المحرر موضوع: الديمقراطية ...... كانت الأساس لنشوء أولى أنظمة الحكم في الحضارة العراقية القديمة  (زيارة 3847 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل duraid_saleem

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 62
  • الجنس: ذكر
    • مشاهدة الملف الشخصي
الديمقراطية ...... كانت الأساس لنشوء أولى أنظمة الحكم في الحضارة العراقية القديمة



    الديمقراطية هذا المصطلح الذي بدأنا نسمع به حديثا والذي وصلنا في السنوات الأخيرة نتيجة التغييرات التي طرأت على الأوضاع السياسية للعراق خصوصا في السنوات الخمس الأخيرة. اختلف الباحثين في المكان الأول لنشوئها ، فقد كان إلى وقت قريب يظن العالم أجمع أن مولد الديمقراطية كان في مدن الإغريق في الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد، إلى أن قام الباحث الأوربي جاكبسون بوضع نظريته خاصة بكيفية نشوء أولى الأنظمة السياسية وأسلوب تطورها حتى ظهور النظام الملكي الوراثي، فقد أستنتج جاكبسون من خلال دراسة عدد من النصوص المسمارية كالملاحم والقصص بأن مولد الديمقراطية كانت في هذه الأرض المعطاء، أرض دجلة والفرات العظيمين، قبل الإغريق بما يقارب 2000 سنة.
   إن طبيعة أرض جنوب العراق القاسية وما أملته على سكان بلاد الرافدين من متطلبات لتسخيرها لصالحه قد يعطينا تصورا عن أولى أنظمة الحكم. فقد أملت هذه الطبيعة من قلة أمطارها وارتفاع درجات الحرارة خصوصا أثناء أشهر الصيف وبفيضانات نهري دجلة والفرات المفاجئة والمدمرة، نمطا معينا من الحياة، فأن أراد السكان العيش برخاء واطمئنان أن يعملوا متعاونين متكاتفين من أجل فتح القنوات والجداول لري الحقول وتصريف المياه وكري الأنهار والجداول وبناء السدود لدرء أخطار الفيضانات وتجميع القوى القادرة للتصدي لأي هجوم أجنبي.
   وكما هو معلوم أن الأعمال الجماعية كانت بحاجة إلى أدارة حازمة تسيطر عليها وتنظمها وتوجهها لفائدة المجموعة. ولابد وأن كانت ثقة الناس خصوصا في العهود المبكرة في الأشخاص القائمين على خدمة الآلهة، ألا وهم الكهنة، فقد أعتقد السكان بأن الكهنة كانوا الوسطاء بينهم وبين الآلهة، فانتخبوا من بين أولئك الكهنة من يتولى الأشراف على الشؤون الدنيوية إضافة إلى الواجبات الدينية وقد أطلقوا على الشخص المنتخب التسمية السومرية ( آين EN) أي السيد أو الحاكم وكان هذا الحاكم يقيم في جناح خاص داخل المعبد، لكن بمرور الزمن ونتيجة لتطور الحياة وتعقدها وازدياد مسؤوليات الحاكم الدنيوية، أنتقل مقر حكمه إلى قصر خاص منفصل عن المعبد وما لبث أن أصبح له حاشية كبيرة، في حين أنيطت المسؤوليات الدينية إلى كاهن أخر، فأصبح الحاكم يلقب بلقب ثاني وهو (LUGAL) بالسومرية و(šarru) باللغة الأكدية ويعني (الملك)، في حين أصبح لقب (En) يرمز إلى مركزه الديني ، وهكذا أصبح نظام الحكم نظاما ملكيا وراثيا وذلك منذ استلام الأكديين لزمام الحكم في بلاد الرافدين في حدود 2371ق.م. بعد أن كان العصر السابق وهو عصر فجر السلالات يتسم بنوع من الديمقراطية البدائية كما سماها الباحث الأوربي جاكبسون.   
   ومن خلال هذا المقال سوف نتعرف على أفضل دليل مادي أثري الأ وهو قصة البطل كلكامش خامس  ملوك سلالة الوركاء الأولى بحسب جداول الملوك السومرية و((آكا AGGA )) أخر ملوك سلالة كيش الأولى بحسب جداول الملوك السومرية أيضا. وكلاهما حكم في أواخر عصر فجر السلالات الثاني في حدود 2500 ق.م.
   لقد وجدت هذه القصة، وهي مدونة على أحدى عشر قطعة من ألواح الطين، أثناء التنقيبات الأثرية في مدينة نفر الأثرية. أن لهذه القصة أهمية سياسية فهي تعكس الأحوال السياسية لعصر مهم من عصور العراق القديم الأ وهو عصر فجر السلالات وقد قام الباحث الأثاري جاكبسون بدراستها إلى جانب عدد أخر من القصص والملاحم العراقية القديمة دراسة مستفيضة توصل من خلالها إلى وضع نظرية خاصة بكيفية نشوء أولى الأنظمة السياسية وأسلوب تطورها وفحوى هذه النظرية أن أولى الأنظمة السياسية في المدن العراقية القديمة كانت تتسم بنوع من الديمقراطية الأ أنها كانت ديمقراطية بدائية كما عبر عنها جاكبسون.
   وخلاصة القصة أن ((أكا)) ملك كيش أراد أن يمد سلطانه على دولة المدينةْ الوركاء وكان يحكم فيها كما ذكرنا الملك كلكامش وقبل أن يعلن الحرب على الوركاء بعث برسله إلى كلكامش تحمل إنذارا له بأن يكون خاضعا له، يعترف بسيادة كيش على الوركاء، وهنا تذكر القصة حدثا مهما وهو أن دويلة الوركاء كان يدير شؤونها المهمة مجلس شورى أو برلمان مصغر مؤلف من قسمين أحدهما يمكن أن نسميه بمجلس الشيوخ المدينة والثاني مجلس المحاربين، وكان مجلس الشورى هذا يجتمع ويتخذ القرارات الخطيرة والحاسمة كالحرب والسلم على غرار البرلمانات العالمية في وقت الحاضر، لذلك أستدعى كلكامش أولا مجلس الشيوخ المدينة وعرض عليهم الأمر لكن المجلس رأى الرضوخ والاستسلام بدلا من الحرب، فأمتعض كلكامش وعرض القضية على مجلس الرجال المحاربين فاستجاب هؤلاء وقرروا الحرب دون التفريط باستقلالهم وحريتهم.

