منطقة آمنة للمسيحيين
الاب بشار وردة /لسانس في اللاهوت الادبي
يتردد في الأوساط السياسية والإعلامية اليوم الحديث عن منطقة آمنة للمسيحيين، أو ما يُدعى أحياناً بإقليم خاص للمسيحيين في العراق، ويتهامس هؤلاء حول موضوع اختيار سهل الموصل كاختيار مثالي لهذه المنطقة الآمنة. موضوع شائك في كثير من فقراته ولا يزال الوقت مُبكراً للموافقة أو المُعارضة، لألنا لا نُريد الاستعجال في حسم المواقف، ولكن يبدو من المفيد طرح الموضوع للنقاش بين حُكماء القوم، وسماع رأي ذوو العلاقة في كافة جوانبه، ليتبيّن لاحقاً مدى صلاحيته ومصداقيته ومنفعته لشعبنا المسيحي بشكل خاص والعراقي بشكل عام. فنحن جزء لا يتجزأ من سفينة العراق، لنا مسؤولياتنا وحقوقنا تجاه أرضنا وشعبنا، ولم نعمل يوماً مُستقلين عن هذا الركب.
فأود أن أُشير منذ البدء بأني لست من المُتحمسين للموقف ولا من معارضيه، لكن لنحاول سوية فتح باب النقاش الجاد والحر بعيداً عن الاتهامات والمواقف المُسبقة للوصول إلى قناعات تُفيد شعبنا بعيدة عن حسابات سياسية أو مواقف شخصية. لنسمع ونُصغي ونتفحص كل رأي ونختبر مصداقيته وأهليته كطرحٍ صادق يريد خير شعبنا المسيحي حتى وإن جاء من قنوات أو شخصيات نختلف معها بالرأي. ولتكن عينكاوا كوم طاولة حُرّة وصادقة لهذا الحوار. فأرجو ن كل مَن يُريد المُشركة أن يبتعد عن الهُتافات لأننا لسنا في مُظاهرة شعبية مؤيدة أو رافضة، نريد أن نسمع أراء جادة من الجميع.
نريد إقليما خاصاً بنا
لو أصغيت لمَن يُوافق ويُدافع عن النداء أعلاه لتلمست فيه ألماً على عذابات شعبنا التي يود أن تُوضع لها نهاية. فتراه يستعرض تاريخ وجودنا المسيحي ويختصره لنا بعبارة "قصة الآلام الطويلة". لذلك فهو مُتحمّس ويتطلع لعصر جديد حيث يجتمع فيه شعبنا المسيحي بمختلف طوائفه في منطقة آمنة، ليستثمر طاقته وإمكانياته من دون أن تُجهض وتُهان، ليعيش يوتوبية الوحدة المنشودة.
سيقول لك مَن يُدافِع عن المنطقة الآمنة للمسيحيين: "أننا بالطبع لن نسأل المسيحيين في محافظات العراق الهجرة الجبرية لهذه المنطقة الآمنة، فهناك مَن أسس نفسه اجتماعيا واقتصادياً وسياسياً في مناطق مختلفة من العراق، حاله حال الأكراد في بغداد مثلاً. ولكن وجود اقليم ومنطقة آمنة له في بقعة مُخصصة في العراق، سيُوفّر دعماً اجتماعيا وسياسياً أضافياً حتى للذي لن يسكن فيها.
ولأن شعوبنا الشرقية مازلت ترى الحياة من منظار يتأثر بتدينها وعقائدها الدينية، فالموافقون يرون أن المنطقة الآمنة ستوفر لعوائلهم حاضراً آمناً، ومُستقبلاً زاهراً يحتضن كل الطاقات الفكرية التي قررت الهجرة، ولم يتسنى لها الفرصة لتفعيل إمكانياتها لخير شعبنا المسيحي. واقع الآمان هذا لربما سيدفع بالعديد من العوائل التي هاجرت البلاد مُكرهة ولم يتسنى لها فرصة تأسيس جذور لها في الخارج للعودة إلى البلاد من جديد والاستفادة من هذا الواقع، وإفادة المنطقة بما لها من مؤهلات أكاديمية وعلمية ومهنية مُتميزة.
ستضع المنطقة الآمنة حداً لعذابات شعبنا المسيحي الذي وجد نفسه في صراع لم يختره ولم يُشارك فيه، لكنه صار أشبه ما يكون بحطب المعركة. الآلاف من الأبرياء سقطوا ضحايا مع نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى استقلال إقليم كوردستان. الجميع يُقر بأن المسيحيين يعيشون آمنين اليوم في اقليم كوردستان ويحضون بالرعاية والمكانة، وهذا لم يكن ليكون لولا هذا الصراع الطويل، لكن يبقى أن الشعب المسيحي لم يكن طرفاً رئيساً في النزاع كلّه، ووجد نفسه بين فرقاء دفع ثمن ذلك تهجيراً وانتهاكاً للحُرمات والكرامات.
