المحرر موضوع: واذا تكلمنا قليلا عن الشرّ  (زيارة 1010 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
واذا تكلمنا قليلا عن الشرّ   

شمعون كوسا

بعدما جلست محلّلاً ما أعرفه عن الشر وما تعلمته عنه ، وبعدما أمعَنت النظر بما استقيته من بعض المصادر عن هذا الموضوع ، موضوع كان في نيتي الكتابة عنه منذ زمن بعيد ولكني كنت اخشى التقرب منه ، وجدتُ نفسي فعلا في مأزق كبير ، رأيتُني وكأني مزروع داخل حقل الغام ، او أتخبط وسط ارض شائكة جدا ، لِما لهذا الموضوع من تناقضات وحساسيات وزوايا غامضة يفسرها كلّ على هواه . قد يقول البعض بان صاحبنا قد اعتاد على تأزيم الامور في كافة مقدماته ، ولكن دعونا نرى  ما سيقوله : 

حساسية الموضوع تبدأ بالسؤال المنطقي المشروع التالي، سؤال اذا لم يطرحه احد ، سيطرح نفسه على نفسه: إن الله خلق العالم والبشرية جمعاء ، ولقد خلق الانسان على صورته ومثاله ، الله هو الصلاح والخير بالذات ، هل يُعقل بان يكون الله هو الذي أوجد الشر ؟ او هل خلق الله داخل كلّ شخص عنصرًي الشر والخير ، كما كان يعتقد بعض المسيحيين المتطرفين في الاجيال الاولى ؟
جوابُ غالبية الاديان على هذا التساؤل تلقائي وواضح وهو أن الشرّ دخل الحياة منذ الدقيقة التي عصى فيها آدمُ أمرَ الله بتذوقه شجرة الحياة او شجرة الخير والشر التي كان قد نهاه الله عنها. ويُستشفّ من هذا بان تصرف الانسان بعصيانه امر الله هو الذي أوجد الشرّ ، ومن هنا كانت الانطلاقة الاولى للموت ،  والالم ، والمرض ، والاوبئة ، والحزن ، والمصائب ، والهموم ، والاضرار ، والرذائل ، والجرائم ، والاخطار والكوارث وغيرها .

أنا اقول بان الله قد خلق الانسان صالحا ، وعندما نقول بانه جَبَلهُ على صورته ومثاله ، نقصد بانه ميّزه من دون الخلائق كلّها، ومنحه روحا وعقلا . وَهَبهُ هذه المزيّة لكي يفكر ويبدع ، وينمّي بذرة الخيرالتي في داخله ، ويقوم بتوسيع دائرة تفكيره بهدف اكتشاف الطريق القويم المتجه مباشرة نحو الخير ونحو كل ما هو ايجابي ، لان الطريق الاخر ، اعني طريق الاعوجاج والشر ، فانه درب من لا يستخدمون عقولهم أو لا يجهدون نفوسهم فينتهون في الفراغ الذي هو أخصب مرتع لنموّ الشر  .اتذكر هنا بهذا الخصوص قولاً كنّا نسمعه كثيرا في الخمسينات  وكان مفاده : رأس البطّال دكّان الشيطان .
من جهة اخرى، بالرغم من امتلاكه عقلا ، يبقى الانسان محدوداً وغير كامل لانه لو كان كاملا غير ذي نقص لاصبح خالدا او حتّى إلهًا، لان الكمال المطلق هو لله.
يُقال بانه ليس للشرّ وجود ، وان الشرّ مجرد غياب الخير. ومَثـَله هنا كمَثل الظلام الذي يتبدد بظهور النور ، أي إن الظلام هو غياب النور وهكذا مع البرد الذي هو مجرّد غياب الحرارة ، والحقد هو غياب المحبة وهكذا . فعندما يقلّ الخير او يختفي ، يحلّ الشر محله. وبموجب هذا المعادلة ، بمقدور الانسان ان يتجنب الشرّ كليا بتطوير بذرة الخير التي في داخله وباختيار الاتجاه الصحيح المدروس من خلال العقل وعدم ترك اي فراغ للشر. طبعا هنا نحن بصدد الشر الناجم عن سوء السلوك.

لقد خـُلِق الانسان حرّا ، أعني وهبه الله إمكانية اختيار معسكره بمحض ارادته  دون اي تدخل مباشر في اموره او اختياراته ليتيح له نيل استحقاق في عمله . اذا كان الانسان مسيّرا لكان قد تحجّم واقتصر دوره على مجرد آلة لا تحتاج عقلا في حركاتها ، ولكان يغدو كائنا لا اجر له ولا فضل في أيّ من نشاطاته .
تتمّ الخيارات إذن من خلال العقل ، واذا استُخدِم العقل ومعه الضمير بشكل صحيح ، لا يبقى هناك احتمال للانزلاق نحو الشرّ .
من جهة اخرى،  مفهوم الشر يساعد في عملية المقارنة بينه وبين الخير وخصوصا في إبراز جمال  الخير وأحقـِّيتِه. كيف نفهم المملوء مثلا اذا لم نسمع عن الفراغ ، كيف نفهم الحب اذا لم نعرف البغض والضغينة ، كيف نفهم السعادة ان لم نتعرف على التعاسة ، كيف نعشق الصدق اذا لم نشمئز من الكذب ، وكيف نعجب بالوداعة والحلم اذا لم نتبرّم من الغضب ، واخيرا كيف نعرف الحياة اذا لم يكن هناك موت ، لان الموت هو الذي يعطي معنى للحياة.

