المحرر موضوع: ثورة 14 تموز 1958 المجيدة والاقتصاد الاسلامي  (زيارة 816 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سلام ابراهيم كبة

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 286
    • مشاهدة الملف الشخصي

ثورة 14 تموز 1958 المجيدة والاقتصاد الاسلامي

                                                                                                                                 سلام ابراهيم كبة

•   المقدمة
•   لقاء وزير الاقتصاد  في حكومة قاسم
•   السياسة الاقتصادية وثورة 14 تموز 1958!
•   الوعي الديني والفكر الرجعي في العراق
•   الاقتصاد الاسلامي/الشكل والمضمون
•   اسلمة النظم الاقتصادية
•   اقتصاد النخب الدينية الاسلامية الحاكمة في العراق

•   المقدمة

 
 عام 1961،وعلى هامش زيارة له الى مدينة كربلاء لتفقد بعض المشاريع الاقتصادية،التقى الدكتور ابراهيم كبة وزير الاقتصاد في حكومة الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم المرجع الديني المعروف محمد الحسيني الشيرازي،ودار بينهما حديث مقتضب حول الاقتصاد الاسلامي،قام الشيرازي بذكر فحوى اللقاء وما دار فيه في الفصل الثاني عن العهد الجمهوري الاول من كتابه الموسوم"تلك الايام / صفحات من تاريخ العراق السياسي/مؤسسة الوعي الاسلامي / بيروت / 2000".وابراهيم كبة علم بارز من اعلام الفكر في العراق والوطن العربي،ومناضل صلب من اجل الحرية والتقدم،وشخصية اكاديمية ديمقراطية عرفته جامعتا بغداد والمستنصرية  بحضوره المؤثر منذ اواسط خمسينات القرن المنصرم،وتخرج من مدرسته المئات من حملة افكار الاشتراكية العلمية،كما امتلك مراسلاته الاكاديمية النقدية مع اساتذة الادب الاقتصادي الاكاديمي العالمي!تولى في آن واحد حقيبتي وزارة التجارة(الاقتصاد لاحقا)ووزارة الاصلاح الزراعي،ووزارة النفط وكالة في اول حكومة بعد ثورة 14 تموز 1958،وله عشرات المؤلفات الى جانب البحوث والدراسات في المجلات والصحف العراقية والعالمية.وحول الاستاذ ابراهيم كبة محاكمته بعد انقلاب رمضان الاسود الى محاكمة للبعث والقومجية والرجعية وبرامجها الاقتصادية الانتقائية النفعية،ودافع عن نفسه بنفسه في مرافعة كانت دراسة عن الاقتصاد العراقي في فترة ما بعد ثورة 14 تموز نشرها فيما بعد في كتابه"هذا هو طريق 14 تموز" عام 1967.
   حارب البعث الفاشي ابراهيم كبة وأحاله على التقاعد عام 1977 وبذل الجهد لتقزيمه،الا انه ظل وفيا لمبادئه في الفكر المادي الاصيل والاشتراكي العلمي والماركسي والديمقراطي،وبقي في شيخوخته محاصرا وحبيس الضغوطات الدكتاتورية وفي شبه اقامة جبرية،حتى رحيله  في 26 /10 /2004!وكانت آخر اصداراته "الرأسمالية نظاما – 1973 لمؤلفه اوليفر كوكس"و"مشاكل الجدل في الرأسمال لماركس – 1979  لمؤلفه روزنتال"...كما كتب مقالة في مجلة الاقتصاد عام 1973 معنونة"ضوء جديد على مشكلة العلاقة بين الدين ونشوء الرأسمالية"،وفيها جميعا اكد على دور العوامل المادية والفكرية التي ساعدت في تطور النظام الرأسمالي،واهمية الربط الوثيق بين الاقتصاد الرأسمالي ومختلف عناصر التربة الاجتماعية"الرحم الاجتماعي"التي ولد وترعرع فيها النظام...وعلى دور الدين والمذاهب الدينية الاصلاحية في تطور النظام الرأسمالي مع النقد اللاذع للتفسيرات الدينية المتعددة لنشأة الرأسمالية.واكد ايضا على ان الجدل المادي باعتباره علم القوانين الاكثر عمومية لتطور الطبيعة والمجتمع هو في نفس الوقت منطق اي نظرية لمعرفة قوانين الفكر،في الوقت الذي نجح فيه كارل ماركس في الرأسمال بتطبيق الجدل على المعرفة وحل اعقد معضلات نظرية المعرفة التي بقيت حجر عثرة امام جميع المفكرين السابقين،من قبيل العلاقة بين الجوهر والظاهرة،بين التاريخي والمنطقي،بين التحليل والتركيب،بين الاستقراء والاستنتاج،بين المجرد والمحدد ... الخ. 
