المحرر موضوع: الهويّة والغيريّة . . والخيار  (زيارة 1049 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل نبيل جميل

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 258
  • الجنس: ذكر
    • مشاهدة الملف الشخصي
الهويّة والغيريّة . . والخيار
[/size]

 في خضم التخبط والدوامة التي تعصف بشبابنا اليوم، وما يعيشه المحيط العربي المعاصر من صراعات عديدة ومتنوعة، على الساحة السياسية والاجتماعية، الدينية والطائفية، الثقافية والعلمية، . . . نراه لا يرضيه الماضي ولا يفرحه الحاضر ولا يشجعه المستقبل. فهل سيبقى في هذا الجو الخانق من القلق وعدم الأستقرار؟ أم يسكت تجاه ما يجري من حوله؟ أو يبقى متفرجاً وكأن الأمر لا يعنيه ولا يهمه؟ أظن هذا لن يكون موقفاً انجيلياً، بل العكس فالأمر يهمه ويهمنا كثيراً نحن المسيحيين، لأن المستقبل مبنيٌّ على الشباب. فما أحوجنا اليوم إلى شباب واعي وناضج وصاحب قرار يمتاز بالقيادة ويذّكر الناس بالمحبة والتعاون والصدق والبناء وزرع البذار الصالح. لذا سنحاول في مقالنا هذا، أن نسلط الضوء على بعض من حقائق واقعنا العربي، والذي يتمحور حول ثلاثة ابعاد (العقل، قبول الغيريّة، واحترام التاريخ). والتي نراها ملحّة في محيطنا العربي بعامة، والشرقي المسيحي بخاصة. وهي ابعاد انسانية ضرورية، لم نعتمد عليها، بل لم نولِها حقّها في نهجنا ومنهجيتنا.
1-   مأزق العقل العربي:
    مما لا شك فيه إننا أمام مأزق كبير، والمأزق إنما يكمن في "العقل" العربي وتأثيراته علينا. فالفكر العربي حذر تجاه العقل، بل ويخشاه. لما لقدرة العقل على الشك، وقوته الناقدة لكثير من القناعات المتوارثة على مر الاجيال. وأمام ذلك، هناك موقفان مضادان يعيشهما المحيط العربي:
   أ‌-   فهناك موقف عدم الأعتراف بهذا المأزق وبهذا النقص الفادح، وهذا يقودنا إلى التوهم بان مجتمعاتنا العربية أليفة العقل ورائدة الفلسفة والثقافة والعلوم . . . ولهؤلاء نقول: الأعتراف بالنقص فضيلة، بل وبداية الهداية والتقدم، واما الهروب من الواقع وبالاستمرار في الخطأ، فلا يجدي نفعاً في أي حال من الاحوال.
   ب‌-    وهناك موقف الخضوع السلبي للإيمان، حيث اللجوء الى الإيمان خوفاً من العقل واحتماءً منه، او كسلاً في عدم استخدامه. فلماذا الخوف من العقل، أو الحذر منه، أو رفضه؟ فكل الفلاسفة اللاهوتيين والقديسين الروحيين على مرور الزمن كانوا يستخدمون العقل ويسخرونه لخدمة الإيمان. أي من دون الوقوع والخضوع الأعمى للإيمان بدون اعمال العقل؟ أليس العقل قد خلقه الله، كما خلق الجسد والنفس والروح...؟
