المحرر موضوع: الناصرية .. شجرة ألله الطيبة ... قيثارة العراق الشجية  (زيارة 1617 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Amer Hanna Fatuhi

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 124
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الناصرية .. شجرة ألله الطيبة ... قيثارة العراق الشجية


للناصرية (أور) وبالسومرية (شش أونو كي) مكانة أثيرة في قلبي ليس لأنني قضيت فيها أجمل سني عمري التي توزعت بين العمل والنفي والإعتقال الذي أشبهه على حد قول شاعرها الأسدي (وما بلد ضمني سجنه ولكنه قفص البلبل) . بل لأجل تاريخها الذي هو جوهرة متميزة بين جواهر التاج العراقي العريق ولأجل ناسها الطيبين المغسولين بالعشق السومري والمطيبين بالأريج الكلدي المضوع بالمحبة . الناصرية أور المقير أو أور الكلدان الأوائل كما تعرف عالمياً ، مدينة المدن الأولى وبوابة العراق على بحر الكلدان القديم (تام تي شا مات كلدي) الذي يعرف اليوم بالخليج .

أن سحر ليالي الناصرية بسمائها الصافية كعيون الأطفال لا يمكن أن ينسى ، لا سيما تلك الليالي التي كنت أقضي جلها في حضن زقورتها ذو المعبدين العلوي والسفلي (E kish nu gal) ، تلك الزقورة التي شيدها أورنمو وأبنه شولكي وعمرها نبونائيد ، التي كنت أفتح عيني وأغمضها لسنين على مرأى هامتها الشامخة ، سنين الناصرية الحبيبة ولياليها العامرة تلك أثمرت أول كتبي (أور الكلدان ... رؤية عراقية) ومنحتني معارف لم أكن لأحلم بها يوماً .

ترى كم من الذكريات والأسماء الحبيبة والصديقة والتفاصيل الموغلة في خصوصيتها تلك التي يمكن لي أن أستذكرها كلما رن في أذني أسم الناصرية والفرات وشارع النيل وساحة الحبوبي والأور والمكير والشطرة والغراف وسوك الشيوخ والعكيكة والجبايش والفهود والرفاعي وجلعة سكر وغيرها . وتريات مظفر وتفاصيل تشابيه معركة الطف ووهب النصراني وأمه وعمود الخيمة ، مسابقات الدارمي وأغنيات جعفر حسن وجرزات حسين نعمة التي كان صديقنا الطيار المدني الشهيد طالب التركماني الكوردي الشيوعي يقول فيها متفكهاً (لا أعرف إيهما تهون عليّ طول السهر جرزاته أم أغانيه) ؟
كؤوس العرق التي كانت وما تزال لذة للشاربين والتي منحتنا يوماً إبتسامة عريضة عندما صحونا ذات يوم ثمانيني لنرى تمثال الحبوبي ملوحاً بزجاجة عرق وضعها ليلاً أحد الظرفاء !

أن مدينة الناصرية وأهلها الطيبين الذين عانوا الأمرين أيام الحكم الصدامي البائد والتي تعيش اليوم وضعاً خدمياً لا يقل بؤساً عن الأمس ، تثبت للجميع بأن مدينة عمرها بعمر العراق لا يمكن لها أن تنكسر أو أن تتنكر لتاريخها العريق .
أو ليست أور الناصرية هذه أحدى أولى مدن العراق الجنوبية الثلاث : أريدو (عاصمة الكلدان الأولى) ، وأور (التي أبتكر فيها القلم الكلداني الحديث) على عهد ملكها الشمس(نبوخذنصر) الذي ترجع عائلته المنحدرة من بيث ياقين إلى ثالثة المدن الجنوبية أوروك . أور هذه شهدت إنطلاقة الكلدان في عهدهم الذهبي يوم تمكن ملكها نبوبلاصر من الإستقلال ببابل وتأسيس السلالة الكلدانية الذهبية أو السلالة البابلية الحادية عشر .

