المحرر موضوع: لا تعودوا زوّاراً لأرضكم  (زيارة 205 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل المونسـنيور بيوس قاشا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 241
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
لا تعودوا زوّاراً لأرضكم
« في: 18:57 13/03/2024 »
لا تعودوا زوّاراً لأرضكم
المونسـنيور بيوس قاشا
عالم اليوم عالم غريب وربما عجيب أيضاً. إنه غارق في الحروب وأشباه الحروب، فهو لا يفكر إلا بدمار الآخر والثأر منه وحبّ الأنا والكراهية المقيتة، وأصبحنا نعيش ثقافة الكـذب والضياع وشتى أنواع المحسوبيات المليئة بحب الأنا،
وبسبب ذلك ابتُليت كثير من معابدنا بأمراض روحية مخيفة لا شفاء منها، وببرص روحي، وبتديّن ظاهري تجعل منّا أناساً من أهل العالم، والرب يقول "أنتم لستم من العالم" (يو19:15) ومن خلال ذلك ندرك أننا من أرض الشرق، وموجودين فيها من أجل رسالة سامية. فوجودنا ليس صدفة أو عبثاً ولكن من أجل البشرى السارة نحن هنا، وإنْ كان عالمنا غريب وعجيب. فمن الشرق كانت البشارة، ومن هنا يجب أن تستمر وتتواصل إلى العالم بأسره.

     حقيقة وجودنا
نعم، إن الله أحبنا "فسكن بيننا" (يو14:1) وخلقنا على "صورته ومثاله" (تك27:1) من أجل هذا الشرق. فحضورنا وإنْ كان مؤلماً فهو دعوة سماوية في أرض السيوف والحراب والدنيا والقلاقل، لذا علينا ومطلوب منّا وقفة حقيقية لإثبات وجودنا وغايتنا في هذه البلاد من أجل التعايش السلمي، وليدرك الجميع أننا أصلاء ولسنا أرقاماً أبداً أو غنائم كي ينظروا إلينا بعين واحدة والأخرى على أملاكنا وعقاراتنا. فنحن خُلقنا من أجل البلد وحريته في الإيمان كما في الحياة ولسنا هنا من أجل الهزيمة والهجرة والرحيل وإن كنّا اليوم لا نريد إلا راحة البال والأكل الرغيد، ولا نفتش إلا عن النوم الهانئ والراحة الجسدية. فالعولمة جعلتنا مطيعين أكثر من حاملي صلباننا.
لنقلها صراحة: تطالنا كل يوم هجمات بشعة كما طالت بالأمس مسيرة أجدادنا وإن كان بنوع آخر، فالوضع الحالي مليء بالمآسي تتصدرها الحياة القاسية والمؤلمة من داعش والإرهاب ومؤخراً فاجعة الحمدانية والتي أودت بحياة أناس أبرياء ليس لهم من الدنيا إلا أن يكونوا أمناء لوجودهم وحرية عيشهم. فالحياة كُتبت لنا فترة هدوء وأخرى مظلمة، ولكل مرحلة منها أشخاص صالحين كانوا أو أشراراً يحملون لنا نظرات استعباد والعمل من أجلهم، وما ذلك إلا تفكير بعض منهم. وبسبب خوفنا منهم نحن لهم مطيعون، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، لذلك لا نفكر إلا بالهجرة لعلّنا نجد ضالّتنا في بلدان نقصدها، فتنقص أعدادنا، ويكتبوا لنا في سجلات التاريخ ما شاءوا دون مراعاتنا ودون قول الحقيقة من أجل أن يسدلوا الستار عن حقيقة وجودنا لأنهم أرادوا ذلك.

     هجرة ... ومظالم
أليس ترك البلد والهجرة منه بسبب هذه المظالم التي نعيشها في شرقنا هذا الغالي علينا، ولكن ما العمل إذا أصبح التراب ليس ترابنا والحقيقة فُقدت من سجلات أرضنا ووجودنا، لذلك أقول: ما نحياه في الشرق ما هو إلا مرحلة مؤلمة. فما يحصل لنا مخيف ومخيف جداً ولكن أقول: هل يجوز أن نرحل أو نهاجر وإنْ كانت الطريق مفتوحة أمامنا عبر عوائلنا أو لمّ الشمل أو عبر مبالغ من الأخضر؟ وهنا أسأل: ربما أيها الراحل ستقول لا يمكن أن أنسى إنجيلي وسأبقى مسيحياً مواصلاً مسيرتي وبشارتي، ولكن أليس ذلك طريق مسدود لأنك محوتَ اسمكَ من ترابٍ أحبكَ قبل أن تحبه، وعبر ذلك لتعلم أن أشخاص اليوم سيزولون يوماً وأما التراب فباقٍ باقٍ. فما أراه اليوم مخيفاً نعم ومؤلماً لأنه يفتقر إلى الحسّ الإيماني قبل العولمة الدنيوية. وعلى الإنسان أن يشعر أنه تابع للأرض التي احتضنته ولا يشعر أنه يفتش عن أرض بديلة بل عليه أن يعمل من أجل خلاص أرضه. وليعلم أننا نحن اليوم أمام اختيار كبير وكلٌّ يفتش عن مصالحه وأنانيته وهذا ما يعمله المستفيدون من عملية التهجير هذه ويرسمون لها كيفما شاءوا فيجعلوا أنفسهم آلهة التهجير والرحيل، وكبار زمننا ورجال معابدنا يسمعون ويعرفون ولكنهم لا يقولون كلمة عبر شفاههم. وما يؤلمني أكثر أن أرى أبناء شعبي يرحلون جماعات ووحدانا، عوائل وأفراد، بحججٍ كثيرة لم تكن في الماضي القريب. ففي ليلة وضحاها يرحل الفرد وربما دون أن يُلقي التحية على جاره، ويضيع عن الوجود في منطقته، وعبر هذا كله عمله هذا أحبط عزيمتنا جميعاً، ونسى أن هذه كانت ولا زالت أرضه وترابه، وإن أجداده شيّدوها بألم سواعدهم متأملين من أولادهم أن يحموها من الكوارث والمصائب ويكونوا لها مخلصين، ولكن ما حصل كان العكس تماماً.

