المقابلة
كانت الغيوم سوداء، كثيفة وكئيبة، على الأغلب ستمطر، قالها سعيد وهو ينظر إلى السماء عبر النافذة المجاورة.
ترك فراشه بعد أن لكز زوجته محاولا إيقاظها. غاب قليلا في الحمام، ثم عاد بوجه مغسول، وشعرا ممشطا، وذقن حليقة.كانت زوجته قد استيقظت وأعدت قهوة الصباح.
- صباح الخير، قالتها زوجته بابتسامة طيبة اختلطت برائحة القهوة !.
-صباح الخير...طقس محير !ألم تنتبهي؟! غيوم مكدسة في السماء منذ يومين ولا تسقط قطرة مطر...! ....شيء غريب فعلا.
- اتركنا من قصة المطر ، ولا تتهرب من الموضوع،توقفت زوجته قليلا ثم تابعت :يا سعيد أريدك اليوم أن تذهب إلى العمل وأنت بكامل أناقتك ، بشكل خاص هذا اليوم ، صحيح انك لا تسمع الكلام ، قلت لك البارحة أن تذهب إلى السوق وتشتري لك طقما جديدا ....ماذا ست...
قاطعها برفع راحته وتحريك رأسه موحيا لها بأنه يعرف ما ستقوله
- تتكلمين عن الأناقة ...هه!؟ وهل تعرفين كم يكلف الطقم هذه الأيام؟ توقف قليلا وكأنه ينتظر ردا ...ثم أجاب بصوت عال :انه يكلف ضعف راتبي الشهري، يعني اشتري طقما ولا أكلنا ولا شربنا لشهرين .. رشف قليلا من قهوته ، ثم تابع : يا ستي ومن سيدقق، كلها مقابلة لعدة دقائق ،لو تعرفين يا ليلى حين اخبروني البارحة أن التلفزيون سيأتي إلى الشركة لإجراء ريبورتاج عنها، وأنه سيجري مقابلات على الهواء مباشرة مع مدير الشركة ومع بعض الموظفين ومعي ، من ذلك الوقت وأنا أفكر فيما سأقوله ، صحيح أنها مقابلة قصيرة ،ولكن يجب أن أتكلم ..نعم يجب..
ثم أردف بصوت عال : يعني إلى متى يبقى المرء صامتا؟!!..
- ولماذا أنت..؟ ، دع غيرك يفعل ذلك، يعني ضروري تخربها بعد كل هذه السنين؟!
- خربانة ...خربانة ..أكيد التلفزيون يستطيع أن يتصرف، انه الدولة، انه الحكومة يا ليلى، وهو سيحقق في الأمر و يتأكد من صدق كلامي. تنهد قليلا ثم نظر إلى زوجته وقال: البارحة لم أنم إلا متأخرا وأنا أفكر بالأمر...توقف لبرهة ثم تابع بصوت منخفض كأنه يكلم نفسه:
مدير الشركة رجل محسوبيات..علاقاته مشبوهة مع تجار البلد.. صفقات..رشاوى هو وبعض الموظفين المقربين، يتصرف بالشركة وكأنها ملكه الخاص..وما خفي كان أعظم !؟..أما نحن ؟..تنهد قليلا ثم ضحك باستهزاء وهو ينهي كلامه :
قطيع غنم!!.
كانت ملامحه تتلون وتتعرج مع صوته المتقطع العميق الذي اختلط فيه الحزن بالغضب.
لم تعلق زوجته،فقد كانت مأخوذة بكلامه الذي لم يفاجئها، فقد كان لسنوات يحكي لها عن الفساد الذي تعاني منه الشركة وعن أولئك اللصوص الذين يتحولون خلال فترة قصيرة إلى أصحاب الملايين، بينما لا يزال هو على حاله،يرفض المال الحرام ،ولا يقبل حتى الهدايا ،و يترقب موعد تقاعده القادم بعد سنتين ، فلم يبق في العمر أكثر مما مضى !
لم يكمل سعيد قهوته، بل أسرع يلبس من ثيابه أحسنها حسب توجيهات زوجته، ثم خرج إلى الشارع، دون أن يودع زوجته التي كانت في المطبخ تعد طعام الإفطار.
في الطريق إلى الشركة كانت الأفكار والهواجس تتلاطم داخل رأسه الأشيب، العنيد، حتى أنه أحس أن دماغه قد تحول إلى مصنع هائل للضجيج....
