المحرر موضوع: طفولةٌ مغموسةٌ بتلاوينِ الحياةِ إهداء: إلى الطالبة آنجيلا عبده وعموم آل لحدو عبده وعبده  (زيارة 763 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل صبري يوسـف

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 96
    • مشاهدة الملف الشخصي
طفولةٌ مغموسةٌ بتلاوينِ الحياةِ

إهداء: إلى الطالبة آنجيلا عبده وعموم آل لحدو عبده وعبده

تزهو قامتكِ أمامي مثل السَّنابل، طالبة نجيبة، ذات حرفٍ أنيق، متفوِّقة إلى أبهى درجات التفوّق، تشاركيني فرحي عبر تألّقكِ في النجاحات المتواصلة فوق وجنةِ ديريك، تحصدين نجاحاً تلو الآخر، ثم فجأة ترخين ظلالكِ تحت قناديل الغربة، غربة من نكهة الاشتعال، تتواصلين مع حرفي كأنّكِ حبري المتناثر من شفير غيمة، هل حملتِ بين أجنحتكِ عناقيد الكروم، كرومنا التي أكلتها نعاج الغجر، واقتلعها ذوي الشأن، ظنّاً منهم انهم سيبنون قلاع الحصن، فيلات على شاكلة طموح العصرِ، لكن عبق الكروم، كان أحلى من ناطحات السحاب، أحلى من برجِ الأبراجِ، تعالي يا صديقتي نغنّي للكرومِ، لأزقة ديريك وهي تبتسم للقمر في مساءات الصيف، ونرسم أحزان الأزقة فوق شهوةِ القصائد، كم من الحنين حتّى اندلعت من روحي حفيف القصائد، وحده حرفي انتشلني من مغبّة البكاء، من ورطةِ غربتي المفتوحة على جنائنِ الغربِ، غربتي رصيدي في رسمِ ملامح القصيدة، تفجِّر بي ينابيع سردٍ كأنها منبعثة من هلالاتِ الحلمِ، قلمي وغربتي شهقتا حرفٍ يتطايران عالياً كأنهما وميض نور يتسامى إلى قبّةِ السماءِ.

هل يراودكِ أن ترسمي خيوط غربتنا التي تلامس مرابع الغسقِ، كيف تتواءمين مع شوق الرُّوحِ، مع حنين القلب إلى تلكَ التلالِ المتاخمة لبيتِ جدّكِ لحدو عبده؟ جدُّكِ ذات القامة الممشوقة ولا كلَّ القاماتِ، يشقّ طريقه إلى أعلى التِّلال، يحصد باقات الحنطة على إيقاع صهيل الخيل، يرفع والدي قامته القصيرة مرّحباً بجدِّكِ يضحكان فرحاً منبعثاً من حدّةِ المناجل، مناجلٌ مسنونة بأحجارِ الصوانِ، يغنون على إيقاع المناجل، أغاني منبعثة من نكهة النارنج، جاءت أمّي تهلهل وأمُّكِ تطوفُ في خصوبةِ البراري، يقدمان كؤوس اللبن، أهرب بعيداً أعبر تخوم الحقول، أسمع هسهسات الحشرات الصغيرة، ويبهرني أصوات "الجزجزوكاتِ*" أبحث عن مصدر الصوت، أتعقبهم طويلاً، أحاصرهم فوق شيقان الحمّص والعدس، أتقدم بحذر أجد "جزجزوكةً" صغيرة صفراء فاتحة اللونِ، من لون النباتِ، أمدّ يدي إليها أمسكها بهدوءٍ كي لا أؤذي جناحيها الغضَّين، أنظر إليها، أرغب أن تطلق "جزّجزَّها*" عالياً، لكنها تصمتُ بين أصابعي، هل تنتظر أن تفلتَ منِّي، تطير مثل نحلة هائجة؟ أضعها على راحة يدي ثم أرفعها عالياً فتطير بعيداً، ثم أصغي إلى سيمفونية الطبيعة المنسابة مع هبوب تماوجات الهواءِ، يستمر جدّكِ ووالدي في الحصاد، وأنا أستمرُّ في العبور في أعماق البراري، أبحث عن الجرادِ وفرس الأمير، تناديني أمّي، فيرنُّ صوتها في أذني، آتي مثل البرقِ، تقدم لي كأساً من اللبنِ، ثم أتناول خيارتين صغيرتين، وقليلاً من الجبنِ وقطعةً من خبزِ التنّور، خبزٌ ولا أشهى، كانت تخبز أمّي مرَّتين بل ثلاث مراتٍ في الأسبوع، آكل خبزاً طازجاً، خبزاً شهياً كأنّه مغموس ببهاراتِ الكونِ! أين أنتَ يا خبز أمّي ويا تنّور أمّي، أين هي جرار الماءِ؟!

