المحرر موضوع: عن التعازي والمآتم  (زيارة 2443 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
عن التعازي والمآتم
« في: 21:59 16/08/2009 »
عن التعازي والمآتم


شمعون كوسا

لقد خطر ببالي ان اكتب عن موضوع أعتبرُهُ شخصياً موضوعاً مهمّا جدا لتعلقه بنا جميعا ، لاننا كلنا لا بدّ لنا ان نموت يوما ، وكلنا لنا أموات من اقربائنا واصدقائنا ، وكلنا اقمنا ونقيم لهم مجالس تعازي .
اريد ان اتناول جوانب قد تبان حساسة لدى البعض ولكني اعود فاقول : حساسية هذا الموضوع تخص جميع الناس ، لانه لا مجال للافلات من القدر المحتوم الذي هو المسار الاجباري لكل من بدأ خطاه على درب الحياة .

من الطبيعي ان يحزن الانسان على فقدان أحد اعزائه ، وأن يأتي تعبيرُه ببكاء تلقائي قد يطول او يقصر ، يخف او يشتد ، يتوقف او يستمر تناسباً مع درجة القرابة او الدم ، مع عمر المتوفى او شخصيته . وطبيعي ايضا ان يُقام للمرحوم مجلسُ تعزية يَستقبِل فيه اهلُ الفقيد مواساةَ الناس . يستمر هذا المجلس في استقبال المعزين لثلاثة ايام ، وهذا ايضا أمرُ  لا يجرأ أحد المساس به ، لان المشاعر تكون في قمة جيشانها والنفوس لا تزال مكلومة ووطيس النار الداخلية تحتاج الى دموع ثلاثة ايام لتخفّ او تجفّ .

ملاحظتي الاولى موجّهة الى المآدب التي تُنصب خلال ايام العزاء وعن التفنّن في تنويع الاصناف وتوفير المأكولات الدسمة الشهيّة ، الى حدّ انه يخال لبعض الغرباء المعزين بانهم قد اخطأوا المكان ، لانهم عوضاً عن حضورهم مناسبة حزن ، يشارك فيها الجسم بشئ من التقشف والامساك ، يجدون نفسهم وسط دعوة فرح حقيقية تمتلئ فيها الموائد بكل ما لذّ وطاب من وجبات يسيل لها اللعاب .
ومن جهة اخرى اصبحت بعض هذه المآتم مناسبات يتبارى فيها المعنيّون ، للتفوّق على فلان وفلان ، واثارة غيرتهم بأكثار الاطعمة وتنويعها .
أنا اقول ، ليس من الضرورة اِطعام كافة المعزين ، واذا كان لا بد من القيام بهذا الواجب تجاه من قدموا من بعيد ، لماذا لا يكون ذلك بتقديم اطعمة بسيطة تّشبّع أكثر ممّا تشهّي .
ولماذا لا تخصص مبالغ مباراة التباهي والتنافس هذه ، القادمة احيانا من افخم المطاعم ، لتوزيعها على الفقراء ؟  قد يقول البعض بانه لم يعد هناك فقراء ،  لانه كما يظهر أنّ نسيم الرخاء قد هبّ على السواد الاعظم من الجماعة ، وعوضاً عن ان يملأ صدورهم بهواء عليل ، نفخ جيوبهم بما حُمِّل من اوراق متطايرة من المال . لماذا اذن والحالة هذه ، لا تعطى هذه المبالغ لمؤسسات خيرية او لبناء مدارس او حضانات او الف عمل خيري آخر؟

واذا اعتبرتُ باني قد استوفيتُ كلامي عن هذه النقطة الاولى ، بوسعي الانتقال الى موضوع اليوم السابع والاربعين . ما حاجتنا الى هذين التاريخين ، وهل يجب ان ننادي الناس وندعوهم للتجمع حولنا لكي يُشعِِرونا  باننا حزانى . اذا كنا حقا حزانى ، فلنحتفظ بذلك داخل انفسنا ، والا  فما  الذي يمنعنا من الاستمرار في تواريخ اخرى كاليوم الخامس والخمسين و اليوم السبعين او يو م المئة مثلا ، كلّها اعداد جميلة ومدورة .

