننا الحصول على النتائج نفسها، غير أن الحادثة التاريخية قد تحدث ولا تتكرر. ويمكننا ان نظيف ان   دراسة التاريخ لا توصلنا الى استنتاج قوانين او معادلات ثابتة. ولكن يمكننا اعتباره واحدا من العلوم الإنسانية التي تدرس النشاط الإنساني والمجتمعي الحاضر وربطه بالماضي.  ولكن الادباء لا يهمهم كون التاريخ علما ام لا  فهو يبقى فنا من الفنون والعلم يبقى قاصرا عند دراسة التاريخ ، والبحث العلمي لا يستطيع وحده دراسة المرحلة التاريخية والاثار وبقايا العظام اذا لم يتم الاستعانة بالخيال الادبي وابداع الاديب لإرجاع الروح لتلك المخلفات . ولنأخذ مثالا : مقتل احد الملوك في عصر ما، لا يمكن دراسة هذه الحالة من الناحية العلمية والفحص المختبري فقط،  بل من خلال دراسة الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتلك المرحلة لكي نصل الى أسباب مقتله الحقيقية . ويرى العالم  د.هرنشو ان اقرب العلوم للتاريخ هو علم الجيولوجيا و حيث ان المؤرخ  يقوم بدراسة دور العامل البشري محاولا الاقتراب من الحقائق التاريخية، ولهذا يمكننا القول بان التاريخ هو مزيج من العلم والفن والادب.
 
من هو المؤرخ ومن يحق له الكتابة في التاريخ:
         المؤرخ هو ذلك الباحث العلمي الذي يدرس ويحلل ويدون عن التاريخ، وقد يفهم البعض بان مهمة المؤرخ هي كتابة التاريخ، ان كان للأفراد او المجتمع او الحوادث التاريخية، وهذا مفهوم خاطئ ، المؤرخ مهمته الرئيسية تحليل وفهم وتفسير الاحداث التاريخية استنادا الى أسس علمية رصينة بقصد الوصول للحقيقة او اقرب ما يكون للحقيقة؛ وان تقيم هذه الاستنتاجات والنتائج من قبل علماء مختصين في التاريخ بقصد الوصول الى حقائق تساعدنا على فهم الماضي والحاضر وما هو متوقع الحدوث في المستقبل.
  صفات المؤرخ
 من اهم صفات المؤرخ ان يكون محبا وعاشقا للبحث العلمي ويبتعد عن ممارسته كمهنة. وينبغي على المؤرخ أن يكون دائم الاطلاع على اخر البحوث المنشورة في الاختصاص وان يكون صبورا، وان استغرق البحث عن الحقيقة سنوات طويلة، أو شحّت المصادر. كما ينبغي  ان يكون صبورا ولا يبحث عن المنفعة الانية وحب الشهرة والظهور. على المؤرّخ ان يكون مخلصا ببحثه لا يكذب ولا ينافق و لا يخفي الحقائق وان يكون امينا علميا وان كانت هذه الحقائق تتعارض مع ما يؤمن به هو، او ضد المعتقدات والأفكار السائدة، وان لا يتأثر بالمؤثرات الحزبية والسياسية او بالقيم والظروف الاجتماعية السائدة. ويجب ان يكون دقيقا في اختيار المصادر ولا يقبل أي مصدر او وثيقة تتماشى مع رغباته وهو مؤمن بانها بعيدة عن الحقيقة وعليه اخضاع كل المصادر لميزان النقد والدراسة الدقيقة، لأنه قد يخرج بنتائج تخالف الموجود. وان يكون متقبلا للنقد وتعديل او تغيير أرائه او بحوثه في حال ظهور بحوث وحقائق تتعارض مع ما جاء به هو، لان البحث التاريخي كما ذكرنا ليس مطلقا كالبحوث العلمية.
 العلوم المساعدة للباحث في التاريخ:
 تعتبر معرفة اللغات من اهم العوامل المساعدة، فإلى جانب لغته الام واللغة الإنكليزية لابد من ان يلم بلغة العصر المقصود بالدراسة، وكلما تعددت اللغات القديمة والحديثة كلما سهّلت البحث العلمي للباحث. ومن العلوم الأخرى علم قراءة الخطوط وعلم الوثائق وعلم الرنوك ( العلامات والرموز والشعارات البارزة في العصر تحت الدراسة والاختام ) وأيضا علم النقود والمسكوكات . وعليه أن يكون ملما بعلوم الاقتصاد والجغرافيا وعلم الاجتماع والادب والفن، وان يكون ملما بعلم المنطق وفلسفة التاريخ وعلم النفس وعلم الاجناس وعلم الاثار والاحصاء والفلك والرياضة وعلم الحيوان والنبات وان يكون قد اختبر الكثير من البلدان والقارات من خلال سفره ورحلاته الاستكشافية. المؤرخ هو حقا موسوعة، والمؤرخ الحقيقي عليه أن يكون ملما بكل هذه العلوم الإنسانية والجوانب الفنية والإبداعية للنتاج الحضاري والبشري، فهو ليس مدوّن أحداث ماضية، وحسب. 
 
         في الختام لابد لنا ان نبين بان كتابة التأريخ او الإفتاء بنظرياته ليست من حق أي كاتب غير متخصص وان كان يحمل شهادة اكاديمية عالية في اختصاصات غير التاريخ او حتى في التاريخ العام اذا لم تتوافر فيه الشروط والمهارات والخبرات العلمية والشخصية والنفسية. ولان المؤرخ هو كالحاكم العادل لابد من ان يكون على مسافة واحدة من كل المؤثرات، وأن يكون همه الوحيد هو الحقيقة. فلابد من الحياد والنزاهة والصدق والروح النقدية. إن الفرق بين المؤرخ والحاكم هو ان الحاكم يستند على شهادات وادلة لأشخاص وعلى شواهد حية، اما المؤرخ فكل الشهادات والأدلة التي يعتمد عليها قد مات أصحابها. لذا لا يجوز لاي مثقف ان يفتي في التأريخ وهو لا يملك من صفات وخبرات وشهادات وكفاءة المؤرخ الحقيقي والمؤهل الا القليل، لان البحث العلمي والباحث العلمي ليس مجالا متاحا لكل مثقف او حامل شهادة عليا او رجل دين.
د.عامر ملوكا