المحرر موضوع: هل إنّ كلّ قويٍّ شجاعُ  (زيارة 1031 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
هل إنّ كلّ قويٍّ شجاعُ
« في: 18:35 08/12/2010 »
هل إنّ كلّ قويٍّ شجاعُ   

               
شمعون كوسا

منذ فترة بعيدة كنت افكر في الكتابة عن الشجاعة ، وفي كل مرة اجلس لاجمع ما سمعته وما قرأته وما رأيته عن هذه الصفة النبيلة تتسابق حواس السمع والبصر في مشاهد وأصوات تتلاطم بحيث تمنع تدفق اي شرح وافٍ لوصف هذا الموضوع بالجاذبية التي تليق به ، فكنت انزلق الى مواضيع اكثر سلاسة. ولحدّ الان لم اهتدِ الى ما مِن شأنه اضفاء عنصر التشويق الى ما سأكتبه ، ولكني سأبدأ معتمدا على مبدأ تسلسل الافكار أو على المثل القائل الشئ بالشئ يذكر. فاذا بدوت سطحيا فستكون هذه ايضا محاولة اضافية لبعض مبادراتي الفاشلة.
لقد قيل الكثير ، وعلى مرّ العصور، عن الشجاعة وهناك قصص وحكايات لا تعدّ ولا تحصى عن الموضوع ، غير اننا احيانا تختلط علينا الامور ، لانه ليس كل انتصار شجاعة ولا كل قوة بسالة.
بهذا الخصوص ، اريد ان اذكر حديثا عاديا جدا سرده لي مديرُ مدرسةٍ إعداددية عن بعض طلابة فقال :
كان في عداد طلاب مدرستي تلميذ ينظر اليه الجميع باعجاب ممزوج بشئ من الرهبة. كان شابا طويل القامة ، شديد البأس. لا تمرّ واقعة الا وله يد فيها ، ولا ينشب خصام دون ان تكون له الكلمة الاخيرة. كان يتجنبه الخصوم واذا صادفوه يؤدّون له تحية مطولة بيدٍ لا تنزل عن الرأس الا بعد خمس امتار من تجاوزه . كان قد استحوذ على عقل اغلبية الطلاب بحيث كانوا يطلقون عليه لقب البطل الصنديد او الرجل الشجاع ومرادفات اخرى تدور في نفس محور أوزان المبالغة هذه . في يوم من الايام شبّ حريق مفاجئ في احد صفوف المدرسة وتحول بسرعة البرق الى نار هائلة التهمت الصف باكمله. استطاع الطلاب ان ينفذوا بجلدهم وخرج كل واحد على طريقته ، غير انه تبيّن بان هناك طالبا صغيرا ، هزيل البنية وبطئ الحركة لم يستطع ان يجاري الطلاب في اندفاعهم وتزاحمهم ، فبقي حبيس النار.
بات الجميع ينظرون الى بعضهم البعض خائفين. تصاعد اللهيب ولم يترك مجالا حتى لرؤية حيطان الصف . وهم في حالة الذعر هذه ، تذكروا بطلهم الصنديد وقالوا  :لقد حانت ساعة الجدّ ،  هذا يوم بطلنا لانه فعلا الشخص المناسب الذي بمقدوره إنقاذ الطالب . فإتجهوا نحوه واذا به قابع في زاوية وقد ادار ظهره للجميع . عند محاولة استفهامه ، اجاب مرتعشا : لا استطيع القيام باي شئ لاني اشعر بالم كبير في رأسي،  اتركوني . فتركه اصدقاؤه حائرين بين علامات لم تهدأ لا تعجباً ولا استفهاماً .
وفيما هم ينتظرون في حالة استسلام ويأس، انطلق من بين الصفوف الخلفية طالب لم يكن يَحسب له زملاؤه له أيّ حساب ، لانه لم يكن يشاركهم لهوهم وانشطتهم الصاخبة . هبّ من بين الجميع واخترق زحمة الطلاب متجها نحو الصف الذي كانت تلتهمه النيران . ناداه زملاؤه محذرين إياه من  المصير المحتوم الذي سيكون بانتظاره ، ولكنه لم يُعِر اهتماما لنداءاتهم .
كانت المدرسة برمتها تترقب بحزن مشوب بالخوف ، ويقينها التام بان الطالب الذي اقتحم الحريق سيكون الضحية الثانية للنار ، واذا بالمُنقذ يظهر وهو يحمل زميله الصغير شبهَ المغمي وقد اسودّ وجهه وتمزقت ثيابه ، أما هو فكانت قد اصابته حروق في كامل جسمه وكانت النار قد غربلت ثيابه بثقوب كبيرة غير منتظمة.  لدى خروجه خيّم صمت عميق علىالجميع وشلّت الدهشة حركتهم ، حتى انهم نسوا ان يصفقوا تحية لشجاعة زميلهم وابتهاجا بنجاة الطالب الصغير .
  وهنا انتهى المدير من سرد قصته وتوجه نحوي قائلا : إنني اخشى ان اسألك عن رأيك بهذين الطالبين لانك سترمقني بنظرة حادة تنطلق من اقصىالطرف الايسر لعينك اليمنى لتقو ل : ما لي وما هذه القصة المتواضعة جدا ، أين قصص الابطال  اواحاديث عن كسر شوكة الطغاة  أو روايات المقاومة في الحروب وغيرها من الاساطير والملاحم الاخرى ؟ هنا قاطعته وقلت له مباشرة : أراك اين تريد إيصالي ، اذا كان لا بد ان اتكلم عن قصتك فاني اقول بأنّ  طالبك الاول لا يملك ذرة من الشجاعة بل بالعكس انه نموذج للجبن . انه شخص لم تكن له غاية اخرىغير حبّ الظهور والاستعلاء، شجاعته كانت مزيفة ولم يكن يصبو الا  للسيطرة على الضعفاء الذين جعلهم يشعرون بالحاجة اليه. لم يكن لشجاعته المزعومة حافز او عمق داخلي ، ولانه كان أنانيا لم ينجح في التغلب على حاجز الخوف ولم يحاول تجاوز حدود نفسه  .
أمّا الشجاع الحقيقي فهو من اخترق حاجز الخوف وانطلق غير آبهٍ بالخطر . انه الطالب الكتوم الذي نبعت نخوته من داخله فحركت اعماقه وجعلته ينطلق باتجاه النار في تنفيذ عملية نبيلة. نسي نفسه وانطلق لانقاذ زميل مريض لولاه لكان قد اضحى وقودا مجانية لنار جائرة . لم يكن هذا المنقذ شابا قويا ولا حادّ النظر ولا شديد البأس ، ولم يكن يحب المراهنة والتحدي ولكن شجاعته احرقته من الداخل ، فانسته الخوف وقذفت به نحو الهدف النبيل اعني نجدة الغير .