فجأة تسطع أمامي (قوشات*) الحنطة، وأيام الجراجرِ (النَّوارج)، كان لجدِّكِ جَرْجَرَاً، ولا كلّ الجَّرَاجِرِ، أتذكّر جيداً أن جدّكِ كان ثقيل البنية فعندما كان يركب على الجَرْجَرِ ما كان أحداً يستطيع الركوب بجانبه لضخامة البنية وكي لا تتعب البغال من جرّ الجَرْجَرِ فكنتُ أطلب منه أن يركِّبني بجانبه فكان ينظر إلى نحافتي قائلاً، تفضّل أنكَ لا تؤثر على قوّةِ البغالِ، أركب معه برهةً من الزمنِ ينشغل في لملمة القوشة المتدفِّقة على الأطراف، ينزل مهرولا نحو "ملحيبه*" ذات الأسنان الأربعة، يلملم ما تناثر من التِّبن والحنطة بسرعة خاطفة، أمسكُ نفسي فوق الجرجر، تسير البغلتان بتمهّلٍ، يقول لي اسرع قليلاً يا ابني، أطلب من البغال السرعة، "وشّ وشّا*" مرّاتٍ ومرّات، لكنهما لا تتجاوبان مع "وشّ وشّاتي*" فأمسك (القامجين*) وأسلِّطه عليهما ثم أردِّد "وشّ وشّا"، يجفلان ويرفسانني، تأتي رفساتهما في الهواء، لكني أحكِّم نفسي بالامساك بأطرافِ الجرجر، مبتعداً إلى أقصى ما أستطيع إلى جهة الخلف، يجن جنون البغلتين فيعبران القوشة، داخل دائرة الفراغ، مجرجرين خلفهم الجرجر فأسمع صوت "الدَّفَرَاتِ" تترجرج فوق الأرض، يغضب جدّكِ غضباً شديداً ثم يصرخ في وجه البغالِ، يتقدَّم نحوهما يتوقفان عن الدوران في القوشة، وأنا كنتُ أرتجف من الخوفِ، يجرهما فوق قوشة الحنطة ثم يهدئني قائلاً، ماذا عملت حتى جنَّ جنون البغلتين، فقلت له ضربت لكل منها قامجيناً وإذ بهما ينحرفان عن دائرة القَوْشَةِ ويعبران داخل القوشة فقال لي لا تضربهما بهذه الطريقة لأنها غير معتادين على الضرب من قبل الأطفال، وهل هما معتادتان على ضربِ الرجالِ؟

ضحك جدَّكِ قائلاً هكذا يبدو، ركب جدَّكِ على الجرجر، صوتُ أمّي من بعيد يناديني، نزلت متوجّهاً نحو الصوتِ، كان موعدُ طعام الغذاء قد حانَ، جلسنا في قيظِ ظهيرةِ الصيفِ، تحت خيمة صغيرة، (كولّكة*) مفتوحة من كل الجهات، فقط تحجب وهج الشمس من الأعلى، كانت أمي تصنعها من أكياسِ الخيش، كولّكة تكفي لأفراد العائلة ولبعض الضيوفِ، نجلس تحتها أثناء الاستراحات، يمر الهواء من تحتها، نرشرشُ الظلَّ بالماء كلّما تشتدُّ حرارة الأرض، مندهشٌ أنا كيف كنّا نتحمَّل تلك الحرارة ونحن في عمرِ الزُّهور، هل كنّا نتأقلم مع خشونةِ الحياةِ، فرحٌ رغم حرارةِ الصَّيفِ، رغم شظفِ العيشِ، فرحٌ عند دستِ السليقةِ، عندما يحلّ الليل، نلعب (التوش والبوكة والبرّي والبرو برفانو بري وا جاوا يا*)! طفولة من نكهة الفرح، من نكهة الصفاء، من نكهةِ العذاب، طفولةٌ مغموسة بتلاوينِ الحياةِ.