هناك شرّ ناجم عن عناصر الطبيعة كالاوبئة وكوارث الطوفان والحريق والبراكين الهائجة وغيرها . إن ما نعتبره شرّا هنا ظاهرة تسير وفق نظام  عام خاضع لمعادلة العلـّة والمعلول . بمعنى آخر ، لا يحدث شئ بالصدفة. كل هذه العناصر لها قوانينها واسباب تحركها التي تتمّ وفق نظام الكون الشامل . واذا وقع مكروه من جرّاء تقلبات هذه العناصر الثائرة حسب قوانين الطبيعة ، والتي نعتبرها شرا ، لا يجب ان نفسرّ ذلك البتة بالعقاب ، لان الضحايا قد تكون من بين البشر او الحيوانات او غيرها . فالشرّ هنا لم يعقب تصرفا خاطئا ،  ولكن الاسباب السائدة في تلك اللحظة هي التي تتزاحم لخلق تلك الظاهرة. واذا ادخلنا الله في الموضوع نقول بان الله عالم منذ الازل بكل تطور ولكنه يَدَع الانسان يسير حسب اختياره ، والطبيعة بموجب قوانينها.
 
حتى الامراض التي نُصابُ بها تخضع لنفس المبدأ .هناك حالات موت مفاجئ تصيب بعضَ الشباب وهم في مقتبل العمر، ونقول عنهم  عادة : ان المرحوم لم يشكُ في حياته من أيّ مرض او حالة خاصة ، وإنّ المنيّة وافته دون مقدمات. انا اقول بانه لا شئ يحدث دون سبب ، قد يكون السبب وراثيا ، او ناجما عن تراكمات نجهلها نحن وكان يجهلها الشخص المعني نفسه ، ونحن نطلق على الحالة اسم الصدفة  لانه ليس لدينا تفسير آخرعنها .

نستطيع القول ايضا بان الله وهب الانسان عقلا لكي يكمّل ، بواسطة هذا العقل ، ما بدأهُ هوعند خلقه للطبيعة ، وليساهم في تحسينها وتطويرها نحو الخير . لقد سجّل الانسان عبر التاريخ ، وخاصة في الازمنة الاخيرة ، تقدما في كثير من المجالات وساهم في تقليص الشرّ في العالم . قام الانسان بتصنيع عقاقير لمختلف الامراض وعلاجات لتخفيف الالام. ساهم في إطالة عمر الانسان وأوجد اسبابا لراحته. اخترع اجهزة للوقاية من بعض الكوارث او مقاومتها  ، قلل المجاعات ، غير ان عقولا غير مستقيمة ، تأتمر بأوامر الانانية والمصلحة الخاصة ، ساهمت في قيام الحروب وزادت من اسباب نشوبها ووسائط ادامتها .

على الانسان اذن ان يواصل بحوثه ، فيستخدم عقله القويم في الاتجاه العلمي الايجابي الصحيح للحصول على نتائج جديدة في بحوثه عن الوسائل التي من شانها ردم الثغرات ومعالجة الجوانب الضعيفة في الانسان لابعاد الشر بكل وجوهه الظالمة . من جهة اخرى ،  يجب الحرص كل الحرص على ان ينموَ الطفل في اجواء صالحة وخيّرة ، اجواء تتبنّى المبادئ السامية وتمارس الفضائل وتؤمن ايمانا راسخا بكل ما من شأنه تبديد الظلام وطرد الضغينة ومحاربة الانانية ،اجواء تضمن تربية يسود فيها الخير التام .
واذا رجعنا الى بعض تعاليم الدين ، نقول ان القسم الاكبر من رسالة المسيح أتت لتعزيز مكانة الخير ضد الشر، فهو الذي يقول مثلا : لا تقاوموا الشر بالشر ، احبوا اعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، وكافة وصاياه تنصبّ بهذا الاتجاه وتُعتبرمن أنجع الوسائل لاجتثاث الشر. امّا عن الالم ، يجب ان نقول بان المسيح قد اعطى قيمة للالم . لقد حاول بعض فلاسفة اليونان في حينه معالجة الموضوع بدعوتهم للصمود ومحاولة الحفاظ على برودة الاعصاب والهدوء،  ولكن المسيح ، من خلال آلامه ، مكّن الانسان من قبول آلامه  وتقديمها من اجل خلاصه .
ارجو ان لا اكون في تطرقي لتعاليم المسيح وآلامه قد تجاوزت حدودي المدنية ، أو أخذت بعضاً ممّا يجب ان يقوله رجال الدين !!

ختاما اقول ، لقد تعمّدت ان أبقى في موضوعي هذا  في الطبقة الاقرب من سطح الماء خشية الغوص عميقا والتعرض للغرق ،لان التمحيص الزائد في هذا الموضوع هو شبه متاهة .  لم اتحدث الا عن بعض جوانب بسيطة ، لان الشرّ موضوع واسع ومعقّد يحتاج الى مكتبة باكملها . لقد ذكرت بعض المبادئ التي تبدو منطقية وكانها جواب للتساؤلات ، ولكننا في الواقع ، عند بعض الحالات الصعبة نبقى فاغري الافواه عاجزين عن  أيّ تفسير ، لاننا نتكلم عن شئ يملأ حياتنا اليومية ونحسّ به ونعاني منه كل دقيقة وبشتّى الوجوه ، مع هذا  نسمعهم يقولون بانه غير موجود !!
Kossa_simon@hotmail.com