المحرر موضوع: العولمة هل هي حديثة العهد؟  (زيارة 1528 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل تيري بطرس

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1326
  • الجنس: ذكر
  • الضربة التي لا تقتلك تقويك
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
العولمة هل هي حديثة العهد؟
لا اعتقد ان هنالك ظاهرة استحوذت على الاهتمام خلال السنوات الاخيرة مثل ظاهرة العولمة، فككل ظاهرة  لها من المؤيدين والمعارضين، وكل يدلو بدلوه في هذا النقاش المستعر، الممتد منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، فما هي هذه الظاهرة؟ اعني العولمة.
العولمة ظاهرة اقتصادة اجتماعية ثقافية، اعقبت مرحلة الدول القومية، اي هي ظاهرة فوق قومية، ولكنها بالطبع ليست بالبروليتارية، فمحركها الاساس التجارة والشركات الكبرى العابرة للقارات، ولكن ككل ظاهرة تترك بصماتها على المسار الانساني، فللعولمة مظاهر اجتماعية وثقافية تواكبها او هي نتيجة لها، ومن هذه المظاهر كل الاعمال الثقافية التي صدرت لتأيد هذه الظاهرة او لرفضها.
يمكن القول ان العولمة ظاهرة جديدة لانها تبحث وتقام لها المؤتمرات وتنشر باسمها كتب وتؤسس لها مؤسسات حديثا، ولكن من باب اخر يمكن اعتبار العولمة ملازمة للانسان منذ الخليقة، فالانسان الاول كان عالمه محدودا بما يعرفه من العالم ويمكن القول انه قد لا يكون اكبر من قرية وما يحيط بها من الجبال والسهول والوديان التي ارتادها لاجل الصيد، ولكن بمجرد ظهور حاجة الانسان لانسان اخر لسبب توفير مستلزمات جديدة يعني ان الانسان قد خرج من قوقعته الذاتية وبات يطلب التشارك مع انسان اخر لتبادل المنافع كان يتم تبادل لحم طريدة بالة حادة، ان هذه الظاهرة تترك بصماتها على الطرفين اجتماعيا وثقافيا، فاجتماعيا الطرفان ارتبطا ببعضهم البعض بمصلحة مشتركة وهي الرغبة في تنبادل المنافع من هنا سيزداد هذا الترابط ليتحول الى ترابط اسري وتتحقق حالات التزاوج  وتبنى اسر وتكبر لتصبح قبائل وعشائر، اما من النا حية الثقافية فالشحصان يصبحان بحاجة الى وسيلة تفاهم مشتركة ومن هنا تتولد الحاجة الى اللغة التي قد تكون اول الامر اشارة يديوية ومن ثم صوتية لتتحول الى اصوات مفهومة وكل صوت له دلالة معينة لدى الطرفين، ومن هنا تتوالد الشعوب، ومن هذه العلاقة بين هذين الشخصين تتطور المعارف والمدارك، فحتما ان لكل طرف منهما نوع معين من المعلومات التي اكتسبها جراء معيشته باسلوب او في عائلة او موقع مختلف عن الاخر وهنا يتم نقل هذه الخبرات الى الطرف الاخر وبذا تتكون ثقافة مشتركة.
هذا التصور المبسط هو بداية العولمة فلكل شخص من هذين الشخصين كان له عالمه الخاص وعندما اندمجا صار لهما عالم اخر بخبرات وثقافة وقدرات مختلفة، ومنهما تكونت كما قلنا القرى والقبائل والعشائر، وفي المجتمع العشائري كانت هناك عشار مختصة بنوع معين من الاعمال، ففي شعبنا مثلا كان اختصاص الكيرامون (ܓܝܪܣܢܝܐ) بحياكة الملابس والبازيين (ܒܙܢܝܐ) البناء والحدادة وهكذا، وكانت هذه العشائر تتبادل هذه السلع وتقوم بينهما علاقات اجتماعية من تزاوج والسكن المشترك، فتتكون بينهم اللغة المشتركة او اللهجة المشتركة واللغة هي نتاج التطورات العلمية والثقافية والاكتشافات بكل انواعها، فليس معقولا ان نسمي شيئا باسم ثلاجة ما لم نخترع شئ يقوم بمقام هذه الالة اي ان يحفظ الاطعمة والماء بحالة باردة، وليس معقولا ان نسمي شيئا بحرا ونحن لم نشاهد البحر او نسمع او نقراء عنه.