....اي سيدي الواحد يقول كلمته ولو على قطع رأسه !؟..وماذا سيحدث؟..يفصلوني من العمل..؟ ..فليفصلوني..لا يهم ،ولكن ..كيف لا يهم ؟!! وهل أنت تعيش لوحدك ؟
أليس لديك زوجة و أبناء ؟.. لكن الحق حق ويجب أن يقال، ولو بعد حين !..
...طيب، ماذا لو صدقوك ؟... حتما سيحققون في الأمور ويتأكدون، ولكن هل سيصدقونك؟!...أستطيع أن أثبت كل كلمة سأقولها وأنا مسؤول عن كلامي..ولكن من يعلم ؟!..المدير له علاقات ، كذلك المقربين منه ، ساعتها قد تتعرض للفصل من الوظيفة ، وربما تحرم من معاشك التقاعدي!..اي سيدي ما في إنسان بيموت من الجوع ،بس كل الناس تموت من الذل والصمت!!؟
تنفس الصعداء بعد هذه العبارة، وبدا كمن أعيد له اعتباره وقيمته بعد احتقار ومهانة!.
حين وصل إلى الشركة كانت الأفكار والهواجس قد اختفت في مكان ما، وبدا يومه الجديد في الشركة لا يختلف كثيرا عن باقي الأيام.
كانت الشركة نظيفة كما لم يعهدها منذ زمن بعيد فلا أثر للأوساخ أو لأعقاب السجائر
التي كانت تنتشر في المكاتب أو الممرات وقد بدا له كل شيء لامعا ومرتبا ، إلى درجة انه خيل إليه للوهلة الأولى انه في شركة أخرى أنشئت حديثا !لقد كان كل شيء يوحي بالأناقة أضفى عليها الهدوء رونقا خاصا، فحتى الحديث بين الموظفين كان هامسا، ولا يكاد يسمع!
دخل مكتبه الصغير، ثم بدأ يرتب بعض الأوراق، وحين أراد أن يراجع البعض الآخر، انتبه إلى انه نسي نظاراته الخاصة بالقراءة في البيت.أعاد الأوراق إلى مكانها ، سكن لبرهة، ثم راح يتأمل مكتبه ،هذا المكان الضيق الذي كان يحاصره بأشياءه، هذا الحيز الصغير الذي أمضى فيه قرابة نصف عمره ، هذه الجدران التي تآكل دهانها والتي كانت شاهدة على شقاءه ومعاناته ، هذه الأضابير الكثيرة التي علاها الغبار والتي أورثته الأمراض وسرقت ضوء عينيه!.
قام من وراء مكتبه واتجه نحو المرآة المكسورة المثبتة على الجدار المقابل ، ثم راح يتأمل وجهه وثيابه ، حين فاجأه مستخدم الشركة:
-اي شو هالاناقة أستاذ سعيد، صباح الخير، جماعة التلفزيون عم يسألوا عليك.
-جاي !
ارتبك قليلا، سوّى بذلته، ثم خرج إلى حيث ينتظره الفريق التلفزيوني.
لم تستغرق الإجراءات الفنية سوى بضعة دقائق...
-هل تعرفنا بنفسك ؟
-اسمي سعيد عبد الباقي
-أستاذ سعيد، أنت أقدم موظف في الشركة، حدثنا عن عملك وعن الشركة بشكل عام...
-أنا اعمل موظفا في ديوان الشركة، وهو بالمناسبة عمل ممتع ! وأنا أحبه..نعم ، وكما تعلمون فان هذه الشركة هي من أقدم الشركات في القطر ، كما أنها تتمتع بإنتاج كبير وسمعة عظيمة ، كل شيء هنا يسير وفق خطة مدروسة ، والموظفون يتعاونون معا في خدمة المواطن وكأنهم أسرة واحدة،وأنا هنا انتهز هذه الفرصة لأشكر مدير هذه الشركة ،رب هذه الأسرة الكبيرة ،والرجل القدير،على جهوده الجبارة في إنجاح العمل من اجل تقديم أفضل الخدمات للمواطنين، وأنا حزين لأنني سأتقاعد وأغادر الشركة بعد سنتين ، ولكن عزائي هو الذكرى العطرة التي سأحملها معي ما حييت!....نعم ..
لم تستمر المقابلة سوى بضعة دقائق ، عاد بعدها إلى مكتبه، جلس ساهما لايفكر في شيء، حتى انتهى دوامه.
خرج من الشركة ،توقف ،نظر إلى السماء،كانت الغيوم سوداء، كثيفة وكئيبة دون أن تظهر أية إشارة لسقوط قطرة مطر.