المحرر موضوع: ملحمة گلگامش نثرا: اللوحان التاسع والعاشر  (زيارة 803 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل د. دنحا طوبيا كوركيس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 145
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ملحمة گلگامش نثرا: اللوحان التاسع والعاشر
بقلم: الاستاذ الدكتور دنحا طوبيا كوركيس
جامعة جدارا/ الأردن


اللوح التاسع

وما أن انتهت مراسيم الدفن حتى يصاب گلگامش باكتئاب عميق وحزن دفين على فراق خلـّه ويبكيه بمرارة. من أجل أنكيدو يأخذ طريقه إلى المجهول هائما في السهوب والبراري وخائفا من ذات المصير المحتوم الذي أودى بحياة رفيق دربه، بل ومذعورا من الأسود التي كان يفتك بها في سالف الأيام. يتذرع إلى الإله سين، إله القمر، كي يبعد عنه هاجس الخوف من الموت ويبتهل إلى عظيمة الآلهات لتحميه وتبعده عن أي مكروه وتسانده في مشواره. يحث الخطى في القفار وبين الجبال بحثا عن جده الخالد أوتو- نبشتم، أبن أوبارا - توتو، القابع في أقاصي الدنيا ليسأله عن سر الخلود. 

وبحلول الليل يأخذ گلگامش قسطا من الراحة فيخلد إلى النوم. وأثناء نومه يراوده حلم جميل فيوقظه. يرى في هذا الحلم بأنه كان محاطا بأسود تمرح في ضوء القمر. تفائل خيرا فاستعاد بأسه ورفع فأسه واستل سيفه لينقض عليها كالسهم فيضرب اعناقها ويمضي في سبيله. يصل في نهاية المطاف إلى جبال التوأم التي تحرس مشرق الشمس ومغربها. تعانق قمم هذه الجبال العملاقة كبد السماء وتستقرقواعدها في بواطن العالم السفلي ويقوم بحماية مداخلها رجل وزوجته، نصفهما أنس والنصف الآخر وحش مرعب يشبه العقرب.

يصيب گلگامش الهلع لأول وهلة عندما يرى المخلوقين المرعبين فيغطي وجهه فزعا، لكنه يستجمع قواه أخيرا ويتقدم منهما بحذر. ترتسم على وجهي الرجل العقرب وزوجته علامات فضولية أكثر مما هي عدوانية، بل ربما انتابهما شعور بالأسى والأسف والشفقة على الحالة المزرية التي كان عليها گلگامش. وإن بدا وجهه شاحبا، فقد أدركا للحال بأن جزءا من تكوينه إلهي. يسألانه باستغراب عمن يكون وما غايته في قطع كل هذه المسافات والطرق الوعرة التي سلكها وما وجهته، فيجيبهما بأنه يقصد جده الخالد أوتو - نبشتم بحثا عن سر الحياة الأبدية ولغزها. يحاول الرجل العقرب أن يثني گلگامش عن عزمه في البحث عن المستحيل لأنه لم يسبق لأي انسان وأن حاول اجتياز مسالك تلك الجبال العصية التي يلفها ظلام دامس ويقتضي عبورها مدة اثنتي عشر ساعة مضاعفة. ولكن گلگامش يؤكد بأنه ليس لديه خيار آخر ولا يمكن العودة إلى الوراء.

يوافق الرجل العقرب على مرور گلگامش والمضي قدما. ودون تردد وبغية كسب الوقت، يخطو گلگامش باتجاه مسار الشمس. إنه يحتاج إلى اكمال مسيرتها من خلال جبال التوأم قبل أن تنشر الشمس خيوطها وإلا ذهبت جهوده ادراج الرياح. وهذا يعني بأنه كان عليه أن يخوض سباقا مع الزمن لكي يتمم رحلته بنجاح. يندفع إلى الأمام لمدة خمس وست وسبع وثماني ساعات مضاعفة خلال ظلام دامس لا يسمح له أن يرى أمامه بوضوح أو أن ينظر إلى الوراء. ولكن بعد أن قطع تسع ساعات مضاعفة، يشعر بهبوب الرياح الشمالية وهي تلفح وجهه، بيد أنه ما يزال غير قادر على الرؤية بجلاء حتى تلك اللحظة. لذلك كان عليه أن يتحمل ساعة مضاعفة أخرى في تقدمه. ولكن عندما زفت الساعة الحادية عشرة مضاعفة، يدرك گلگامش أن رحلته القاتلة قد اكتملت مع ظهور أول خيوط الشمس. وبعد اثنتي عشرة ساعة مضاعفة بالتم والتمام يبصر نورا متألقا فيجد نفسه في جنة تتدلى من أشجارها وأشواكها أحجار كريمة تحبس الأنفاس وتأخذ بالألباب لما تتمتع به من جمال ساحر. يبدأ گلگامش بالتجول في هذه الحديقة الخلابة حرا طليقا لم يلحظ وجوده أحد.
[/size]