بتوسع حاجات الانسان وبتوسع طموحاته للسيطرة والاكتشاف والامتلاك توسعت مداركه ومعلوماته وتغيرت علاقاته الاجتماعية والسياسية والثقافية، فالانسان الامي الان يمكن ان يكون اكثرا علما من علماء القرن الرابع عشر مثلا، لان هذا الانسان الامي يتلقى معارف كثيرة من خلال التلفزيون والراديو والاصدقاء، وكمثال فان انتشار وباء مثل الكوليرا ما كان يمكن لانسان حتى المتعلم ان يقاومه في القرن الرابع عشر، ولكن انتشار مثل هذا الوباء في بغداد في منتصف ستينات القرن الماضي جعل والدتي وهي امراءة امية تقدم على سلق كل الخضروات لا بل قشر حتى الطماطة وغلي الماء قبل تقديمها لنا، اي تمكنت بما اكتسبته من المعارف من جيرانها ومن ما كانت تنقله الاذاعة من تطبيق بعض الخطوات التي  اعتقدت انها تقينا من الوباء وبالفعل ان اتخاذ الاجراءات كفيل بالحد من انتشار الامراض، اذا الانسان يمشي خطى سريعة نحو الاختلاط والتمازج والتفاعل لان الانسان محكوم بالبحث عن كل جديد.
كانت مرحلة اقامة الدول هي احدى المراحل الاساسية في تطور العولمة، ففي الوقت الذي كانت الدول المدن مكتفية ذاتيا بما تستحصله من الموارد من ابناء المدينة، الا ان الطموح والرغبة للتملك واظهار القوة، دفعت بعض المدن للتوسع والاستيلاء على المدن الاخرى  وظمها تحت سلطتها، ومن تم قامت الدول على اساس الظم لاسباب اقتصادية او لمجرد التوسع، لان هذه الدول في هذه المرحلة لم تحاول فرض ايديولوجيات معينة على البلدان الملحقة بهم، بل ترك لهذه المقاطعات حرية العبادة والتكلم بلغاتها، ولكن بشرط دفع الجزية او تقديم الهدايا، لابل ان الكثير من الدول كانت تضم الهة المقاطعات المستولي عليها الى الهتها وتضعها في معابدها.
في كل هذه المراحل تطور الفكر الانساني وزادت الاكتشافات وانتشر التعليم وخصوصا بعد اختراع الابجدية التي سهلت الكتابة والقراءة ومن ثم تدوين المعلومات الجديدة مما سهل عملية تراكم الخبرة لتحقيق انجازات جديدة، وبعد ظهور الاديان وقيام الدول على اساس الدين الرومانية بعد القرن الرابع والاسلامية بعد القرن السابع، ظهرت الدولة الايديولوجية، اي التي ليس غايتها الفتح لاسباب اقتصادية او لاظهار القوة بل اظيف سببا اخر ولكنه هذه المرة سببا لاراقة المزيد من الدماء والاكثار منها، الا وهو فرض الدين على المقاطعات المستولي عليها تحت طائلة الابادة او الاستعباد التام او فرض ظرائب ثقيلة على اهالي البلدان المستولي عليها، الا انه ورغم هذه الانتكاسة في المسار السياسي الا ان مسار العولمة والتلاقي وتبادل الخبرات استمر، فالعرب الذين حركهم الهاجس الديني ونشر معتقدهم في العالم والذين ما كانوا يمتلكون اي علوم غير الغزو وقول الشعر، استفادوا من اختلاطهم بالشعوب التي استولوا على اراضيهم مثل السريان (الاشورين والكلدان) في العراق وسوريا حيث استفادوا من علومهم ومدارسهم والمامهم بلغات عديدة، فاخذوا منها الكثير ونقلوها عير الاندلس الى اوربا التي لم تضعها في الثلاجة وتعتبرها نهاية العلوم بل درستها ونقحتها واضافت عليها.