ولكي احافظ على تسلسل مجريات الامور وتواريخها، انتقلُ الآن الى الذكرى السنوية أو يوم السنة. وكأننا ننتظر هذه المناسبة لكي نتحرّر من التزامنا ونرمي بثقلنا قائلين لمن فارقنا : لقد حملناك لمدة سنة كاملة ، فاننا نبرّئ ذمتنا حسب ما هو مطلوب من المجتمع . ولا حاجة لي ان اذكر شيئا لا يخفى على احد ، وهو ان السنة تُقطع عادة في الشهر الحادي عشر ، ولولا الخوف من التكرار لكنتُ قد قلتُ من جديد : ولماذا ليس الشهر العاشر او الخامس عشر مثلا ؟!!!!

وهنا وصلتُ الى الاهمّ ، وصلت الى نقطة  لم  ولن افهمها ابدا وبودّي مقاومتها ، الا وهي اقامة العزاء في العيدَين الأولين خلال السنة . يجب ان تتجدّد المآتم في عيد ميلاد المسيح وعيد قيامة المسيح . نكون قد نسينا المرحوم بعض الاحيان ، ونكون قد شاركنا جسماً وروحاً في مناسبات فرح ، في الشرب واللهو وحتى الرقص ، ولكن التقاليد توصي بانه عند دنوّ هذين العيدين اللذين يُعتبران مناسبتا فرح للبشرية جمعاء ، يجب ان ندعوَ افراد العائلة ونُملي عليهم التعليمات التالية : لا تقبلوا التهاني من احد لاننا في حداد ، يجب ارتداء الاسود والبكاء لاننا ملزمون بقلب فرح الناس في العيد غمّا وسعادتهم شقاءً . وهكذا نكون قد قمنا بآخر الواجبات نحو فقيدنا ، وكأنّ الفقيد بقي منتظرا هذه الجماهير الداخلة والخارجة وهي تتمتم بعض صلوات، اذا كان هناك صلوات ،او بعض عبارات مواساة لم يعودوا ينتبهوا الى معانيها .

حتماً سيقول قائل بان هذه عاداتنا وتقاليدنا ، واجيبه أنا بانه محقّ في ذلك ، ولكني سأضيف باننا الان في عصر يتطور بسرعة البرق . يجب ان نطوِّر عاداتِنا بعض الشئ ولكن ليس بسرعة البرق . يجب ان نعطي معنىً لكل حركاتنا وسكناتنا . ان التعبير عن المشاعر الحقيقية وليس الالزامية ، لا يأتي بتكثير المناسبات او ايام البكاء والحداد . المشاعر الحقيقة تسكن داخل القلوب وتعيش بخفاء .  لا ادعو هنا لتقليد الاجانب الذين يكتفون بكلمة مواساة عند القبر ، تأتيهم ممّن شاركوهم مراسيم التشييع في المقبرة . ولكني اقول  فليكن حدادنا الرسمي ثلاثة ايام فقط ، وهي مدة كافية .
 لقد لاحظتُ شخصيا بان التعب يكون قد اخذ مأخذه من كافة المعزين ، والكلّ ينتظر نهاية المجلس بما فيهم أهل الفقيد . لقد سمعنا البعض يقولون في اليوم الاول وامام الحاضرين بانهم سيبقون في حالة حزنهم وبكائهم لعشر سنوات مقبلة ، ولكنك تراهم بعد مرور شهر واحد فقط قد نسوا هذا الكلام وهذا الوعد ، وهذا ايضا امر طبيعي ، لانه لولا النسيان لما استمر الناس في العيش ، فالنسيان هنا نعمة من الله .

