المحرر موضوع: هجروا شقلاوه وجبالها الى ارض اخرى  (زيارة 1696 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
هجروا شقلاوه وجبالها الى ارض اخرى

شمعون كوسا

لدى استيقاضي صباح الاحد الماضي سمعت عندليبا يغرد بصوت ساحر أعادني الى خمسة او ستة عقود الى الوراء ، فتذكرت عنادل شقلاوه التي كانت تختار مسرح غنائها على اشجار باسقة لتؤدي مقطوعات بلبلية اصيلة ، أيام كنّا نقف مشدوهين أمام كل شئ جميل وكل لحن عذب ، أيام كنا نكتشف الطبيعة يوميا باعجاب شديد . وفي نفس السياق الذي لم أشأ قطع خيط سريانه ، قادتني البلابل الى ربيع البساتين حينما كانت تغتسل الاشجار بعد كل زخة مطر ، وتبقى بعض نقاطه متشبثة باهداب الغصون والاوراق . واصبح تفكيري شريطا متواصلا ،  فمررت بصورة سريعة على مواسم شقلاوه الاربعة وتوقفت لدى كل موسم لاشبِعَ عيونَ خيالي من خصوصيات كل واحد منها ، فازدادت داخل نفسي قناعة لم تكن يوما موضع شكّ ، وهي أن الطبيعة قد اختارت شقلاوه بالذات نموذجا للترويج عن جمالها.
واستمرّ العندليب في تغريده وقادني الى جبالنا العالية التي كلما تطلعت اليها رأيت نفسي مُردّدا أو مصغيا الي بعض انغام فارسية قديمة تتلاءم  وطبيعة المنطقة ، انغاما ترفعني عاليا ، تجعلني اتسلق الهواء بسلم يتدرج صعودا ونزولا ، واحيانا يعلقني في الهواء منتظرا دون جدوى اصداء لا تعود  لان الجبال الصغيرة والتلال والآكام والتضاريض الاخرى وحتى الاشجار تكون قد امسكت بها لتفرغ موجاتِها داخل أسماعها.  وفي غمرة تفكيري هذا عدت الى الارض ، وتساءلت :

لماذا هجر أهل شقلاوه جنتهم ؟
لماذا هجر الناس بقعة يقصدها الناس من اقاصي الارض لجمالها الساحر؟
لماذ هجر الناس جبل سفين الذي حفر فيه العديد من نسّاك القرون الاولى والقديسين أديرتهم وقلاياتهم ؟
لماذا هجر الناس الدّواليَ وأعنابها والكرومَ وخمورها ؟
لماذا هجر الناس الوادي الاخضر وينابيعة وجداوله ؟
لماذ هجر الناس ظلال الاشجار في فصل الصيف ؟
لماذا هجر الناس آفاقاً جميلة لا تحدها المديات ؟
لماذا هجر الناس المناخ المعتدل والجوّ الجميل ؟
لماذا هجر الناس منظر الضباب على قمة الجبل ؟
لماذا هجر الناس رواقا مفتوحا يعرض لوحات بيضاء بتوقيع فنان بارع اسمه الثلج؟
لماذا هجر الناس أزيز الرياح في الشتاء ؟
لماذا هجر الناس الثمار ومذاقها الخاص ؟
لماذا هجر الناس ....

مهما أطلت في استفهامي وتساؤلاتي ، سوف لن ألقى جوابا ، لذا أجد نفسي مضطرا للقول بان اهل شقلاوه قد قايضوا جمال طبيعتهم بأرض قاحلة. لقد تركوا ارض اجدادهم الخصبة صوب بقعة لا تقدّم لهم سوى الاتربة والاحجار.
ماذا جرى لهؤلاء الناس ، هل فقدوا فعلا عشق الجمال الذي وضعه الله في نفس كل انسان من أجل بريق زائف رأوه في الاطيان وقطع الاراضي التي تدرّ عليهم بعض الاموال ؟  
لقد تركوا ما صنعه الله واتجهوا نحو ما صنعه البشر . لقد تركوا ما كان عنوان راحتهم نحو ما يزيد من همومهم . هل تغيّر الانسان الى حدّ فقد إحساسه بسحر الطبيعة ، هل اضحى الانسان ناقص شعور الى حد التخلي عن لوحة حيّة من أروع ما ابدعته ريشة فنان ، والهجرة الى الاراضي القاحلة والمقفرة .
لقد كنتم أشرافَ المنطقة وأسيادها ، كان لكم هيبتكم ومكانتكم الرفيعة ، فذهبتم واستجديتم في بقعة كانت تنظر اليكم باعجاب وتحسدكم على ما كنتم عليه وعلى ما وهبكم الله من طبيعة خلابة ، طبيعة لا يراها غيركم إلا في الاحلام .
كنتم جميعكم اصحاب أملاك وبساتين ، والبعض منكم استهان بها وباعها دون تفكير لعناصر لا تقدرها حق قدرها ، والبعض في صدد التفكير في بيع مساحات شاسعة منها بثمن بخس . لقد تركتم جنتكم  وذهبتم الى بلد هو اشبه الان بموقع لمشروع لا يجيد غير تكديس الرمل والاسمنت ،  موقع يمكن تشبيهه بمنطقة صناعية ، او بورشة تصليح تقصدها الدراجة والسيارة ة والشاحنة والحفارة والرافعة الشوكية ، فترى الدواليب مرمية هنا والمحركات ملقاة هناك . حارة متواضعة تحولت الى مدينة مصطنعة تستحم بالاتربة والرمال . لا تجد فيها زقاقا إلا وتملأه مواد البناء، واذا صادفت زقاقا خاليا في طريق الذهاب فانك ستلقاه عامرا بالرمل والحديد عند العودة.