   وفيما يلي ترجمة لأسطر الواضحة من  الملحمة وهي مقتبسة من كتاب ((ملحمة كلكامش)) للأستاذ المرحوم طه باقر:-

" أن رسل (أكا) بن (إينمر براكيسي)
شرعوا بالسفر من كيش إلى (كلكامش) في الوركاء
فعرض الحاكم كلكامش الأمر على مجلس شيوخ مدينته
عرض الأمر عليهم وطلب منهم المشورة قائلا:-
علينا ألا نخضع لبيت كيش بل لنحارب بالسلاح
ونرفض أعمال السخرة وحفر الآبار
فأجاب مجلس شيوخ المدينة وقالوا لكلكامش:-
لنخضع لبيت كيش ولا نحارب بالسلاح
لنخضع لأعمال السخرة وحفر الآبار
أما كلكامش الذي حقق أعمال البطولة لآلهة إنانا
فلم يرض ويسر بكلام شيوخ مدينته
إن كلكامش مرة أخرى عرض الأمر على رجال مدينته المحاربين
وطلب منهم النصح والمشورة قائلا:-
لا تذعنوا لبيت كيش بل علينا أن نحارب بالسلاح
فأجاب رجال المدينة المحاربون وقالوا لكلكامش:-
لا تذعن وتستسلم لبيت كيش
أيها القائمون والقاعدون لا ترضخوا لبيت كيش
أنتم الذين ربيتم مع أبناء الملك
لا تخضعوا لبيت كيش بل دعونا نقاوم بالسلاح
أن أوروك المدينة التي  شيدتها الآلهة
و(أي- أنا) ، البيت الذي هبط من السماء
أن الآلهة العظام هم الذين صمموا وأقاموا أجزاءه
وأن سورها الذي يناطح السماء
وأن بيتها السامي الذي أسسه (أنو)
أنت يا (كلكامش) الذي رعيته، أنت الملك والبطل
أنت الأمير الذي يحبه (أنو)
فكيف خفت من اقترابه
فأن جيشه مبعثر صغير
وأن رجاله ليسوا جنودا شجعنا
وعندئذ فرح وسر (كلكامش) لكلام رجال مدينته
وقال لتابعه(أنكيدو)
عليك أن تهيأ الآن الـ (شكارا)  يوم تشتد المعركة
أجمع آلات القتال
ودعها تحدث الرعب والهلع
أما عن (أكا) فأن الخوف مني سيتسلط عليه
وسوف يضطرب أمره ويحل به الوهن
ولم يكد يمض أكثر من عشرة أيام
حتى وصل (أكا) بن (إينميركار) وضرب الحصار على (أوروك)
وحل الوهن والرعب في (أوروك)"
...  ... ... ... ... ... ... ...



ويعقب ذلك أسطر مخرومة غير كاملة، ولكن يستدل من الكلمات المتقطعة الباقية منها أن المدافعين عن مدينة الوركاء قد أخذوا بغتة فأضطر كلكامش إلى إرسال رسله إلى (أكا) طالبا منه الصلح، وقد قبل (أكا) الصلح ورفع الحصار عن أسوار الوركاء. وتنتهي هذه القصيدة السومرية المؤلفة من 115 سطرا بتمجيد وتعظيم كلكامش.


                                                                                         دريد سليم بولص   
                                                                                       بكالوريوس آثار قديمة