وبما اني قد تناولت هذه المواضيع ، يجب ان انتهي بنقطة عقائدية اثيرها من باب المنطق . ان فراق الاعزة مرّ وفقدان أيّ قريب او صديق يترك آثاره ويؤدي الى التأثر والبكاء . وارجو ان لا تملوا اذا قلت مرة اخرى بان هذا طبيعي ، ولكني ساضيف قائلا باننا لا يجب ان نسترسل في حالة القنوط هذه،  لسبب بسيط ووجيه جدا  وهو : اذا كنا حقا مؤمنين ، يُفترض بنا ان نعرف بان فقيدنا قد فارق هذه الحياة الى حياة السعادة الابدية ، قد ذهب الى حيث أعزاؤنا الذين سبقوه من : جدّ وجدة ، وأب وأم ، وأخ وأخت ، او عمّ وعمة ، خال وخالة …الخ . هل يحزن الانسان لان فقيده سيلتقي بهؤلاء في السماء ؟ والنقطة المهمة التي ستدعونا هنا للتفكير هي التساؤل التالي :   هل اننا نعني ما نقول عندما نرسل برقيات التعزية ونوجه كلمات المواساة كأنّ نقول مثلا : اسكنه الله فسيح جناته ، رحمه الله ، واعطاه الراحة الابدية ، غفر الله ذنوبه واسكنه الملكوت ؟ هل هذا كلام ذو معنى ام انه مجرد شعر وخيال وكلمات مجاملة نُظّمت لهذه المناسبات كبعض العبارات السياسية التى لا تعني شيئا والتي يطلق عليها الفرنسيون (لغة الخشب) .
ذكرتُ هذه النقطة لاننا في هذا الموضوع بالذات نتصرف احيانا كمن لا رجاء لهم . وهنا انتقد نفسي اولا : فامّا نحن مؤمنون وهذه عقيدتنا ، أو كل ما نتفوّه به بهذا الخصوص كلام يتناثر في الهواء ، عند ذلك يكون من حقنا الشروع بعويل لا نهاية له ، وضرب رأسنا في كل الاتجهات ، وكسر وتحطيم كل ما يقع تحت ايدينا ، لان فقيدنا قد فقدناه الى الابد دون اي امل او رجاء .

استميحكم عذرا ، انها مجرد خواطر ومقترحات شخصية اعرضها للتفكير . ان تغيير الامور لا يحتاج الى اكثر من ارادة أوّلِ البادئين ، لانه سيعقبه ثان وثالث  لِيساهموا في وضع اساس عادات جديدة .  ولا اكون متجاوزا حدودي لو قلت بان شرح هذه الامور من صلب واجب رجال الدين قبل ان يكون واجبنا ، لانهم هم المكلفون مبدئيا باصطحاب نفوس الاموات ومرافقتها ، عبر صلواتهم، الى مثواها الاخير .
وبخصوص المثوى الاخير ، اريد ان اوضح من الناحية الدينية وللمعلومات فقط  ، بأنّ الصلوات والقداديس المقامة للاموات ، لا تفيد الاّ النفوس المتوطنة في المطهر (وهذه عقيدة  كاثوليكية)،  لتقصير مدة انتظارها قبل التوجه الى السماء ، لان من كان مصيره الجنة لا يحتاج الى توسط او دعاء لانه نجح في الامتحان ، والذي حُكِم عليه بنار جهنم فسقوطه قطعي لايقبل النقاش ولا يفيده اي شئ . غير ان ما يدعو للاطمئنان بشأن جهنم ، هو انه ليس باستطاعة احد التأكيد لحد الان بان هناك اناسا في الجحيم ، وذلك انطلاقاً من المبدأ القائل ، بانّ  الله قادر ان يشمل برحمته أكبر الخطأة في آخر لحظات ندمهم ، وهم في سكرة الموت أو ينازعون .