المحرر موضوع: التَّوهان عن الهدف  (زيارة 714 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل صبري يوسـف

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 96
    • مشاهدة الملف الشخصي
التَّوهان عن الهدف
« في: 12:42 23/07/2009 »
التَّوهان عن الهدف


الاغراق في الانغلاق في ذاتٍ أحادية الجانب، أصبح ديدن أغلب معالم مؤسَّساتنا وأنديتنا بكل تفرُّعاتها ومسمَّياتها، لا همَّ لها سوى الانغلاق والمزيد من التقوقع الفكري، ذاتٌ يجاورها ذوات أخرى، بعيدون كلَّ البعيد عن منطق الحوار وحيوية التحديث والتطوير، جلَّ تخطيطهم وتفكيرهم هو أن يروا أنفسهم متربِّعين على منصّة المسرح، أو على الشَّاشة الصغيرة، هذه الشاشة الأخّاذة التي تبهر عيون المشاهدين والمتابعين، عندما يتم تقديم موادها بشكل انسيابي بديع، لكنها تصبح شاشة مريرة فاقعة باهتة جوفاء عندما ينبعث منها فقاعات هشّة، ويرتطم القائمون على قيادتها ببعضهم بعضاً ولا يرون بضعة أمتار بعيداً عن أنوفهم!
إنني أشفق فعلاً عليهم وعلى الحال الذي نحن فيه، ويحزنني جدّاً واقعهم المرير ووضعهم القاسي ولكن حزني عليهم شيء وما أراه من استخفاف بالمشاهد شيء آخر، بالنتيجة المشاهد هو بصدد مشاهدة أفضل ما يمكن مشاهدته وليس إزاء تبريرات لأسباب هَلْهَلة ما يتم تقديمه عبر الشاشة المحشوّة بالتقهقر يوماً بعد يوم!
عندما أمسك الريموند كونترول وأتجوَّل في فضائيات القرن الحادي والعشرين، يذهلني حضور المذيع/المذيعة، الديكور، كيفية الحوار، الماكياج، الاكسسوار، كيفية التصوير وإعداد وتصميم وإخراج الحلقة أو أي برنامج من البرامج الفنّية والثقافية والتاريخية والعلمية والاخبارية والحواريّة، والقائمة طويلة في البرامج المتهاطلة بشكل راقٍ في فضائيات هذا اليوم!
يراودني وأنا أشاهد فضائياتنا، تساؤلات تجرح روحي تارةً وتعكّر صفوَ يومي تارةً أخرى، تخلخل أحلام الجيل القادم، تساؤلات عديدة لها علاقة وثيقة في حضارتنا وتاريخنا وتراثنا الحافل بالثقافة والعطاء والحضارة التي ما بعدها حضارة من حيث قِدمها وانتشارها أيام زمان، والآن وبعد أن توفّر كل شيء لعالم اليوم من تقنيات وتكنولوجيا واقتصاد وعلوم وإبداع في كيفية تقديم أبهى أنواع الفن والأدب والثقافة والفكر، أجدني أمام فضائياتنا المهلهلة والتي لا تنمُّ على أنَّ العاملين في هكذا فضائيات هم أحفاد حضارة كتبَتْ أوَّل ملمحة أدبية على وجه الدُّنيا، والطريف بالأمر أن أغلب المؤسسات والتيارات لم يعد لديها ما تقدِّمه سوى التحدّث عن حضارتنا وعن أمجادنا الموغلة في الماضي وعن تاريخنا وتراثنا وتجترُّ الماضي وكأنّها ستغزو الكون بهذا الاجترار، وحبذا لو تعلم كيف تقدِّم هذا التاريخ وهذه الحضارة وهذا الماضي بما يليق به وبنا، ولكن غالباً ما يكون ما تقدِّمه مجرد كلام في الهشيم.
الآن! التساؤل القائم هو، لماذا أرانا غائصين في سباتٍ عميق ولا نضع حدَّاً لهذا الخلل وهذه الخلخلات الغريبة والعجيبة التي تحيق بنا من كلِّ جانب. توجّهات مهلهلة، تيّارات وتجمعات مهلهلة، أندية مثل قلّتها، كنائس ترتفع قببها نحو وجنة السماء، أندية واتحادات، يُقال أنها على مستوى أوروبا لكنّها مع إحدى مجالس ملّاتها لا تستطيع أن تقدمَ باقة ورد لكاتب أو شاعر على خشبة المسرح بعد أن ترفع صوتها عالياً وتدعوه لاستلام باقة ورد على خشبة المسرح، يصعدُ عالياً بثقة، ثم يُصعقُ مبهوتاً على جمودِ وتردُّدِ المؤسَّسات، يمسك أحد معدِّي الحفل باقة الورد مشدِّداً على عنقها، فيخيَّل للشاعر أنها بعد لحظات ستلامس أنامله المخضّبة بالشعر، وإذ بهم يرتعدون من تقديمها للشاعر، يغضب من وجوده في الاحتفال ومن مشاركته في هكذا معرض، كأنه إزاء نكتة سمجة! ثم يعود أدارجه من فوق خشبة المهازل أمام فضائيتين، مذهولاً مما تراه عيناه، متمتماً لمن حوله، لقد هَزُلَتْ فعلاً.
 