   وإزاء هذين المهربين من الحقيقة، ألا ينبغي لفكرنا العربي الشرقي المسيحي - على اختلاف توجهاته في العلوم الانسانية والفلسفية واللاهوتية - ان يتعظ بالغرب الذي استخدم العقل، في عدة مجالات، منها الفكر الفلسفي والعلوم الانسانية والتفسير الكتابي والخطاب اللاهوتي؟ أن نتوجه إلى الخارج ليتقوى الداخل، أن نستفيد من خبرات وابداعات وغنى الخارج، كي نبني النفوس ونطوّر المهارات ونحفز المواهب لمن هم في الداخل. فقد توصل الغرب بالفعل الى نوع من التناغم بين الايمان والعقل من خلال أجتيازه "أزمات". ولا خوف من الأزمات لأنها، بالرغم من خطورتها الحقيقية، فقد تفضي الى تطهير الإيمان من الشوائب غير الإيمانية العالقة بها. وما علينا اليوم سوى أستقراء ملامح المسيرة الغربية، لا لنقلدها، بل لنستلهمها، علّها تفيد منهجنا العربي بوجه عام والمسيحي الشرقي بوجه خاص. قناعة منا إن في كل خبرة انسانية أو فكر انساني بعداً انسانياً شاملاً. فقد نهض الغرب وأستيقظ من سبات القرون الوسطى في عصر النهضة الاوربية، عندما تحرر من ثوابته وقناعاته وقوالبه الراسخة وموروثاته الجامدة وتقاليده المتحجرة. إذ استعمل العقل واستخدم النقد وادخل مبدأ "الشك المنهجي" وتقدم في العلوم الانسانية الدقيقة والفلسفية والدينية والإيمانية والثقافية .... كل هذه المجالات خدمت فعلاً الغرب في ان جعلته يستعمل عقله، وحررته من تسلّط ما ليس بالعقل كالسلطات الدينية المتسلطة والمعتقدات الخرافية الموروثة، وفي نهاية المطاف طهرت إيمانه من كل ما يشوبه من شوائب التي ليست بالإيمان الخالص . . . .
   وهنا لا ندعي أطلاقاً، بأن فكرنا العربي المعاصر من المحتم عليه ان يمر بكل ما مر به الغرب. فمسيرة كل امة وكل شعب، وكل دين وكل طائفة، تختلف كل الاختلاف عن غيرها، فعليها ان تخوض مسارها الخاص. كما إننا لا ندعي أطلاقاً، بأن مسيرة الغرب مثال ينبغي ان يحتذى به، ففيها الصالح وفيها الطالح، وفيها ما يناسب الوضع العربي وفيها ما لا يناسبه. غير ان المسيرة الغربية هي بمثابة "نموذج" يمكننا الأستعانة بإيجابياته، كما انه وبذات الوقت يمكننا تحاشي اخطائه. فخلاصة القول ان فكرنا العربي الديني والطائفي، السياسي والاجتماعي، . . . في مسيس الحاجة الى "معلمي الشك" لا شك من اجل الشك، بل الشك المنهجي النقدي بفضل اعمال العقل، وتطهير الايمان، وبنيان عقلية متجددة، ونقد الذات، والتحرر من مختلف السلطات المهيمنة. . .
2-   الهويّة والغيريّة:
   ومن القضايا التي تتطلب دوراً نقدياً، بالأضافة إلى دور أو بعد العقل، نذكر قضيتين هامتين مكملتين له: الهويّة وقبول الغيريّة. فليس الهدف الحقيقي من هذا كلّه هو العقل، بل "الإنسان الكلّيّ" أو "كلّيّة الإنسان" أي كل مقومات وابعاد شخصيته الجسدية، والنفسية، والأجتماعية، والروحية، ... لأن الإنسان هو وحدة متلاحمة لاتقبل التجزئة.