ستوفر المنطقة الآمنة كل الفرص والإمكانيات اللازمة ليلتزم شعبنا حضارته وثقافته ولغاته المُتميزة والتي أُهملت وأُقصيت عن عمدٍ من قبل الحكومات السابقة، ليُطوّرها ويُستثمرها لخير المنطقة. سيكون بالإمكان فتح مراكز دراسية وفق رؤية مُنفتحة لثقافة وفكر الآخر المُختلف، ومنتديات ثقافية واجتماعية تُسهم في طرح حضارة وفكّر مُتميّز سيُؤثّر إيجاباً على واقع المنطقة ككل. سيكون لهذه المراكز قوّة جذب لكل الإمكانيات الفكرية الوطنية التي بدأت تُعاني ومن عنف خفي ومدروس يوُجه ضدها، فيُقصيها هي الأخرى نحو الصمت الإجباري.
ستتمتع المنطقة المُقترحة لتحتضن المسيحيين بالأمان وبفرص عمل مستقرة وباقتصاد يعتمد بالدرجة الأولى على الضريبة واقتصاد البنوك الآمنة وعلى تجارة العقارات والسياحة، والتي ورُغم محدودية مدخولاتها المالية، إلا أنها ستُسهِم بشكل أو بآخر مع الحصة المُخصصة للإقليم المسيحي من الحكومة المركزية الحفاظ على مستوى معايشي آمن للفرد. البعض يذهب بعيداً ليرى في هذه المنطقة سويسرا الشرق الأوسط. هذا إذا ما كُنّا قد شُفينا من داء الفساد الإداري والمالي، وتعاملنا بشفافية في منظومة اقتصاد عالمية.
المنطقة الآمنة: جنون وتهلكة
يقف إزاء هذه الآراء نُخبة من أبناء شعبنا مُعارضين مثل هذه التوجهات لما فيها من خطر يرونه حقيقيا وواقعيا. فلم يحسم الأكراد والعرب بعد موضوع الفدرالية بكل تفاصيله وتشعباته السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية. وإذا ما قدّم المسيحيون مشروع فدرالياً جديداً، فهو ورُغم عدم مُعارضة الأكراد المُتوقعة لها، سيُثير ردة فعل مُتحفة لدى العرب الذين يرون في الفدرالية فرصة لتقسيم البلاد، وسيُواجه العراق أزمة سياسية جديدة هو في غنى عنها في هذه المرحلة. فيقول المعارضون: لا للمنطقة الآمنة.
ثم أن المنطقة المُقترحة (سهل الموصل) ستجعل المسيحيين ومساكهم شريطاً حدودياً عازلاً ما بين العرب والأكراد، أو على الأقل سيُؤمن جزءُ مُهماً لإقليم كوردستان. وهذا يعني أننا سنكون عُرضة لصراعات الآخرين على أراضينا الآمنة. مَن سيحمينا من تدخلات الجوار؟ شكل القوات وتمويلها ومرجعياتها؟ أو لا سيكون كل ذلك محاولة لتعزيز وتثبيت نظرية المليشات الطائفية التي يود الجميع التخلّص منها؟ ما هي عاصمة الإقليم ووفق أي أُسس سيتم اختيارها؟ لربما نُطالب بتثبيت حقوقنا الحضارية والثقافية والاجتماعية، أما عن تثبيت منطقة آمنة للمسيحيين، فبالتأكيد الجواب سيكون: لا للمثل هذه المنطقة الآمنة.
ثم أن هذه المنطقة (إن كانت سهل الموصل مثلاً) الآمنة لا تمتاز بمنافذ حدودية نحو العالم الخارجي مفتوحة، فهي مُحاصرة من قبل أطراف لم تُصفي قضاياها الشائكة بعدُ. فليس هناك فرصة حقيقية لاقتصاد حُر وآمن، بل سيبقى مصيرنا مرتبطاً بالواقع السياسي والاقتصادي لمَن هم من حولنا. فلا للمنطقة الآمنة.
وأخيراً وليس آخر: إذا ما قُمنا بتجاوز هذه العقبات بحلول واقعية ليست مُستحيلة في عالمنا المتُغيّر: ما هو أسم هذا الإقليم؟ لا تُسرعوا في الإجابة خبرة الثلاث سنوات التي مضت بيّنت صعوبة الوصول إلى تسمية موحدة لتجمعاتنا السياسية والفكرية والحضارية. وكيف السبيل لتشكيل برلمان يُدير شؤونه؟ ما هو شكل دستوره وأين هو موقع مثل هذا الدستور في دستور العراق الأم؟ فنرجوكم نحن في غنى عن تخبطات جديدة فلا للمنطقة الآمنة. [/b]