المحرر موضوع: كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (2)  (زيارة 644 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1291
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (2)
عبدالحسين شعبان
2009-11-09

أميركا اللاتينية: الثورة في صندوق الاقتراع

قبل زيارتي لكوبا بنحو 9 أشهر، كنت قد زرت البرازيل، وخلال وجودي حدث العدوان على غزة، ورغم وجود حزب عمالي بقيادة ثورية زعيمتها «لولا» فإن علاقتها، ولاسيما اتفاقياتها الاقتصادية الأخيرة مع الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن طبيعة نظامها السياسي، خصوصاً التفاوت الطبقي والاجتماعي الحاد ووجود ملايين الفقراء في ظل غنى فاحش، جعلتها محطّ نقد من جانب كوبا وبعض الثوريين، لكن المواطن العادي البسيط عندما كان يعرف أنني من العراق وعربي، كان يتصرف بشيء من التضامن التلقائي إزاء الضحايا.
أما زيارة تشيلي فكانت لدراسة التجربة التشيلية للعدالة الانتقالية، وهو ما أعادني إلى السبعينيات ومطالباتنا بالتضامن في كل مؤتمر وندوة وحتى بعض الأغاني السياسية اليسارية العراقية، كانت تردد ذلك «تشيلي تمرّ بالليل نجمة بسمانه» (بسمائنا) وكان صوت الفنان جعفر حسن يصدح بالتضامن مع أطفال تشيلي وفلسطين وأطفال كل العالم.
التجربة المثيرة في تشيلي تحتاج إلى وقفة خاصة للدراسة والتأمل وقد حاولت خلال تقريظي لكتاب شوكت خازندار «الحزب الشيوعي- رؤية من الداخل» أن أعلق عليها، لكنها بالفعل تحتاج إلى اطلاع القارئ العربي عليها، لاسيما مسار العلاقات السياسية بين قائد الانقلاب العسكري بينوشيه الذي أطاح بالحكومة الشرعية للسلفادور الليندي الذي قتل في مبنى البرلمان سبتمبر 1973 وهو يدافع عن قضية العدالة والديمقراطية، وبين قوى شعبية كانت ضحايا الانقلاب وبينها الحزب الشيوعي، وزعيمه كورفلان، حيث تم الاتفاق بعد سنوات من القمع على إغلاق الملفات، واحتفاظ بينوشيه بالسلطة العسكرية لبضع سنوات ضماناً لعدم الملاحقة وإجراء انتخابات تشريعية.
وأتذكر أنني كنت مغتبطاً عند مطالبة السلطات الإسبانية بإلقاء القبض على بينوشيه في بريطانيا، وإذا بصديق قديم من أميركا اللاتينية يفاجئني، بأن ذلك يعني تخريب الاتفاق والإخلال بالسلام الاجتماعي, وكنت أحسب تعليقي في إحدى الفضائيات في لندن إيجابياً بشأن إلقاء القبض على بينوشيه، إلى أن أدهشني الصديق المذكور، لكن رأيي أن الاتفاقات والمصالحات السياسية ليس بإمكانها إغلاق ملف الضحايا، إذ يمكن استمرار الملاحقات القضائية، لاسيما من جانب الضحايا أو عائلاتهم، وهو الرأي القانوني الذي كنت أتمسك به، وما زلت، بخصوص انتهاكات الحكم السابق أو الحالي لحقوق الإنسان في العراق، وبشأن ما حدث لضحايا بشتاشان أو غيرها من الارتكابات التي حصلت خارج القضاء، خصوصاً خارج المواجهة المسلحة أو العسكرية، أثناء المعارك، وهو رأي أسعى لأن أقدم فيه شهادة سياسية وقانونية، مع فصل السياسي عن القانوني. لقد قُتل في مجازر تشيلي أكثر من ثلاثة آلاف إنسان وكان سجل الضحايا الذين تعرّضوا للتعذيب يربو على 38 ألفاً، وهو ما اشتغلت عليه العدالة الانتقالية لتأهيل الضحايا من جهة ولجبر الضرر من جهة ثانية، فضلاً عن التعويض المادي والمعنوي، والأهم من ذلك كشف الحقيقة كاملة, والسعي لوضع ضوابط جديدة لإصلاح النظام القانوني لوضع حد لمنع تكرار هذه الجرائم.
الزيارة الأخرى لأميركا اللاتينية كانت بُعيد احتلال العراق لحضور مؤتمر في كيتو (الإكوادور)، وأتذكر أن نقاشاً حاداً ساد آنذاك بخصوص المطالبة بالانسحاب وحق الشعب العراقي في تقرير مصيره بنفسه واحترام حقوق الإنسان، وضمان حقوق الشعب الكردي في إطار عراق حر ديمقراطي موحد، وهو القرار الذي صدر عن المؤتمر.
زيارتي لكوبا تأتي من منظور مختلف, وفي وقت مختلف، خصوصاً بعد أن انتصرت القوى الاشتراكية واليسارية في الانتخابات في أكثر من خمس دول في القارة، التي عرفت موجة الكفاح المسلح في الستينيات والسبعينيات وبعض الثمانينيات وعاشت لاهوت التحرير في الثمانينيات، وها هي تجرّب الطريق الاشتراكي سلمياً في الألفية الثالثة، تحت شعار «الثورة في صندوق الاقتراع».
وقد لعبت مؤسسات المجتمع المدني دوراً كبيراً في نشر الثقافة الحقوقية، لاسيما ثقافة حقوق الإنسان، وفي تعبئة القوة الانتخابية باتجاه انتخابات ديمقراطية شفافة، تحت شعارات جديدة آخذة بالاعتبار التطور العالمي الكبير الذي حصل في هذا الميدان، وخاصة في حقل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والثورة العلمية-التقنية المتصاعدة والمعوْلمة بوجهها الإيجابي، ناهيكم عن وجهها القبيح أيضاً.
ولعل تجربة فوز اليسار في أميركا اللاتينية مدهشة ومثيرة وتستحق القراءة الدقيقة، لاسيما لجهة اصطفاف القوى والاستقطابات والتحالفات الجديدة، في حين هو في تراجع كبير على المستوى العالمي، بما فيه أوروبا وخاصة في البلدان الاسكندينافية التي كانت الأحزاب الاشتراكية واليسارية حاكمة، حيث تراجع في السويد والدنمارك إضافة إلى ألمانيا وغيرها.
لقد استطاعت القوى اليسارية أن تحرز النصر عبر صندوق الاقتراع في كل من تشيلي بقيادة السيدة باشليه, وفي فنزويلا، فاز هوغو شافيز الاشتراكي اليساري بنبرة صاخبة، وفي الإكوادور فاز كوريّا، وفي بوليفيا فازت القوى الاشتراكية اليسارية بقيادة موراليس مثلما حازت على أغلبية المقاعد في البرلمان في باراغواي بقيادة لوغو, ولعل تجربة نيكاراغوا مثيرة للجدل، فقد وصل دانيال أورتيغا قائد الثورة الساندينية المسلحة سابقاً، إلى السلطة بعد غياب عنها 15 عاماً، بواسطة صندوق الاقتراع.
ولعل هذه التجارب الكبرى بحاجة إلى تأمل ودراسة، لاسيما من جانب الحركات التي سمّيت ثورية في بلداننا, وكيف تراجعت ولماذا وما هو أفقها؟! وهو ما سأحاول التوقف عنده بعد محاولة تسليط الضوء على التجربة الكوبية.


7820 العدد - صحيفة العرب القطرية، الاثنين 9 نوفمبر 2009 م - الموافق 21 ذو القعدة 1430 هـ