   أن ما يميّز العقلية العربية هو تركيزها على "الهويّة"، فهي تنطلق من الهويّة وتنتهي بالهويّة. أي انها منغلقة على ذاتها، حيث لا مكانة للآخر المختلف عنها، فهي تمتصه بل وتلغيه. وينجم عن هذه العقلية جميع ألوان التعصّب الذي نشاهده في مجتمعاتنا العربية، ولا سيما على الساحة السياسية والأجتماعية، والدينية والطائفية، حيث أغلبية ساحقة وأقليات مبعثرة. وبالتالي تكفير "الحداثة" ورفض كل ما هو جديد ومتجدد، بيد ان الجديد أو المختلف، يحمل في طياته "غيريّة" يخشى أن تهدد الهويّة أو أقله تضعها موضع تساؤل. ولتجاوز ذلك تتحتم على العقلية العربية أن تأخذ بعين الأعتبار الغيريّة، لتخرج من مأزق الهويّة الأحادية القاتلة لكل فكر وكل تقدم. فالغيريّة هي "المختلف" الذي يقتحم الهويّة كي لا تنغلق على نفسها فتخشى الآخر وتهرب منه وتعتبره مهدداً وترفضه وتقاومه. إن قبول الآخر المختلف ضرورة حيويّة لتتوطد الهويّة وتنمو وتنفتح على الشمولية. وإن قبول التعددية، المترتب على قبول الآخر، هو غنى وثراء، وليس كما يعتبرها البعض بأنها عنصر تهديد للهويّة. والغيريّة تسمح بعلاقة وطيدة بين الأنا والآخر، بحيث يصبح الآخر جزءاً لا يتجزأ من الأنا، وتدمج "الهويّة – الغيريّة" من دون أن تتلاشى أو تنصهر الغيريّة في الهويّة، ومن دون أن تفقد الهويّة أصالتها. وهذه الهويّة، هي هويّة مجددة لأنها أغتنت بالآخر. وبما أن الآخر متعدد، فالهويّة تغتني بأستمرار وتكتسب عناصر متعددة. فالهويّة، في نهاية الأمر، ليست جامدة متحجرة، بل هي حيّة متجددة، حتى أمكننا أعتبار الهويّة "هويّات".
   وهنا تواجهنا تحديات ملحّة، لابد لنا من الأشارة لها:
   أ‌-   ضرورة الأعتراف بالآخر المختلف في مجتمعاتنا العربية، في المجال السياسي والأجتماعي، والديني والطائفي، ولا سيما اعتراف الأغلبية بالأقلية أو بالأقليات. فالأعتراف بالآخر المختلف، واحترام حقوقه، والمساواة في المعاملة، هي للأسف أمور غير بديهية في مجتمعاتنا العربية، والحق في الأختلاف أمر غير مألوف أيضاً، بل يكاد يكون غير مقبول، لأن الحق للقوي وللأغلبية السائدة الساحقة. ولذلك لا تمارس معظم مجتمعاتنا العربية الديمقراطية بل "الدم قراطية"، لأنها تخالف ما اعتادته من سيطرة القوي أو الأغلبية بإقصاء الآخر المختلف ولا سيما الأقليات. وعليه، فهذا البعد الناقص هو تحد بتمام معنى الكلمة في مجتمعاتنا العربية.
   ب‌-   والتحدي الثاني في مجتمعاتنا العربية، هو "الحوار" وهو بمثابة تحدٍّ حقيقي، لأنها لم تعتد الحوار، بل اعتادت في تاريخها الدفاع عن الذات، بينما الحوار يتطلب الخروج من الذات لمعرفة الآخر كما يعبر "الآخر" هو عن نفسه، لا كما أتصوره أنا. بيد أن الحوار يحتم قبول الآخر مختلفاً، وجديراً بالأحترام لكونه آخر مختلف. لذا فإن تحدي الحوار هو حقيقة بمثابة "ثورة" في النهج العربي.

3-   الحس التاريخي:
   في حقيقة الأمر، أن محيطنا العربي يؤله الماضي. وأشكاليتنا تكمن في انه نعود اليه لنثق بأنفسنا في حاضرنا ، حتى قيل – بروح من الفكاهة – إننا "نتقدم" ونحن ننظر الى "القديم"، ونخطو خطوات الى "الأمام" ونحن ننظر الى "الوراء". أو نتغنى بأمجاد ماضينا ومكتسبات حضارتنا، متهمين الغرب بسرقتها، بل ومعوّلين عليها تقدمه ورقي حضارته .....