   من جهته،تولى محمد الحسيني الشيرازي"خاله الامام محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق"المرجعية في مدينة كربلاء عام 1961،غير انه اضطر لمغادرة العراق عقب تعرض اتباعه لحملات الملاحقة والقتل على ايدي سلطات حزب البعث وتهديده بالقتل،وحكمت عليه الدكتاتورية البائدة بالاعدام غيابيا في وقت لاحق"نشرت جريدة الثورة البغدادية نص الحكم"وعطلت جميع مؤسساته،وصودر بيته ومنزله.ومن العراق انتقل الشيرازي الى الكويت حيث اسس الحوزة الشيرازية،وتوجه الشيرازي بعد الثورة الايرانية الى مدينة قم حيث توجد اهم حوزة دينية للشيعة في ايران،وسرعان ما تحولت حوزته الى ملتقى لكبار المدرسين واساتذة الحوزة ممن تتلمذوا على يديه علوم الفقه والفلسفة والعلوم الدينية فضلا عن الاقتصاد والسياسة.
   ورغم مواقف الشيرازي المعارضة لسياسات النظام الثوري في ايران واحتجاجه المستمر ضد حملة الاعدامات والاعتقالات،ورفضه لمحاكم الثورة ومحكمة رجال الدين،غير ان النظام لم يجرؤ على الاساءة اليه او لاتباعه في عهد الخميني،وبدأت معاناته بعد رحيل الخميني،حينما اعلن عدم شرعية ولاية الفقيه المطلقة،ودعا الى تشكيل شورى الفقهاء.ولم يستطع الشيرازي مغادرة بيته اكثر من 15 عاما،عاش اكثرها تحت الاقامة الجبرية منقطعاً عن اتباعه ومقلديه،كما تعرض اتباعه وابناؤه واقاربه لمضايقات شديدة اواسط التسعينات حيث تم اعتقال العشرات منهم،وكان نجله مرتضى الشيرازي قد تعرض في السجن لتعذيب شديد حيث تم احراقه بصب النفط عليه بأمر وزير الاستخبارات الاسبق علي فلاحيان،ولا يزال يحمل مرتضى الشيرازي،الذي يقيم في الكويت،آثار التعذيب على جسده.وعُرف محمد الحسيني الشيرازي بألقاب عديدة منها الامام الشيرازي والمجدد الشيرازي الثاني،وآية الله الشيرازي،وكذلك عُرف بلقب سلطان المؤلفين،حيث ان مؤلفاته تجاوزت الالف.وقد بدأ بتأليف موسوعة الفقه،وهو في الخامسة والعشرين،ووصل تصنيفها الى حوالي 165 مجلد.توفي الشيرازي في قم عن 75 عاما في 17 كانون الاول 2001.
  حرصت ان انقل للقراء نص الحوار الذي جرى بين الدكتور ابراهيم كبة والسيد محمد الحسيني الشيرازي عام 1961،مثلما مدون في كتاب الشيرازي"تلك الايام / صفحات من تاريخ العراق السياسي"،واترك للقراء والباحثين التقييم.كان حوار بين شخصيتين،علمانية ودينية...عسى ان يستفيد منها رجل الدين السيد كاظم الحسيني الحائري الفقيه السابق ل"حزب الدعوة الاسلامية"والذي افتى مؤخرا"يحرم التصويت في اي مرفق من مرافق الحكم العراقي الى جانب انسان علماني"!ويعد الحائري الذي يتخذ منذ 1974 من مدينه قم في ايران مقرا له من بين المراجع الشيعة البارزين!وقُتل ولده جواد دفاعاً عن ايران الاسلامية في حربها مع العراق!ويبدو ان الحائري يبعث برسالة الى الشعب العراقي ليؤكد فيها ما ذهب اليه الباحثون من ان النظام الايراني ومنظمة القاعدة الارهابية في وفاق وتنسيق دائمين،بعد ان عين نفسه وكيل الله وولي امر العراق!وهو العالم قبل غيره ان الدين والحقد والبغضاء والكراهية لا تلتقي مطلقا!
   وموقف الحائرى تجاه العلمانية ليس جديدا في التاريخ السياسي الحديث،وسبقه البابا الذي عبر عن تخوفه من العلمنة في اوربا وبولونيا"انظر:مجلة ناشينال كاثوليك ريبورتر/عدد 13 نيسان 1990/الولايات المتحدة"..ومن قبله حكمت روما والكنيسة الكاثوليكية على حقوق الانسان لأنها غير مسيحية الى ان حدث التحول مع يوحنا الثالث والعشرين والمجمع الفاتيكاني الثاني في النصف الثاني من القرن العشرين،والفاتيكان آخر مملكة اوربية مطلقة لم توافق على اعلان حقوق الانسان في المجلس الاوربي.هكذا خسرت وتخسر المؤسسة الدينية كثيرا من مصداقيتها في اطار نموذج العصر الحديث والثورة المعلوماتية!
  العلمانية مبادئ لتنظيم المجتمع يأتي في مقدمتها احلال مفهوم المواطن محل مفهوم الرعية،واعتبار ان الشعب هو مصدر السلطات،ولابد من ضمان حرية التفكير والبحث.وتدعو العلمانية الى فصل الدين عن الدولة،لأن السلطة شأن بشري والبشر احرار في التشريع لأنفسهم،لكنها لا تنفي الدين كتفكير حر مستقل.      
 
