المحرر موضوع: كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (10) التغريد خارج السرب: رومانسيان حتى الموت!  (زيارة 633 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1288
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
 
كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (10) التغريد خارج السرب: رومانسيان حتى الموت!
   

  
عبدالحسين شعبان    

2010-01-04
بلوَر جيفارا أفكاره الثورية تلك التي تجسدت في مداخلاته وأحاديثه المثيرة و "الشهيرة" خارج التفكير الرسمي للاشتراكية النمطية الوظيفية البيروقراطية السائدة، لا سيما في ثلاثة مواقع على الأقل: الأول يتعلق بمداخلته تحت عنوان "أميركا من على الشرفة الإفريقية والآسيوية"، والثاني "الاشتراكية والإنسان وكوبا" والثالث "خطاب الجزائر".
ولم يكن بإمكان جيفارا أن يحتل هذه المساحة من الرمزية النضالية الكبيرة في العالم الثالث، بل وفي العالم أجمع لو حصر نفسه في أميركا اللاتينية، ولأنه كان أمميا بامتياز فقد كرس جهداً استثنائياً لتجميع الطاقات النضالية للقارات الثلاث في إفريقيا وآسيا، إضافة إلى أميركا اللاتينية، ولهذا السبب قطع آلاف الأميال لينقل الثورة -كما أعتقد- إلى أحراش الكونغو وليحوّل إفريقيا إلى أرض متزلزلة تحت أقدام المستعمرين، ويحفّز نضال آسيا عندما يكون حلقة الوصل من هافانا إلى الجزائر إلى العمق الآسيوي، كل ذلك جرى في هارمونية رومانسية عالية، لا تعرف الحدود، سعياً وراء أسطورة خلاص لعالم أفضل وغد أكثر إشراقاً ونبلاً.
ولعل الفضاء العربي كان له عوناً في بلورة تلك الأفكار التي ما كان جيفارا يكون بدونها، وهو ما ينبغي أن نعتزّ به أيّما اعتزاز ونعيد قراءته، بما فيها انتقاداتنا السابقة للتوّجه الجيفاري، حتى وإن كان بعضها على صواب، ولكن القراءة الارتجاعية للتاريخ وللأفكار، وبشكل خاص ما أفرزته الممارسة، وما أثبتته الحياة، تعطي نكهة خاصة، لا سيما إذا كانت المراجعة جريئة والنقد شجاعاً والهدف مخلصاً والقصد صميمياً.
وإذا كان جيفارا قد تمثل روح سيمون بوليفار، فإن كاسترو تمثل روح الزعيم الوطني الكبير خوسيه مارتيه، الذي كان شاعراً وكاتباً وخطيباً وصحافياً معروفاً، أسس الحزب الثوري الكوبي عام 1892 لمقاومة الاستعمار الإسباني وأعلن الاستقلال العام 1895 وأبدى بطولة نادرة، وقتل خلال المعارك دفاعاً عن كوبا من قبل المستعمرين والغزاة الإسبان.
لقد وجد جيفارا في المعارض المغربي المهدي بن بركة خير صديق له في حلمه الثوري مثلما وجد بن بركة في جيفارا نموذجاً للرومانسي الحالم المستعد للموت في أية لحظة وعلى أية أرض، إن بحثهما عن الحرية ومعنى الوجود الإنساني دفعهما للتقارب والتماهي أحياناً، في إطار الثورة التي ظلّت فناراً هادياً لهما. أراد بن بركة حل معادلة الداخل- الخارج، والعامل الذاتي بتلقيحه بالعامل الموضوعي، والبعد الوطني- العروبي- الإفريقي، بالبعد الكوني- الأممي، لا سيما الأميركي اللاتيني، ولعل في ذلك كان جديراً فهو متمرسٌ في النضال وكان أستاذاً للرياضيات من بين تلامذته الملك الحسن الثاني، واضطر للهروب إلى الجزائر وتنقّل بين عدد من العواصم والبلدان حاملاً قضية التحرر والتضامن الإنساني بين يديه من الجزائر إلى القاهرة إلى جنيف إلى روما إلى هافانا إلى إفريقيا، مثلما وجد في منظمة التضامن الآفروآسيوي التي تأسست العام 1957 منبراً يستطيع من خلاله يرفع صوت المغرب وإفريقيا وجميع قوى التحرر.
وكان جيفارا الوجه الآخر لبن بركة، فقد أراد الخروج من دائرة نضال أميركا اللاتينية إلى جبهة القوى التحررية على النطاق العالمي، لا سيما بالاستفادة من التحالف مع الدول الاشتراكية، ومع المناضلين ضد الرأسمالية في الغرب.