ومنذ القديس توما الاكويني تلاحظ حركة التطوير في اوربا وتتالى ظهور العلماء والكتاب والشعراء والفلاسفة، ومع اكتشاف اميركا وانتقال ثروات كبيرة الى اوربا والتطور الصناعي بداءت بالظهور طبقة جديدة وهي البرجوازية او الوسطى وافول نجم طبقة اخرى الا وهي طبقة الاقطاعية من اصحاب الاراضي والمقاطعات الشبه المستقلة.
وهنا ظهرت حاجة الى سياسة جديدة لان الدول هظمت التغييرات الاجتماعية والثقافية الجديدة فظهرت الدول القومية الملائمة لتطلعات الطبقة الوسطى وثقافتها، وبرغم ان الدول القومية وضعت حدودا صارمة وفرضت قيودا شديدة للتبادل التجاري للحفاظ على مصالحها، الا انه في نفس الاوان ظهرت دول اخرى لا تتعامل بهذه المقايس بل بالانفتاح وانبنت على المهاجرين وقيم الليبرالية الاجتماعية والمواطنة والحريات التجارية ونعني بها الولايات المتحدة الامريكية، كانت الدول الاوربية والتي امتلكت المستعمرات الكبيرة مكتفية بمستعمراتها لتصريف بضاعتها الا ان التطورات التي حدثت في القرن العشرين ادت الى فقدانها لهذه المستعمرات، فاستعرت المنافسة على الاسواق لتصريف المنتوجات، وفي كل هذه الظروف لم يتوقف التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، لان التبادل في كل الامرو صار اسهل لان وسائل المواصلات والاتصالات جعلت من العالم قرية صغيرة فكل ما يحدث في اقاصي الارض يتم العلم به فورا في كل المعمورة وهكذا عدنا الى القرية الواحدة التي كان كل فرد يعرف الاخر ويعلم ما يحدث فيها.
اذا العولمة التي يحاول البعض اعتبارها امرا جديدا هي ليست كذالك بالمطلق بل الجديد فيها مؤسساتها وتقبل الدول لها والتبشير بها، كما انها من الحتميات التي لا بد منها لعدم ايقاف مسار تطور الانسانية وهي لا تكتفي بالنتائج اللاقتصادية، بل ان تجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية بداءت بالظهور منذ امد بعيد نسبيا، فالهجرة وانتشار ثقافات معينة ولغات معينة  في العالم  افرز اقرار مؤسسات عالمية مثل الامم المتحدة وهيئاتها التي هي مؤسسات فوق وطنية وكذالك قوانينها التي هي قوانيين انسانية غير تمييزية وخصوصا القوانين والمعاهدات الدولية باستثناء قوانين الصادرة عن مجلس الامن التي هي قوانيين تعبر عن ميزان القوى ولكنها تستند الى ميثاق الامم المتحدة.
ولعل اجل مظاهر العولمة في المجال السياسي هو كسر او تجاوز ما اصطلح على تسميته بسيادة الدول على مواطنيها وشعوبها، فالسيادة لم تعد امرا مطلقا بل يجب ان تتوافق مع معايير معينة معروفة وكل الدول او اغلبها موقع على هذه المعايير، فاذا لم تكن تعمل بها الدول من قبل لاسباب معروفة فالوقت حان لبدء فرضها تدريجيا على الجميع، لكي يبقى الانسان هو السيد وكرامته هي الاعلى. [/b] [/size]
ܬܝܪܝ ܟܢܘ ܦܛܪܘܤ