•   لقاء وزير الاقتصاد  في حكومة قاسم
"....
   وكان لنا لقاء مع وزير الاقتصاد فـي حكومة عبد الكريم قاسم(1)،وقد تمّ فـي مقبرة(2)والدي في الحرم الحسيني (عليه السلام)،حيـث كـان مكان تدريسي ولقـاءاتي،وقـد حضـر هـذا اللقـاء لفيـف من الأصدقاء،وقد دونت مقتطفات مـن هـذا الحوار في منشور،قد وزّع في حينه على المعنيين(3).
   وقـد ناقشت الوزيـر حـول موضـوع الاقتصاد الإسلامي،وقلت له:لمـاذا لا تقدمـون على تطبيق الاقتصاد الإسلامي؟ 
   فقال:لي وقد بدت عليـه آثار التعـجب،ما هو الاقتصاد الإسلامي؟
   قلت:الاقتصاد الإسلامي:اقتصـاد مستقل ليس اقتصاداً شيوعياً ولا اقتصاداً رأسمالياً ولا اقتصاداً اشتراكياً،بل لـه خصائص وميـزات معينة تفرزه عـن المذاهب الاقتصادية الأخـرى،وقـد كتب فقهاؤنا معالم هذا الاقتصاد في كتبهم.
   قاطعني وفي حالة استغراب: مثلاً !
  قلت:يقول الله سبحانه في محكم كتابه:( فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)(4)،ثم أردفت قائلاً:انظر إلى احدى كتبنا الفقهية،فقد ضم هذا الكتاب أكثر من خمسين موضوعاً اقتصادياً.
   ازداد تعجبه وقال في حالة دهشة!خمسين موضوعاً؟
   قلت:نعـم،كتاب(جواهـر الكلام)(5)يتضمن موضوعـات عـن البيع والرهـن والإجارة والإعارة والمساقات والمزارعة والمضاربة و...
  وطفقت أعدد له عنـاوين المعامـلات فـي الفقه الإسلامي،فازداد انبهاره.
  ثم افصح عن انبهاره هـذا بقوله:لم اسمع من قبل بكل الذي قلته.
  اجبته:أمـر طبيعـي،إنـك لا تعرف شيئاً عن الاقتصاد الإسلامـي،لأنك لم تـدرس شيئاً عن هذا الاقتصاد في المدارس بكافة مراحلها،وعندما دخلت إلى كلية الاقتصاد درستَ كل شئ إلا الاقتصاد الإسلامي.
  وإنك لو تصفّحت المنهج الدراسي فانك لا تجد شيئاً عن الإسلام بكافة حقوله،ولو وجدت شيئاً فهو صور ولقطات مشوّهة عـن التاريخ الإسلامي،عن الحروب والصراعات،وعن بطش الخلفاء وبطرهم،ومـا أشبه ذلك،وهـي أمـور ليس فيها أيـة فائدة لمن يريد التعرف علـى حقيقة الإسلام،بل هـي تسبب عنده الاشمئزاز والنفور.
   أما الأمـور المفيـدة للمجتمع وبالأخـص الأمور الحياتية،فلا تجد في هذه الكتب شيئاً عنها.
   لذا أرى من الضروري إضافة الاقتصاد الإسلامي إلى المناهج الدراسية وعلى الخصوص كلية الاقتصاد ليُدرَّس إلى جانب الألوان الأخرى من الأنظمة الاقتصادية،وشيئاً فشيئاً يتم تطبيق هذه القوانين،حـتى يتم إزالة الفقر والفاقة من المجتمع،فعند تطبيق الاقتصاد الإسلامي سوف لن تجد فقيراً ولن تجد شخصاً بدون مسكنٍ،وما أشبه ذلك.
   وضربت له مثالاً ببلد أوربي وهو النَـرويج،وقلت له:في هذا البلد الأوربي ينعدم الفقراء،بينما تجد الفقراء والمساكين والمتكففين فـي بلادنا أينما ذهبت وبالمئات،ناهيك عن الفقـراء الآخـرين الذين لا يسألون الناس إلحافاً.