اللوح العاشر


يستأنف گلگامش رحلته. يقترب من نزل على شاطئ البحر تعيش فيه امرأة تديرحانة للخمر تزهو بمعدات تخمير وأقداح وأوعية مصنوعة من الذهب. تلحظ سيدوري، صاحبة الحانة، گلگامش من بعيد فتتحجب على الفور وتأخذ الحيطة والحذر بعدما توجست بأن القادم قد يكون لصا أو مجرما. ما أثار شكوكها كان لباس گلگامش الجلدي وشعره الأشعث ومظهره المزري. لذلك اقفلت بابها بوجهه. ولكن ما أن سمع گلگامش صرير الباب حتى راح يزجرها ويهددها بكسره والدخول عنوة. يحاول أن يقنعها بأنه گلگامش، ذلك البطل الذي قضى على همبابا الوحش ونحر ثور السماء وصرع الأسود. تظل سيدوري متوجسة من هويته لأنها لم تصدق أن يظهر الأبطال بمظهر يرثى له حيث كانت الكدمات تملأ وجهه. ولكن بعد أن امطرته بوابل من الأسئلة وتبددت مخاوفها تعبرعن رغبتها في سماع قصته وتأذن له بالدخول.

يروي گلگامش حكايته من ألفها إلى يائها ويعزي سبب حالته المزرية إلى رحيل خلـّه عن الدنيا التي شاطره فيها بطولاته. تستمع سيدوري إلى شرحه المسهب وكلها آذان صاغية. تتعاطف معه. ولكن قبل أن تقول كلمتها وتسدي له النصح، يطلب گلگامش منها أن تدله الطريق إلى أوتو - نبشتم، وإذا ما فشل في تحقيق هدفه، فهذا يعني بأن قد كـُتب عليه ان يجوب السهوب والقفار والبراري لبقية حياته. تحذره سيدوري بقولها أنه ما من أحد عبر البحر سوى الإله شمش لأن مياه الموت تغمره وتعيقه من ركب امواج البحر. وعوضا عن المخاطرة بحياته، تنصحه بأن يتمتع بالحياة وملذاتها وأحكامها لأن الآلهة استأثرت بالخلود وحكمت على البشر بالفناء. ولما كان گلگامش مصرا على اتمام رحلته مهما كلف الثمن، تضطر سيدوري إلى ارشاده. تقول له بأن هنالك مراكبي أسمه أور - شنابي في وسط الغابة، وهو ملاح يعمل عند أوتو – نبشتم، وأن بحوزته قارب متين مزود بصور حجرية تدله على طريقه، وعليه أن يركب البحر بصحبته.

وما أن سمع گلگامش بهذا الخبر السعيد حتى انتفض من مكانه وشد قبضته على فأسه واستل سيفه وشرع يجوب الغابة بحثا عن المراكبي أور- شنابي وقاربه المزود بالصورالحجرية. يباغت گلگامش المراكبي ويمسك به. وليطفأ سورة غضبه، ينقض على الصورالحجرية ويبدأ بتكسيرها ورميها في البحر. يتفاجأ المراكبي من فعلته، ربما بسبب الخوف الذي تملكه. يفصح عن هويته أولا، ثم يطرح على گلگامش ذات الأسئلة التي طرحتها عليه سيدوري، صاحبة الحانة. يعرّفه گلگامش بنفسه، ثم يقص عليه قصته ويندب حظه بفقدان صديقه أنكيدو الذي دفعه ليركب المخاطر من أجله. ولكي يجتاز گلگامش بحرالموت، يطلب من أور- شنابي القوي والخبير معاونته. يتفاعل المراكبي مع مأساة گلگامش ويتعاطف معه، غيرأن گلگامش قوّض فرصته الأخيرة لعبور مياه الموت وتحقيق مراده لأنه من دون الصور الحجرية التي حطمها بكلتا يديه وألقى بها في البحر لن يكون بمقدوره انجاز مهمته. ورغم ضياع هذه الفرصة، يجد له أور- شنابي بديلا نافعا. يشير إليه بتناول فأسه والذهاب إلى الغابة وقطع ما تيسر له من خشب يصلح لصنع عدد كاف من المجاذيف تمكنهما من الإبحار بيسر.