كنتم ملوكا في مكانكم وذهبتم الى حيث يُشار إليكم بالبَنان في كل مجلس على أنكم أغراب ، وينعتكم الناس بالطارئين ويتهمونكم بانكم قد حرمتم أهل البلد من حقوقه. وهل كانت تنقصكم الاراضي لكى تذهبوا الى منطقة تعتبركم غزاة . لقد زالت الاسباب التي دعتكم في حينها الى  الخروج .  نعم ، مرّت شقلاوه بحوادث اضطرت بعض العوائل للابتعاد ، غير ان الخوف الذي كان قد استحوذ على عقول الناس آنذاك ، جعل الكثيرين منهم ينظرون الى بعضهم البعض ويشدّون الرحال ، وباعتقادي كان من بين هؤلاء من لحقوا بالركب دون قناعة تامة . والحقّ يقال كان يحتاج الناس الى القليل من الشجاعة للمقاومة والبقاء ، كما فعلت البقية الصامدة التي قاومت ولم تتزعزع . وباعتقادي هذه كانت مشكلة شقلاوه  منذ البدء ، لقد اعتاد الناس على العيش بالخوف ، وغلبتهم هذه الصفة فاقتنعوا بها واصبحوا عرضة للابتزاز والاستغلال .

إذا كان يتذرع المهاجرون بلقمة عيشٍ لم توفرها مدينتهم ، لماذا لا يبادر من امتلأت جيوبهم  الان ، وهم كثيرون ، باقامة مشاريع في بلدهم ، وبهذا يستثمرون اموالهم جانين منها مزيدا من الارباح لنفسهم ، ومساهمين في الوقت ذاته في ايجاد فرص عمل لاهاليهم هناك . لقد سمعنا بان امكانيات البعض منهم تسمح باقامة عدة مشاريع وليس مشروعا واحدا، لا سيما وان المنطقة تهنأ بسلام وقد زالت عنها اسباب الخوف .
من المؤسف ان يكون قد أهمل المسؤولون الاداريون والرؤساء الدينيون هذا الموضوع. باعتقادي كان على هؤلاء التفكير بخطورة هذا الوضع على المدى المتوسط والبعيد وايجاد طرق لتحفيز الناس على العودة ، ومنح تسهيلات لمن يرغب في اعمار المنطقة وخلق فرص عمل لها .
وكم يحلو لي دوما الرجوع الى الايام الخوالي ، أيام الصيف في زمن الخير القديم حيث كان المصطافون لكثافة اعدادهم يفترشون الارض في كل مكان وحتى على الارصفة ، ينهضون الصباح بفرح وابتسامة ويشكرون الله على نومهم المريح في مناخ لطيف وطبيعة خلابة.
كثير من المعجبين بشقلاوه  من البلدان العربية كان يحلو لهم مقارنتها بلبنان . وهناك فنّان معروف يحلو لي ان انقل اقواله بهذا الخصوص ، فنّان لا يمتّ بصلةِ قرابة الى شقلاوه ولكنه كان امضى فيها بعض الوقت ، فنّان ألّف معزوفة موسيقية عن شقلاوه وقدّمها  في بلد خليجي ، وقال بالحرف الواحد قبل بدء الحفلة بانه اطلق على معزوفته إسم شقلاوه لانه يرى بان (شقلاوه قطعة من الجنة) . واتذكر ايضا اقوال مدير شركة فرنسي نفّذ العديد من مشاريع الري في العراق ، كان شخصا مغرما بشقلاوه ويقول عنها بانها تشبه مقاطعة (هوت سافوا Haute Savoie) في فرنسا ، وهي مقاطقة تقع على سفح جبال الالب .

انا اعرف بان دعوتي ودعائي سوف لن يغيران شيئا في واقع أناس قد غلبهم حب المال وركبهم الجشع . لقد اعتاد هؤلاء على الغبار والتلوث والصخب والشمس المحرقة . لقد انساهم المال بقعة تهنأ بصفاء الجو والهدوء والخضار وراحة البال. لقد آن الاوان أن يفكر العقلاء منهم بالعودة الى جنة لم يحرمهم الله منها لحد الان بالرغم من عصيانهم ، لاني أبصرُ من بعيد أغرابا يتربصون بها وقد بدأوا من الان بوضع موطئ قدم لهم فيها.
 
اني ارى بعض القراء قد عيل صبرهم وهم لا ينتظرون إلاّ السطر الاخير من المقال لمفاجأتي بالسؤال التالي : أنت الذي تقوم بالانتقاد واللوم واعطاء الدروس ، لماذا تركت مدينتك ؟  جوابي هو بان ذلك تم بظروف خاصة ، لقد وصلت بسهولة الى بلد جميل ، غير ان حنيني  الى شقلاوه لم يتوقف يوما . شقلاوه قد كتبتُ عنها ، شقلاوه قد تغنّيت بها وتناولت وصف العديد رجالاتها ، وكلي امل بالعثور على كوخ صغير هناك يتيح لي العودة لانهاء ما تبقى لي من المسار الذي رسمته لي الحياة  .  ففي شقلاوه ابصرت النور واحببتها  وهي ستكون شاهدة على حجب هذا النور عندما تدق ساعة إسدال الستار .