المحرر موضوع: "تحطيم المرايا، في الماركسية والإختلاف" لعبد الحسين شعبان  (زيارة 663 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1291
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
"تحطيم المرايا، في الماركسية والإختلاف" لعبد الحسين شعبان

النقد الذاتي  بداية الطريق إلى النقد الكلّي


في حوارات أجراها خضر ميري مع عبد الحسين شعبان، وجمعها في كتاب "تحطيم المرايا، في الماركسية والإختلاف"، عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت، و"منشورات الإختلاف" في الجزائر، يقدم الكاتب العراقي حزمة كبيرة من الآراء حول مختلف القضايا النظرية والفكرية والسياسية، انطلاقا من تجربته السياسية في الحزب الشيوعي العراقي. يعرض لآرائه ومراجعاته في الماركسية، ويتناول مسائل إصلاح الفكر الماركسي، والنظرة الى الدين، ويعرج على قراءة الماركسية والقضية الفلسطينية، والمسألة الكردية، وصولاً الى تعيين إشكاليات النقد الماركسي للماركسية.
يمثل الكتاب تجربة ذاتية للكاتب مليئة بمعاناة عاشها على امتداد عقود مع ذاته أولاً ثم مع تجربته الحزبية وخصوصا مع النظرية الماركسية التي التزمها نصّاً وممارسة.
يصف شعبان الماركسية التي وصلت الى العالم العربي ومنه الى الحزب الشيوعي العراقي بأنها "كانت معلّبة ضمن قوالب وأنساق ولا سيما طريقتها المدرسية التي تستبطن الإصطفافات الجاهزة حيث تذوب كيانية الفرد وخصوصياته في اطار جماعة، تعبر عن الرأي الواحد المركزي، الذي ينبغي ان يخضع له الجميع وفق تراتبية نمطية مفروضة عموديا، فالحقيقة معها وما عداها ليست سوى بطلان وشرور". هذه الماركسية المشبعة بالإصطفائية واحتكار الحقيقة المطلقة والإدعاء بتفسير كل شيء في العالم، جعل الماركسية ايديولوجيا ميتافيزيقية ولاهوتاً جديداً بوصفه يحمل خلاصاً للبشرية من طريق سيطرة طبقة البروليتاريا المنقذة للمجتمع، وهي ايديولوجيا اقتربت كثيرا من التحول ديناً. هذه الماركسية كما وصلت الى الأحزاب الشيوعية العالمية والعربية، وكما جرت ممارستها على يد نخبها، تسببت بكوارث على الصعد السياسية والفكرية والبشرية ايضا. أنجبت "الثقافة الواحدية الإطلاقية" للماركسية حقوقا مكتسبة للقيادة الحزبية تجلت في احتكار الحقيقة والمعرفة والمعلومة. ونجم عنها ما هو أسوأ، حيث هيمنت عبادة الفرد على كل مفاصل الدولة والمجتمع، ولم تقتصر هذه العبادة على الدول الشيوعية بل امتد التقليد الى الأحزاب الشيوعية الاخرى. وتحولت الماركسية الى جملة تعليمات قائمة على البيروقراطية وعلى أوامر يصدرها الحزب باعتباره ممثلاً عن الطبقة العاملة، وفوق الحزب ثمة اللجنة المركزية، وعلى رأس اللجنة يسود المكتب السياسي، وفوق كل هذه الهيئات يتربّع الامين العام بصفته الفيلسوف والقائد الملهم الذي لا يخطئ. وسط هذا العالم شاعت في اطار الحركة الشيوعية، سواء ما كان منها في السلطة او خارجها، نظرية التآمر والشك التي تسببت بالكثير من التصفيات للكادرات الحزبية بحجة تطهير صفوف الحزب من الاعداء الطبقيين الذين يعملون على حرف الحزب عن جادة الافكار الماركسية اللينينية
يتناول شعبان في نقده للماركسية الثغر والنواقص التي لم تولها النظرية الإهتمام اللازم، فيشير الى النقص تجاه فهم علم النفس الذي بات خلال القرن العشرين يحتل موقعاً مهماً في التحليل الإجتماعي والسياسي، حيث ساد مفهوم التزمته الأحزاب الشيوعية يرى في علم النفس والتحليل النفسي نظرية بورجوازية تلجأ اليها البورجوازية بديلا من نظرية الصراع الطبقي. كما قصّرت الماركسية عن رؤية الدين والموقع الذي يحتله في حياة الشعوب، فتعاطت معه انطلاقا من كيفية استخدام المؤسسات الدينية له وخصوصاً في اوروبا وسعيها الى الهيمنة على السلطة، فاستخفّت بالدين واطلقت نظريتها الشهيرة ضمن مصطلح "الدين أفيون الشعوب"، بل حولت الإلحاد الى دين وفرضت تعليمه والتزامه حيث وصلت الى السلطة. في السياق نفسه، قصّرت الماركسية عن فهم المسألة القومية في العالمين الرأسمالي والسائر في طريق النمو، واعتبرت القومية نظرية بورجوازية صافية، ورفعت شعارها الشهير "ليس للعمال وطن" وقرنته بشعار مركزي "يا عمال العالم اتحدوا"، وهي نظرة بان تهافتها عند اندلاع الحروب بين المعسكر الرأسمالي نفسه وانخراط طبقاته العاملة في جيوش كل دولة منها.