   وبالمقابل، فإننا نولي التقليد ايضاً أهمية بالغة حتى التأليه، ذلك بأن لا الحاضر القاتم، ولا المستقبل المجهول بمقدورهما أن يمنحا ما يمنحه التقليد المؤله من أمان وضمان واستقرار، ومن عزة بالنفس وفخر بالذات امام حاضر يتسم بالهوان ومستقبل يفلت من قبضة اليد. ونحن هنا لسنا بصدد مقاومة التطرف في النظرة الى الماضي، ولا سيما الى التقليد، ولا يعني ذلك على الأطلاق أننا نقلل من قيمة الماضي أو التقليد. ولكننا نحاول أن نظهر للعديد من العرب الشرقيين الذين لا زالوا يعيشوا هذه حالة من التشنج والتأله للماضي على حساب الحاضر والمستقبل. لذا ندعو الى نظرة متناسقة للماضي والحاضر والمستقبل، بدون تفضيل أو مفاضلة الواحد على الآخر، بالرغم من صعوبة الأمر في تدارك ذلك. علماً بان التركيز على الماضي يؤدي الى ما تم توضيحه من مخاطر وعيوب، واما التشديد على الحاضر فيؤول الى الانغماس في واقع الحياة حتى الاستعباد لها، واما الألحاح في المستقبل، فيفضي الى الهروب من الواقع والتحليق في احلام وردية وروحانيات وهمية. لذا وجب علينا السير قدماً نحو التكامل المتناغم فيما بين المراحل التاريخية الثلاث.
4-   الكنائس الشرقية بين الأصالة والتجديد:
   أما ما يخص كنائسنا الشرقية التي لم تتعرف الى آخر مختلف، فظلت في نطاق هويّتها، بدون الأحتكاك بغيرها. وعندما دخلت في علاقة بآخر مختلف، تم ذلك في جو من الصراعات والأنشقاقات، لا في جو من الحوار البنّاء المثري. فتحجرت في ماضيها المجيد، في "عصرها الذهبي"، فأجترت الماضي بدون أبداع، وفضّلت الهويّة على الغيريّة. فثمة تحد حقيقي، ألا وهو أن تتحاور الكنائس الشرقية مع بعضها البعض ومع مختلف الكنائس، الأمر الذي لن يهدد هويّتها ولن يفقدها أصالتها، بل سيغنيها، لأن الآخر المختلف سوف يصبح جزءاً لا يتجزأ من هويّتها، كما انها ستغني الآخر بهويّتها الأصيلة العريقة.
   وهنا لابد لنا من الأشارة إلى تطبيق واستخدام منهج "الجدلية"، أي تبني واعتبار العنصر ونقيضه في آن واحد: (كما هو الحال في ناتج التفاعل الكيمياوي الحاصل ما بين عنصري الصوديوم والكلور لينشأ الملح)، فينشأ من تفاعلهما النقيضي ائتلاف هو بالفعل قطب ثالث ليس هو الأول ولا الثاني، بل عنصر جديد هو مزيج من الاثنين، وفي الوقت ذاته مختلف عنهما. ونلاحظ هنا بان الجدلية ليست منهجاً فقط، بل هي موقف حياتي ايضاً، بمعنى ان تفاعل عنصرين او شخصين او فئتين او طائفتين او مدرستين او حزبين . . . مختلفين يولد فيهما وضعاً جديداً، ويفضي بهما الى حقيقة جديدة، فلم يغدوا مثلما كانا في البداية، بل اصبح كل منهما مختلفا عما كان عليه.
   ختاماً، وبالرغم من التعددية ومظاهرها الأيجابية والسلبية التي يتسم بها الشرق العربي، حيث تتواجه باستمرار الهويّة والغيريّة. ولكن في هذه المواجهة هناك فرصة مزدوجة المعنى: فإما من أجل البنيان والنمو، وإما من أجل التنصل من المسؤولية والتلاشي. ومع هذا فكثيراً ما يتصوّر البعض من أن الهويّة ملازمة للماضي وللأصالة وللتقليد، وأما الغيريّة فهي عنصر دخيل يناهض الماضي والتقليد وينافي الأصالة. أن مثل هذه النظرة مخطئة ومتحجرة، لأن الهويّة حية ديناميّة تغتني من خلال الظروف الغيريّة. لاتنحصر إذاً الهويّة في الماضي والوراء، بل تتأقلم مع الحاضر، وتتطلع إلى الأمام والمستقبل. ولشبيبتنا أقول: "لكم الخيار في كل ما تختارونه".



نبيل جميل سليمان
الشيخان – بيبوزي