ومثل بن بركة أراد جيفارا منظمة التضامن الأفروآسيوي منصة ينطق من عليها باسم أميركا اللاتينية، حيث اعتبرت كوبا منذ مؤتمر القاهرة العام 1961 عضواً مراقباً فيها، خصوصاً في إطار مناقشات للجنة الاستعمار الجديد التي كان يترأسها المهدي بن بركة.
خلال التحضير لمؤتمر هافانا للقارات الثلاث: حصل الانقلاب على بن بلّه وأطيح به في 19 يونيو 1965، وبعدها أطيح بالزعيم الإندونيسي سوكارنو في ظل مذبحة لليسار والشيوعيين، ثم شهدت اختفاء جيفارا في مهمة ثورية في الكونغو، وأخيراً اختفاء المهدي بن بركة قسرياً في باريس في شهر أكتوبر، ولم يظهر له أثر حتى الآن ولم يتم إجلاء مصيره.
وكان بن بركة قد زار هافانا للتحضير للمؤتمر قبل شهر واحد من تاريخ اختفائه، أي في يوم 29 سبتمبر 1965 ورغم أن المؤتمر انعقد لاحقاً في هافانا في شهر ديسمبر العام 1966، أي أنه تأجّل نحو عام وحضرته وفود يسارية من العالم العربي، لا سيما من سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، إلا أن رموزه الأساسية كانت قد غابت، وهو ما ترك فراغاً كبيراً.
لقد وجد المهدي بن بركة في صداقة جيفارا تكاملاً نضالياً، فهو الآخر كان يسعى للتضامن منذ أن اضطر للهروب من المغرب إلى الجزائر، وحكم عليه لاحقاً غيابياً بالإعدام، وهو المناضل الذي قاوم الاستعمار الفرنسي وأنشأ حزب الاستقلال وترأس مجلسه الاستشاري حتى العام 1959. وقاد المهدي بن بركة تحركاً واسعاً في الخارج، وكان أهم وأكبر عمل يقوم به هو التحضير لمؤتمر القارات الثلاث، الذي تربصت به الولايات المتحدة وحلفاؤها.
مثلما كان المناضلون يسعون للتضامن، فإن الأجهزة الأمنية المعادية في الدول الكبرى ودول إفريقيا وآسيا كانت متضامنة مع بعضها، بل داعمة ومساندة ومشاركة لها وإنها -كما هي العادة- الأكثر انسجاماً مع نفسها، ويشهد على ذلك اجتماعات وزراء الداخلية في العالم العربي، ولم يكن أحد يتخيّل حينها، أن يختفي المهدي بن بركة بكل ثقله وجبروته وزعامته من مقهى ليب في قلب باريس، ويضيع له كل أثر منذ ذلك الحين وحتى الآن، رغم وجود روايات عديدة، وهو ما أصاب جيفارا بصدمة كبيرة.
أطلق على المهدي بن بركة "سفير الثورة المتجوّل"، لما لعبه من دور من خلال أسفاره ولقاءاته تحضيراً لمؤتمرات ومشاركة في حوارات، وأصبح سفيراً عالمياً، لم يعد مغربياً أو عربياً أو إفريقياً أو آسيوياً أو أميركياً لاتينياً، إنه مثل جيفارا خرج من محليته ليصبح كونياً، أمميا، إنسانياً، حالماً لتحرير العالم وإلغاء الظلم والاستغلال.
ولعل اختفاءه كان له تأثير رمزي ومعنوي سلبي على الحركة التحررية العالمية، التي فقدت بخسارته، رجلاً مجرّباً وإنساناً شجاعاً، ومناضلاً عابراً للقُطريات والقوميات والهويات المحلية، ليتحدث بلسان العالم الحر الرافض للعبودية والاستغلال، وقد يكون تفسير ذلك منطقياً بأن من أراد إخفاءه أو تغييب صوته، كان يدرك أية ضربة يمكن توجيهها ضد حركة التحرر الوطني الصاعدة آنذاك، حتى وإن اقتضى ذلك ارتكاب جريمة في وضح النهار وفي فرنسا، بل وفي قلب باريس بالذات، بلد الحريات والحقوق، فالمرتكب لم يكن يتورّع عما يمكن أن تجلب فعلته تلك من ردود فعل عالمية، لا سيما وهي جريمة ضد الإنسانية وضد شخصية عالمية مرموقة.
كان انعقاد مؤتمر القارات الثلاث بناء على اقتراح من المهدي بن بركة وبالتنسيق مع صديقه جيفارا، لا سيما بعد الإعلان عن فصل كوبا من منظمة الدول الأميركية في فبراير عام 1962، وهو ما أعلنه بن بركة قبيل اختطافه بأن المؤتمر القادم سينعقد في هافانا، وكان هذا يعني بحساب تلك الأيام شيئاً كبيراً وتضامناً عالمياً وتحدّياً جريئاً، وجاء ذلك على لسانه مع المؤتمر الرابع للمنظمة الأفروآسيوية المنعقد في أكرا في مايو 1965 وبدعم من الصين والاتحاد السوفييتي في حينها.
باحث ومفكر عربي      
      
صحيفة العرب القطرية  العدد 7876- الاثنين 4 يناير 2010 م - الموافق 18 محرم 1431 هـ