تتجلى إحدى اكبر المعضلات في الماركسية نصاً وممارسة من خلال النظرة الى الديموقراطية والدولة والحزب. فنظرية الماركسية في شأن الديموقراطية التي رأت فيها حيلة بورجوازية تستخدمها الطبقات الحاكمة لخداع الشعب وضمان السيطرة عليه، استبدلتها الماركسية بمقولة "ديكتاتورية البروليتاريا" المعبرة عن الديموقراطية الشعبية الحقيقية، وهي مقولة مسؤولة الى حد كبير عن الديكتاتورية التي اتسمت بها جميع الأنظمة الشيوعية والإشتراكية، والتي أخضعت بموجبها الفردانية الى حكم المجموع، والى سيادة الإستبداد ومنع الحريات السياسية والفكرية. لكن أكبر الاخطاء في النظرية الماركسية قد تكون في نظرتها الى الدولة والتي بشّرت بزوالها مع تقدم المجتمع نحو الشيوعية. لكن التجارب أظهرت أنه تحت لافتة اضمحلال الدولة كما اشار ماركس ولينين، جرى بناء أضخم دولة بيروقراطية واستبدادية سلّطت أدوات القمع على الشعوب التي حكمتها وتسببت بأضخم المجازر البشرية عبر التصفيات التي قامت بها هذه الاجهزة. اما الحزب الشيوعي بصفته اداة التغيير، فقد تحول منذ لينين الى سائر الانظمة التي حكمت باسم الماركسية، الى جهاز بيروقراطي تحكمه مركزية صارمة وتقاليد غير ديموقراطية، بحيث أصبح الولاء للحزب هو اولا ولاء للقيادة وتالياً للأمين العام، وتحولت المخالفات والإعتراضات على سياسة الحزب والأمين العام الى تهم بالخيانة للوطن والشعب والحزب، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج وخيمة.
يصنف شعبان الماركسيين اليوم ضمن خمسة أصناف، فهناك أولاً "الماركسيون الطقوسيون" الذين لا يفقهون شيئا في الماركسية، وتقوم مهمتهم في المشاركة في الإحتفالات وإحياء بعض المناسبات. وهناك ثانيا "الماركسيون المدرسيون" الذين يحفظون عن ظهر قلب بعض عناوين حول الاشتراكية، مستقاة من المدرسة السوفياتية ويرددونها ببغائياً. وهناك ثالثا "الماركسيون المسلكيون" الذين هم جزء لا يتجزأ من الماكينة الحزبية والمنفذين لسياستها من دون أي نقاش. أما الصنف الرابع فهم "الماركسيون الذرائعيون" أصحاب الدوغما والجمود العقائدي والذين يبررون كل خطوة يتخذها الحزب ويعتبرون ان النظرية الماركسية لا تخطئ حتى ولو تناقض النص مع الواقع في النظرية. وهناك اخيرا "الماركسيون العولميون" الذين روّجوا في السنوات الأخيرة للمشروع الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتظروا منه الخلاص وخصوصا في مواجهتهم للديكتاتوريات العربية، والذين هلل قسم كبير منهم للإحتلال الاميركي للعراق. يخلص شعبان من هذا التصنيف ليرى أنّ "الماركسيين النقديين المجتهدين" الذين يصنّف نفسه من ضمنهم، لا يزالون قلة في العالم العربي، ويعيشون على الهامش قياساً على سائر الحركات الحزبية.
يشير شعبان في نهاية مراجعته الى الموقف الآتي: "أجريت النقد الذاتي على تجربتي الخاصة الفكرية منها والسياسية والتنظيمية، راجعت بعض أطروحاتي، وقضية وجودي ضمن الحزب الشيوعي دون اقتناعي لفترة غير قصيرة... أجد نفسي قريباً الى حد كبير من الماركسية النقدية والوضعية النقدية الماركسية". صحيح أنّ قراءة شعبان للماركسية تندرج ضمن النقد الموضوعي والمراجعة المطلوبة، لكن شعبان ظل يحاذر الدخول من الباب العريض في نقد الماركسية، بوصفه نقداً يطال النظرية وأزمتها في النص والممارسة على السواء. ليس صحيحا أنّ الإنحراف في تطبيق النص الماركسي هو الذي تسبب بالديكتاتورية والاستبداد. فما جرى تطبيقه على يد لينين ومعه سائر القادة الشيوعيين في كل مكان اتى أمينا للنص الماركسي، من الحتمية التاريخية في التطور، الى اعتبار الماركسية علماً يحمل الحقائق المطلقة، الى النظر في الديموقراطية ورفضها، الى نظرية زوال الدولة، الى التنظير لديكتاتورية البروليتاريا ورفض التعددية الحزبية...، كلها امور في جوهر النص الماركسي. لذا تكتسب مناقشة أزمة الماركسية أهميتها بعيدا عن الفصل بين المنهج والنظرية والتطبيق، بل برؤية العناصر الثلاثة معاً، بما يسمح بتعيين ما الذي يبقى من هذه النظرية صالحاً وضرورياً للتطور الإجتماعي والسياسي، ورؤية ما تقادمه الزمن وبات خارج التاريخ.
خالد غزال
صحيفة النهار اللبنانية العدد 23668، الثلثاء 14 نيسان 2009