أين نحن من حضارة هذا الزمان، ألا يوجد في طول عوالم شعبنا وعِرضه من يستطيع أن يقود فضائية، حفلاً، برنامجاً، منبراً ثقافياً أدبياً فنّياً موسيقياً، لا مدرسة ولا أكاديمية ولا أي منبر إبداعي يبيّض الوجه، لماذا أغلب فعالياتنا تسير بدون تخطيط أو يتم التخطيط لها بشكل اعتباطي، هل نحن أمّة تضم شعباً اعتباطياً، أم أنَّ هناك آلاف المؤلفة من ذوي الخبرة والفن والإبداع والثقافة والأدب لكنهم في الظلّ وفي الصفوف الخلفية، ولماذا أصلاً هم في الظلّ ولماذا يسمحون لأنفسهم أن يبقوا في الظلّ ولا يتقدموا إلى الميدان لإعادة خيوط مسيرة النجاح إلى مسارها الصحيح، كما كانت أيام زمان، في أوج عصورنا الذهبية، أم أن المسألة أعمق مما نتصوّر بكثير، ولا مفرَّ من الخروج من دائرة التوهان عن مدارات هبوبِ الغبار؟!

من هذا المنظور أقترح أن ينهض كلّ من لديه قدرة على العطاء على أي صعيد من أصعدة الثقافة والآداب والفنون الإبداعية، أن يتعاون ويتضامن مع ذوي الشأن، هذا إذا كان لذوي الشأن شأناً من حيث النبوغ والعطاء! لأنني أشك بشأنهم لأن برنامج شأنهم وشؤونهم غالباً ما يصبُّ في خطِّ من ليس معنا فهو ضدّنا، وهنا تكمن الكارثة الحقيقية لما نحن فيه وعليه! .. وهنا بالذات بيت القصيد، لأن عليهم وعلى غيرهم وعلينا جميعاً أن نعلم ونعي ونفهم أن الحياة ليست رؤية أحادية الجانب فهناك آلاف الرؤى السليمة والصحيحة والناجحة والحياة ليست منظوراً واحداً فقط، يراه فلان أو علان من قيادات هذه التجمعات أو تلك من الأندية والتيارات الخاصّة بشعبنا بكل تلاوينه وأطيافه وتطلعاته، وكلّما كانت الرؤى غزيرة وكثيرة ومنوَّعة، كانت أكثر نضجاً وعمقاً وانفتاحاً وتصبُّ بالتالي في واحات النَّجاح والتطوُّر والتغير نحو الأفضل، لكن وبكل أسف أرى أغلب هذه الأطياف والتيارات والأندية والفضائيات تصبُّ في رؤية أحادية غارقة في التقوقع والانغلاق!

كيف نتجاوز هذا الوضع المخلخل؟!
ليس من السهل أن نتجاوز تراكمات عيوب وأخطاء عشرات بل مئات السنين بجرّة قلم، لكم ممكن أن ندرج بعض النقاط التي من خلالها ممكن أن نخفِّف من درجة الخلافات والانشقاقات التي حلّت بنا وبالتالي نخطط رويداً رويداً لرأب الصدع الذي حلََّ بنا وبالتالي نضع صيغ عمل جديدة ومتقدمة لما كنا عليه حتى الآن، بحيث أن نضع في الاعتبار أن يكونَ الكادر المتمكن من شعبنا في موقع الصدارة جنباً إلى جنب مع كل تكتل أو تجمع أو تيار، آخذين في الحسبان أنه من الممكن أن نختلف في وجهات نظر عديدة عبر كل هذه التلاوين والتيارات السائدة، لكن علينا أن نستوعب الخلاف ونضع حلاً له بما يناسب الجميع، وعلينا أن نستدرك وننطلق من منطلق أنه من دون خلاف في وجهات النظر لا يمكن أن تتقدم أية أمة أو أي شعب على وجه الدنيا، فالاختلاف في الرؤى هو الطريق للنهوض نحو رؤى أشمل وأوسع وأرحب وذلك من خلال بلورة الرؤى المتناثرة والمتعدِّدة وصياغة أنجع ما يفيد لكلِّ الأطراف، لا أن يطرح كل طرف أو تيار أو تجمّع نفسه وكأنه عبقري زمانه وكلّ ما عداه لا يفهم البتّة!
وفي هذا المنحى أريد أن أؤكّد على أنَّ لكلِّ تيار أو تجمُّع أو مؤسسة الحقّ في أن تطرح رؤاها وتطلعاتها وبرامجها بما يتلائم معها لكن شريطة أن لا تكون تطلعاتها وتوجهاتها ضد أطراف أخرى في تجمعات أخرى، وبحيث أن لا تؤدّي إلى نوع من الاختلاف والصدام مما لا يفسح المجال لأي تعاون بينها وبين غيرها من التجمعات أو التيارات، ولا أجد أجمل وأنفع من أندية متعددة وتيارات ومؤسَّسات متعددة ولها آفاق مختلفة لكنها تتعاون ضمن ما هو مفيد للجميع وكأنها فسيفساء لتزيين الطريق المؤدّي إلى الهدف الأكبر وهو مصلحة الجميع! لأن أي تصارع أو اختلاف من قبل أية مؤسسة أو نادٍ أو تيار مع نادٍ آخر أو تجمع آخر هو لغير صالح الطرفين، لهذا فمن المنطقي والبديهي أن نعي الآن ولا وقت للتأجيل أننا في مفترق طرق، وهذه الطرق المفترقة تقودنا إلى المزيد من التفرقة والنكوص والتخلف والتحجر والضعف والركاكة وبالتالي نرى أجيالنا تهرب منّا ولا تقتنع بنا وتشعر بنوع من الغثيان من تسمياتنا وتشنُّجاتنا النقاشية مع بعضنا بعضاً وخلافاتنا اللانهائية وبالتالي ابتلى جيل هذا الزمان بانقساماتنا وهزائمنا خاصة ممن يعيشون في دنيا الغرب تحت كنف الحرية والديمقراطية والبحبوحة الحياتية والاقتصادية.

