المحرر موضوع: البصرة بعد 32 عاما! الحلة الزاهية التي تمزقت.....(2)  (زيارة 985 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل رزاق عبود

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 390
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
البصرة بعد 32 عاما!
الحلة الزاهية التي تمزقت.....(2)

"البصرة عمار" هكذا كان الكويتيون يسمون البصرة. ويرددون عن خبرة: "المايشوف البصرة تظل بگلبه حسره"! كان ياتي الكثير منهم لزيارة المدينة (ايام عزها) كل نهاية اسبوع يتمتع ببساتينها، وحياتها المنفتحة، وبساطة اهلها، وكرمهم، واحترامهم ورعايتهم للغريب والاجنبي. فماذا وجدت انا ابن البصرة العائد بعد 32 عاما من الغياب، والغربة، والشوق، والحنين الى مرابع الاهل والاصحاب، الى "السماء الاولى" وملاعب الصبا. مواقع اختفت، احياء تبدلت، شوارع تغيرت. لم اجد حتى الساحات المدرسية، او الملاعب الرياضية، التي كنا نلعب، ونلتقي، ونجتمع بها. وقفت عند باب احدهم اساله: اين ساحة الخضراوية؟! قال وهو يضحك، باسى، وسخرية: انك تقف على نهرها الان! لقد تحول ذلك البستان الجميل الى بيوت، لا تعد ولا تحصى، والادهى ان لا احد، تقريبا، يعرف جاره. "فالبصرة صارت لملوم"! اضاف بحسرة مؤلمة. وما الضير، قلت، فكلنا عراقيون؟! صحيح، ولكن نحن نفتقد السمات، والصفات، والعادات، والاصول، والاعراف التي ميزت اهل البصرة. جموع هائلة من البشر، انماط غريبة من الناس، صيغ جديدة للتعامل، غرابة السلوكيات، والتصرفات.

قطعان الكلاب، والقطط السائبة، والجرذان تنشرالامراض، وتثير الرعب في نفوس الاخرين. رغم ما يقال انه خصصت(دفعت) الملايين للتخلص منها. اكوام المزابل حلت محل الحدائق المنظمة، والخضرة، والنخيل التي ميزت البصرة. مستنقعات المياه تعيق تحركك، وتولد مليارات البعوض تنشر الطنين وانواع العلل. فوضى سير رهيبة. قلة قليلة بحوزتهم اجازة سوق! كل من هب ودب يقود سيارة ويعرض حياته وحياة من يرافقه، او يشاطره السير في الشوارع الى الخطر. اطفال تركوا مدارسهم وتحولوا الى "سواق" تاكسي. عوائل يتحمل مصيرها طفل قد يقودهم الى مهلكة في اية لحظة. صريخ الناس، وضجيج الاسواق غير المعتاد! اين سكينة البصرة، وهدوء اهلها. منبهات السيارت تصم الاذان. تمنعك من التركيز، او السير اوالنوم، او مواصلة فكرة حديثك. فالمنبه يفزعك في كل  لحظة، وكانه مخصص لازعاج الاخرين. الاف من السيارات الجديدة الفاخرة تنبهك للاغنياء الجدد من القطط "الفيلة" السمان. من حواسم، وعلاسة، ورجال مليشيات، ومهربي النفط، والمستفيدين من الفساد الاداري، والمالي.

بيوت فخمة تضاهي بيوت اغنياء دبي. وفي نفس الوقت يتسرب مئات الاطفال من المدارس. يعرضون حياتهم لخطر الدهس، وتنفس العوادم، واهانات السواق، ومشاكسات البعض، وهم يندسون بين السيارات المسرعة، او مستغلين اختناقات المرور لبيع الحلويات، او الاكياس،او أي بضاعة اخرى. الغريب انني لم الحظ احد منهم يبيع الصحف، او الكتب في مدينة الثقافة، والشعر والادب. ولا يوقف هذا المد الهائل من السيارات القدديمة والجديدة الا كثرة نقاط التفتيش (السيطرات) البدائية. جنود متعبون، منهكون، يتثائبون، او يتحدثون بالنقال، يمازحون بعضهم دفعا للكدر. يتقصدون،احيانا، ايقاف بعض السيارات دون غيرها ليس لحرصهم. فانت لا تجد أي اهتمام في سلوكهم، او تصرفهم، او في طريقة حمل سلاحهم، وانما لغرض(الكشخة) على سيارة تقل فتيات، او ذات نوعية ثمينة، او طراز جديد. ممارسة سلطة وتظاهرة قوة. وضعوا لحماية الناس، ومراقبة الارهابيين، لكنهم لا يستطيعون حتى حماية انفسهم. فالسيطرة اما خيمة متهرئة، او صفيحة أكلها التاكسد، او حصيرة عتيقة، واحيانا قطعة اسمنت تعيقهم اكثر مما تفيدهم او تحميهم. بل قطع كارتونية بائسة احيانا. انهم صيد سهل لاي ارهابي مجرم، أومخرب جبان. هذه الظاهرة تذكرك بثقل، ونفاق الاحتلال الذي يحمي جنوده جيدا، ويترك جنود العراق في مهب الريح. يذكرك بفقدان الامان، بالترقب الدائم، والحذر المرهق للاعصاب رغم مرور ثمان سنوات تقريبا على الاطاحة بالصنم.عندما تشاهد هذه السيطرات البدائية تزداد خوفا، ولا تشعر بالاطمئنان. الناس تعودوا على الخطر. لم يعد هناك شيئا غريبا. سنوات الطغيان، والحروب، والاحتلال زرعت فيهم لا ابالية غريبة اتجاه المخاطر. تعود الناس على الهمرات، والدبابات، والمدرعات، وهي تقف امام ابواب بيوتهم، او تقطع شوارعهم، او تراقبهم، وهم يتناولون طعامهم، او شرب شايهم في المطاعم والمقاهي. حياة مدنية معسكرة، ام عساكر تقتحم خصوصيات المدنيين؟ صورة حاضرة دائما. تجعل البصري، او الزائر للبصرة يشعر وكانه في معسكر كبير. وهؤلاء المدنيون يعملون فيه خدما، او موظفين، او بائعين، او متسولين، وما اكثرهم!!

رغم ان القوات المسلحة (الوطنية) المفروض ان تكون للجميع، ولا تتحيز لاحد فان صور القادة السياسيين والدينيين غالبا ما تجدها ملصقة، او معلقة عند السيطرة، وكانها جزء من وسائل الحماية. ليس هناك في العراق، كما يبدو، ما يبعث على الاطمئنان.الصنمية ولت، والحرب الطائفية انتهت، والديكتاتورية سقطت، او هكذا يقال. لكن في بصرة الميناء، والخير، والثقافة، والشعر، والاحلام، تجد الخوذة هي السائدة، والبيوت الرئاسية تحولت الى "منطقة خضراء" خاصة بالبصرة. كيف لا، وهي عاصمة الخليج ولابد ان يكون لها حصنها المنعزل عن الجماهير الشعبية!

للحديث صلة   
رزاق عبود