غالباً ما يخيّل إليَّ، أنه لولا طفولتي البائسة، ولولا جموحي في البراري وفي أزقَّتي المعفّرة بأكوام الطين، ولولا بساتين الكروم، وحقول البطيخ والجبس والترعوزِ* والفنجكات*، لولا سهول القمح والحمص والعدس، لولا اخضرار الروح في سماء ديريك، لما ترعرع هذا الهاجس مع حفيف الحرف، وحدها ديريك كافية أن تفتح قريحتي على تماوجات شهوة الشعر، على كتابةِ مداخل القصصِ وخفايا الرِّواياتِ، ديريك من لون البهاء، من حبرِ الخلاصِ، خلاصنا من ضجرِ العمرِ، من ضجرِ غربتي المفتوحة على شفيرِ السنينِ، تعالي يا بلدتي أزرعكِ موجةً هائجة فوقَ حنينِ البحرِ، تعالي يا صغيرتي أرسمكِ بيدراً مكتنزاً بالخير، ببذورِ المحبّة بتواشيحِ السَّخاءِ!

ديريك صديقةُ ليلي ومسائي، ترتيلةُ غربتي المنسابة فوقَ خمائلِ حرفي، ديريك قنديلُ ناسكٍ عندَ نداءِ الصَّباحِ، زهرةٌ مسترخية بينَ ربوعِ الأقاحي!

ستوكهولم: ‏18‏/01‏/2007
صبري يوسف 
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

هوامش:

*جزجزوكة: حشرة صغيرة خضراء ضاربة إلى الاصفرار الفاتح لها جناحان شفيفان، تصدر صوتاً تصفيرياّ متناغماً مع إيقاع الجززززززززززززززززز، بشكل متواصل ولهذا أُطْلِقَ عليها جزجزوكة، نسبة إلى صوتها المجزجز، وجمعها جزجزوكات.
*تجزجزُ: الفعل الذي تم صياغته من تسميتها (الجزجزوكة)، جَزْجزَتْ تجَزْجِزُ جَزْجَزَةً فهي جزجزوكة!!! هاهاهاها
*قوشة: هي الفراغ المتشكِّل من القوشة المدروسة بالنَّورج/الجرجر، حيث يتمُّ ربط البغلتين بحبل في وسط الدَّائرة وتسير البغال فوق الحنطة لدراستها وتحويلها إلى تبن ناعم ، فهذا الفراغ يسمى قوشة، وجمعها قوشات. وهي مصطلحات فلاحية أطلق عليها الفلاحون الهلازخ منذ زمنٍ بعيد.
*الجرجر: يعني النَّورج، وجمعه جراجر.
*ملحيب: هو آلة لجمع التبن يتألَّف من أربعة أسنان حديدية رفيعة مع يدٍ خشبية طويلة، وهناك ملحيب من الخشب يتضمن أسناناً خشبية عديدة ومتقاربة يستخدم للملمة التبن والتذرية بعد جمع التبن المدروس.
*وشّ وشّا: اصطلاح يطلق على الدواب لتحريضها على الحركة والمواظبة والمتابعة في السير.
*وشّ وشّاتي: أي نداءاتي التحريضيّة على الدواب.
*القامجين: يعني السُّوط.
*الدَّفرات: وهي أسنان النَّورج/الجرجر الحادة، وهي شفرات عريضة مسنونة بشكلٍ حادّ، يسير عليها النَّورج وهي تدور وتقصُّ أكوام الحنطة وتحوِّلها عبر مرحلة دراستها إلى تبن، وتساهم في إخراج حبَّات الحنطة من السَّنابل.
*التَّرعوز والفنجكات:التَّرعوز أي القتّي وهي طويلة ورفيعة ومفردها ترعوزة، والفنجكات مفردها فنجكة، مدوَّرة ومن فصيلة القتّي وهذه الخضار لذيذة ويتم نضجها في أوائل الصيف مع الشمّام والبطيخ والجبش، حيث نلفظ السين شيناً.