فالشجاعة اذن ، وباختصار، هي صفة الانسان الذي يستطيع تجاوز حاجز الخوف في مواجهة خطرٍ ما لانجاز هدف نبيل ونافع   . من جهة اخرى ، تحتاج الشجاعة الى تحكيم العقل ، إذ لا بدّ من إشراف العقل لتجنب مجازفاتٍ قد تبدو بطولية ولكنها لا تخدم هدفا أوتكون عديمة الفائدة . تكون المجازفة  شجاعة اذا استهدفت الذود عن الضعفاء او اسعاف المحتاجين.
كما لا يجب الخلط بين الشجاعة وبين صفات أخرى قد تشترك معها بالشكل ، مثل الجسارة أوالتهور لان دوافع  هذه تكون في اغلب الاحيان الرغبة أوحب الظهور.
على الانسان اذن التعوّد على الصبر والثقة بالنفس والتغلب على الوسواس . أما عن الخوف ، فإنه احساس طبيعي جدا وهو يلازم الشجاعة لان الانسان الذي لا يخاف لا يمكنه ان يصبح شجاعا.
ومن المهم ان نعرف بان الشجاعة عنصر اساسي ومكمل لاغلب الفضائل والصفات الحميدة لانها تتداخل في كثير من ظواهر الحياة وممارساتها ، كما نراه في الخاتمة التالية التي تخيلتـُها ، والتي تشرح جانبا من هذا المجال الواسع :
 
 فكّرت في أن اجعل الشجاعة عصا سحرية ، فارسلتُها لكي تستقر على مَن يَدينُ بدِينها وكي تحصي في طريقها أعداد مَن يتـّصف بصفاتها من بين البشر ، فرأيتها بعد جولة طويلة قد عادت بصحبة عدد قليل جدا من الناس . لقد مرّت في جولتها على آلاف الناس او مئات الالوف من البشر والكلّ كان يوقفها ويقول لها أنا الشجاع ، أنا الشجاع ، فكانت تبادرالاول : هل لك الشجاعة الكافية للتخلي عن نفسك ومصلحتك الخاصة في القضية الفلانية ؟ فكان المدّعي ينسحب ،-  وتسأل الثاني : هل لك ما يكفي من الشجاعة لافساح المجال كي يبرز رفيقك في الساحة ؟ فكان يلتزم الصمت ، -  وتسأل الاخر : هل لك شجاعة الاعتراف بذنبك ؟ فيطأطئ رأسه ، -  وتسأل الاخر  :هل لك استعادة نخوتك لإنقاذ البرئ الذي يحل محلك في السجن ؟ فيهرب دون جواب ، -  وتسأل من يليه : هل لك شجاعة التضحية من أجل من  تحب ؟ فينظر اليها بوجه مصفر ، -   وتمرّ العصا هكذا وتسأل  الشخص الخامس عشر : لماذا خانتك شجاعتك بالوفاء والالتزام بالعهد الذي قطعته ؟ فيبقى فاغر الفاه ،  -  وتسأل الخامس والعشرين : هل لك الشجاعة الكافية لتصبر عليهم ؟ فيجيب كلاّ ، -  وتسال السابع والثمانين : هل لك شجاعة التبرع بمبلغ ينقذ جيرانك من مصيرهم المحتوم ؟ فيغضب قائلا وهل انا المسؤول عنهم . -   وآخر ايضا : هل لديك الشجاعة لتسامح فلان وتغفر له ؟ فيدير رأسه دون جواب ، -   والحالة الثامنة والتسعين كانت : هل يمكنك التحلي بالصبر ورباطة الجاش كما فعل فلان  في محنته وفلانة في آلامها الحادة ؟ فكان الجواب هذا صعب جدا . وأرادت العصا الاسترسال كي تفرغ ما في جعبتها من مئات الحالات الاخرى ، فاشـّرتُ إليها ، نا ظراً الى ساعتي،  بانه لا بدّ لي من إنهاء المقال ، فسكتت حالا وسقط  ما كان في جعبتها أرضا وانتهى سحرها   .
مدفوعاً بفضولي تقدمتُ للاطلاع وإحصاء ما كان قد تبقى لها من حالات ، ولكني تراجعتُ حالا امام الكمّ الهائل من حالات خذلان مهمة لم يتسع لها صدر هذا المقال .