    إفراغ الأديرة
نعم، إنها لمرحلة دقيقة تلك التي نحياها وستبقى. هذه المرحلة نقول فيها ونفكر ونقرر، فلماذا لا نهاجر من بلدنا؟ لماذا هذه الحياة القاسية والعولمة تدعونا إلى عيش ما نعتبره كريماً؟ فلماذا نحن في خطر الحياة؟ فهناك من يعطينا الكرامة والأخضر للحياة. ودائماً تحضرني حياة القديس البابا يوحنا بولس الثاني حينما كانت الشيوعية تغزو بلاده، فإنني أحسب ذلك شهادة ولا شيء آخر. إنه الالتزام بالإيمان وإلى عدم القنوط والخوف من أن نكون مسيحيين وإنْ كنا قطيعاً صغيراً. وما كنائسنا ومعابدنا ومزاراتنا إلا رموز لإيماننا، فكفانا نحمل حقائبنا وحقائب أولادنا كما نشاء وننسى أن البشرى السارة رسالتنا. فهل تعلمون أنه برحيلكم وهجرتكم تعملون على افتقار عنصركم المسيحي بقلّة أعدادكم وإنْ كانت الأعداد لا تمتّ صلةً بحقوقكم، ولكن شرقنا هكذا يريد فلا يفتش عن الإنسان بل عن غاياته. فإفراغ البلد من عنصركم خطيئة جسيمة بينما لهم مكسب كبير، ومن المؤسف أن يكون المعبد هو أحد أزلام الرحيل ورجالاتها ومشاركين ربما بإفراغ الأديرة والمقدسات من أجل هوانا ودنيانا.
أقولها حقيقة إن المعبد يحتاج بين فترة وأخرى ومن وقت لآخر إلى هزة من أجل تطهيره وهذا لا يعني أن أصلاء أرض المعبد أن يهاجروا ويرحلوا، والتطهير كي لا تعامَل مسيرة الحياة بحياتها المتعبة والمصلحية والأنانية، وربما الاضطهادات وفترات الاستشهاد ما هي إلا لبيان الثبوت والصمود وبيان المحبة، فهناك الكثير ممّا يتراءى لهم أنهم متدينين وليس مؤمنين فتراهم لا يعملوا إلا ما يفكرون به وكأنهم يريدون أن يكون الإله مؤيدهم في مشاريعهم لأنهم يفكرون أن الدين قد كتب لهم فائدة وما هي تبعيتهم للدين إلا لمنفعتهم وكل ذلك على حساب المسيح. ومن المؤلم أن يعملوا من أجل مخططات لتدمير الآخر وإنجاح مصالحهم ولن نحصد إلا الهجرة والمزيد المزيد.

     الختام
أحبائي... الهجرة والرحيل لا يحلان المشكلة بل أنتم شهود وشهداء ولستم راحلون ومهاجرون، ومن المؤسف أن تكونوا علامات الإفراغ بل الثبات وما ذلك إلا ضمن رسالتكم، فما أنتم إلا رسل الحياة في زمن الألم من أجل القيامة إذ لا يمكن أن تكونوا الكنيسة المهجرة وكنيسة الرحيل وإن أرادوها لكم غيركم. فانتبهوا، فالشيطان جرّب المسيح الحي ثلاث مرات وفي الثالثة قال للشيطان "إذهب عني يا إبليس للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (لو8:4) جميل جداً أن تكونوا في رسالة الشهادة من أجل بقائكم، فلا تجعلوا أبناء كنائسكم ينظرون إليكم خوفاً بل ومعهم ارفعوا صلاةً إلى رب السماء فلا تبيعوا شرفكم من أجل هواكم وراحتكم وأخضركم، فالمسيح الرب قال لكم مرات عدة "لا تخافوا" (متى24:14 ويو20:6) ولستُ أنا أقول ولكن الرب يسوع قالها لكم وما أنا إلا عبدٌ، لذلك اختارني الرب أن أكون بينكم وما لي إلا قول الحقيقة من أجلكم.
فالأرض أرضكم وتبقى تشهد لحقيقة وجودكم رغم رحيلكم ومهما حاول المغرضون إفراغها وطردكم بأدب. واعلموا أن المسيحية قد غيّرت ولا زالت تغيّر وجه التاريخ. فليكن إيمانكم إيمان الأصلاء وليس تديّن المسيحيين المصلحيين، فالإيمان هو عمق الحياة وأما التديّن فهو كبرياء الزمن وإن كان المسيحيون يتباهون بذلك فلا تعودوا لأرضكم زوّاراً أبداً فأنتم أصلاء... نعم أصلاء... نعم وآمين.