يصعد گلگامش والمراكبي إلى القارب بعد اتمام مهمتهما بنجاح. يكملان رحلتهما البحرية التي تستغرق شهرا ونيف وفق الحسابات التقليدية في ثلاثة أيام. وعندما يصلان حدود مياه الموت، يحذ ّرالمراكبي گلگامش بألا يلمس الماء لكونه ساما، وإنما عليه استخدام المجاذيف حصرا لتسيير القارب، ولكن گلگامش استنفذ كل المجاذيف التي بلغ تعدادها مائة وعشرين بسبب عمق البحر مما اضطره إلى استبدال مجذاف بعد آخر في كل دفعة قارب إلى الأمام. ولذلك يشمـّر گلگامش عن ساعديه وينزع ثيابه وينشر القلوع بيديه.

يشاهد أوتو - نبشتم القارب من بعيد وعلى متنه تابعه أور- شنابي وشخص ثان. يستغرب مثلما استغربت سيدوري، ساقية الحانة، عندما لمحت گلگامش ويتساءل عمن هشـّم الصور الحجرية الخاصة بالزورق وعمن يكون الشخص الثاني. يستنتج أن الشخص الثاني على متن القارب لابد أن يكون غريبا وجاء في طلب ما. يلتقي گلگامش بجده الأكبر أوتو – نبشتم ويدور بينهما حديث طويل. تتكرر الأسئلة والإجابات، كسابقاتها مع سيدوري وأور – شنابي، فيستطرد گلگامش قائلا أنه كان عليه أن يلتجأ إلى جده الأكبر في أقاصي الدنيا بعد مخاض عسير في قطع المسافات الشاسعة ليقص عليه قصته الحزينة ويضع حدا لكآبته. 

قبل أن يلقي أوتو - نبشتم محاضرة عميقة الدلالات على اسماع گلگامش، ينعته بالأحمق لعدم قدرته على التمييز بين المشورة والهراء. يطلعه على الحقيقة المرة التي تفيد بأن الآلهة هي التي تتحكم في مصائر البشر منذ لحظة ولادتهم وأنه يرهق عقله وجسده في مقارعة قانون الخلق والحياة والموت. يسترسل أوتو - نبشتم في عظته فيقول بأن الحياة تدب وتستمر في جميع المخلوقات لكن الموت يأتي إليها زاحفا بصمت وينهيها بضربة قاضية، تماما كما تشاء الآلهة العظام، ولا يعلم أحد من البشرمتى يحين الأجل سوى الآلهة التي قررته سلفا ولكنها لا تعلن عن موعده جهرا. يصغي گلگامش باهتمام بالغ إلى عظته المليئة بالحكم، فيقول له أوتو - نبشتم بأن الموت قاس لا يرحم أحدا، ويتساءل: هل تدوم الدار التي نبنيها أو العقود التي نختمها؟ وهل يقتسم الأخوة ميراث آبائهم ليبقى حتى انقضاء الدهر؟ وهل تبقى البغضاء إلى الأبد؟ وهل يفيض النهر على الدوام؟ لا تكاد الفراشة تخرج من شرنقتها حتى تبصر الشمس ويحل أجلها، وما كان هنالك ديمومة وخلود منذ غابر الأزمان. ويختتم أوتو – نبشتم عظته مشبـّها النوم بالموت والعبد بالسيد متى ما حان أجلهما. 

وإلى الملتقى مع اللوح الحادي عشر....

الأردن في 6/6/2010

gorgis_3@yahoo.co.uk
[/size]