لهذا يجب أن نستدرك الأمر الآن قبل أن يستفحل أكثر وأكثر، ونعالج أخطاءنا المميتة وخاصة ما يتعلق بالتسميات، ويبدو لي واضحاً، عاماً بعد عام أن من أكثر أسباب انقساماتنا وانشقاقاتنا هي التسميات، فهذا يطرح نفسه آشوري، وذاك يطرح نفسه كلداني وسرياني وبابلي وآرامي وآثوري وسومري وأكّادي، وأنا لست ضد أية تسمية من هذه التسميات وتسميات عديدة أخرى، لكني ضد كل هذه التسميات جملة وتفصيلاً عندما تصبح سبباً لانقساماتنا وهزائمنا وتناحرنا وصراعنا، وأؤكِّد للجميع أنني لستُ منتمياً لأي تنظيم أو حزب سياسي، لا داخل هذه التسميات ولا غيرها من التسميات، لكنّي وبكل بساطة أقول أنني احترم كل هذه الأطياف والتلاوين خاصة عندما تنحو نحواً متفتِّحاً وتتعاون مع بعضها بعضاً بعيداً عن لغة المنغِّصات والخلافات اللانهائية السقيمة! ويهمّني كثيراً أن نشكل هيئات عديدة من داخل كوادر المؤسسات بكل تلاوينها ومن داخل الغيورين الجادين الحياديين أيضاً والذين يحملون رؤى انفتاحية خلاقة وهم خارج دائرة الضوء والالتزام بهذه الجهة أو تلك، أي هم جهات حيادية تحمل فكراً مستنيراً ومتفتحاً وغيورة على مصلحة أبناء هذا الشعب الذي تخلخلت أجنحته وأدمت عيونه من خلال تراكمات الرماد والغبار المتناثر فوق صباحه ومسائه وليله المشحون بالشاشات المقعرة بهشاشاتٍ لا تخطر على بال!
 
لهذا أطرح وجهات نظر عديدة لربما تساعدنا على تجاوز خلافاتنا وانشقاقاتنا أو على الأقل تخفِّف ولو رويداً رويداً من حدّةِ الخلافات لعلها مع الزمن تتجاوز هذه الخلافات وتبني علاقات طيبة ومفيدة مع بعضها بعضاً من أجل المصلحة والفائدة المشتركة لكافة الأطراف، وإلا لو ظللنا على هذا الحال والأحوال من الصراع والخلاف والانشقاق، لتهنا وتاه معنا الجيل الحالي ولا مفرّ أمام الجّيل القادم سوى الفرار من منغِّصات ما يراه فلا يجد أجدى من أن يشقَّ طريقه ضمن ما يناسبه في المجتمع الجديد وهذا ما يجعل أجيالنا تلجأ إلى تجمُّعات ومؤسسات أخرى بديلة في المجتمع الجديد لتمارس نشاطاتها، بعيداً عن خزعبلات خلافات مؤسساتنا التي غدت ترهق كاهل الجيل المترعرع في كنف حضارات ومؤسسات راسخة بالديمقراطية والحرية، فيهرب الجيل الحالي والقادم من مؤسساتنا المبعثرة، لأن الجيل الوافد الجديد لا يتقبل هكذا انشطارات وهكذا خلافات، ويرى ويحلِّل حضارة العصر وحرية وديمقراطية العصر بانفتاح وموضوعية، لهذا فأنا أرى أننا لو لم تتصدَّ مؤسَّساتنا وأنديتنا والتيارات السائدة لاستيعاب هذا الأمر ستصبُّ في مفترق طرق، وستتوه في عالمٍ من ضباب! فإلى متى ستزرع مؤسَّساتنا وأنديتنا وتياراتنا بكل أطيافها مستقبلاً لأجيالنا غالباً ما يكونُ مكتنفاً بالضّباب؟!
هل وصلَ المرسال؟!

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com