أوليست أور الناصرية هذه التي أبتناها الكلدان الأوائل في أواخر الألف السادس ق.م من أستقبلت في منتصف الألف الرابع ق.م جموع السومريين الرافديين الشماليين الذين طبعوا أهلها منذ عهدذاك بعيونهم الواسعة الآسرة الساحرة ومنحوا صبايها هبة الدلال الآسر وهن يتمايلن على إيقاع ضفائرهن المخضبة بالحناء متشبهات بملكتهن الرائعة (بو آبي) التي أذهلت الآثاريين والمؤرخين وتجاوز حضورها المعجز هؤلاء الآثاريين إلى الأدباء والروائيين ، وما إنبهار الروائية البريطانية أجثا كرستي بأور من خلال رواياتها الشهيرة إلا شهادة حية على ذلك الإعجاب المنقطع النظير .

لأور منزلة أخرى ليس مثلها منزلة ، ففيها تبينت محبة ألله للعالم ومنها هاجر أبنها إبراهيم الكلداني إلى الأرض التي وعده بها ألله ولنسله (تكوين 15 : 7) وكذلك سورة المائدة (5 : 20 -21) وأيضاً سورة الأعراف (7: 127)  . ومن تلك المدينة العريقة ، كان الملك الكلداني الثائر (مردوخ إبلا إيدينا) يقارع الجيوش الغازية الكبيرة العدة والعدد بأسلوب حرب العصابات الذي أبتكره ، منطلقاً من أهوار الجبايش في عمليات سريعة قاصمة وحاسمة مستخدماً مريديه ومحبيه من سكنة الأهوار بشباكهم وفالاتهم ومشاحيفهم حتى تمكن من تحرير بابل ، تلك العمليات القتالية المبتكرة أثبتت جدواها وأبلت ثانية بعد قرون مستعيدة مجد أبنها الملك الكلداني الثائر (مردوخ بلادان) ، وذلك في عهد الدكتاتور السابق الذي ذاق الأمرين على أيدي الثوار المتمركزين في الأهوار.

وإن أنسى فلا أنسى أيام الثورة الشعبانية وكنت وقتذاك في الناصرية ، حيث تقطعت بنا السبل بين شوارع مخربة طافحة بالماء والطين وجسور مهدمة ومواصلات معطلة ومطر كالسخام ، ثم كان الإلتفاف على الإنتفاضة بترتيب مريب من توابين وعناصر أمنية مخربة زرعها النظام البائد بتشجيع من دول الجوار بين جمهور الناقمين على السلطة البائدة ، فهب الأصدقاء والأحبة ومنهم قاسم رحمن (أبو محمد) الذي  نصحني بترك الناصرية التي لم تعد آمنة وساعدني للعودة سالماً عن طريق السماوة وبابل إلى بغداد .

الناصرية (أور) التي أبتناها الكلدان الأوائل في الألف السادس قبل الميلاد تستعيد اليوم زهوها العراقي الأصيل وتكشف عن طينها الحري ، فتكرم بكل فرح وإعتزاز أبن العراق البار وسليل مؤسسيها الأوريين الأوائل غبطة مولانا البطريك عمانوئيل الثالث دلي الكلي الطوبى من خلال إعتماد أسم نيافة أبينا الكاردينال لبطولة دورة كروية شبابية بمبادرة من أعضاء المنظمة العراقية لإسناد الإنسان في الناصرية ، لتقول لذلك البعض من العراقيين (المتفرسين والمستعربين) : بأننا عراقيون أولاً ، وبأن الناصرية كانت وما تزال قلب العراق النابض بالمحبة وراحة اليد التي من أن نعطش حتى تسقينا ماءً زلالاً (تعطش وأشربك ماي بجفوف إيدية) .
الناصرية (أور) هذه كانت وستبقى سليلة المجد العراقي العريق ، شجرة ألله الطيبة التي لا ينال منها قولة القائلين ، زقورة التقوى ومهد الصالحين ، قيثارة العراق الشجية وتخومها وفراتها أبداً قبلة الأولين والآخرين .

عامر حنا فتوحي / الولايات المتحدة الأمريكية


لمشاهدة تفاصيل مصورة من دورة نيافة (الكاردينال عمانوئيل الثالث دلي) الكروية التي تقام في الناصرية جنوب العراق أنظر الرابط التالي :

http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,165388.msg3018351.html#msg3018351