  ثم ذكرت له قصة من التاريخ الإسلامي عـن مدينة( نيشابور)(6)وكانت سابقاً مدينة علمية كبيرة وذات شأن كبـير في العالم الاسلامي وفيها كثـافة سكانية عالية،كما يظهر من رواية ورود الإمام الرضا(عليه السّلام)والتفاف أربعة وعشرين ألف عالم وصاحب قلم وتأليف حـوله ليكتبوا ويدونـوا الأحاديث التي يمليها عليهم،فأية مدينة كبيرة تلك التي يتواجـد فيها أربعة وعشرون ألف عالم في ذلك الزمان؟
   دخل رجل فقير إلى هذه المدينة ولما كان فقيراً وجائعاً مدَّ يده إلى الناس طالباً منهم المساعدة، فلم يعطـه أحدٌ شيئاً،وقالوا له:ليس في بلدنا فقير ومحتاج،وإن أهل البلد لا يعطونك،لأنّ عطاءهم سيشجـعك على الفقر والفاقة.
   فقال لهم:إني جائع،فدلوه على مكان يستطيع فيه أن يسدّ رمقه.
  ثم قال لهم:أريد مكاناً للنوم.
   فقالوا له:المكـان الـذي تطلبه مخـصص للعجزة والمعوقين،أما أنت فإن كنت منهم،فانهم سيعطونك مكاناً فـي تلك الدار ويمنحونك ما تحتاج إليه من طعام وكساء،أما إذا كنت قادراً على العمل،فانهم سيمنحونك فرصة الاشتغال والعمل.
   ثم قالوا له:ليس فـي مدينتنا من يتكفف طالما كان كل شئ مهيئاً له.
   وهو علـى ما يبدو حـال بقيـة البلاد الإسلامية لايختلف عن حال هذه المدينة.
   إن التاريـخ يحدثنا أنه من كان يأتي إلى رسول الله(صلّـى الله عليه وآله وسلّم) كان يسأله سؤالين،ولا أعلم هل سؤال الرسـول(صلّى الله عليه وآله وسلم) علـى نحو الإحصاء أو التقريب؟
  السؤال الأول:هـل أنت متـزوج؟ فإذا لم يكن متزوجاً كان يحثَّه على الزواج،وفـي كثير من الأحيان يقوم بتزويجه.
   وقد ذكر صاحب المستدرك الرواية التالية: عن عكّاف بن وداعة الهلالي قال: أتيتُ إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)،فقال لي:يا عكّاف ألك زوجة؟
  قلت: لا يا رسول الله.
  قال: ألك جارية؟
  فقلت: لا.
  قال: وأنت صحيح موسر؟
  قلت: نعم.
   قال:إذاً أنت من إخـوان الشياطين،إما أن تكون من رهبان النصارى وإما أن تصنع كما يصنع المسلمون،وإن مـن سنّتنا النـكاح،شراركم عزّابكم،وأراذل موتاكم عزّابكم ـ إلـى أن قال ـ ويحك يا عكّاف،تزوج تزوج فإنك من الخاطئين.
   قلت:يا رسول الله زوجني قبل أن أقوم.
   فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):زوّجتـك كريمة بنت كلثوم الحميري(7). 
  أما السؤال الثاني الذي كان يسأله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):ما هـو عملك؟ فإذا عرف أنه لا عمل له، قال له: سقط من عيني.
  عن ابن عباس:أنه كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):إذا نظر إلى الرجل فأعجبه، قال لهم هل له حرفة،فإن قالـوا لا: قال سقـط من عيني، قيل وكيف ذاك يا رسول الله،قال:لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه(8).
  وكان (صلى الله عليه وآله وسلـم) يستخـدم شتى وسائل التحريـض والتشجيع لدفع الشباب إلـى العمل والمتاجرة.
  وكان يقول لمن يأتـي إليه يسأله المال: (من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله)(9)،وهذا كناية عن أن الأفضل للمسلم هـو العمل والمثابـرة وليس التكفّف والاستجداء.
   وكما كان يكـرر عبارة:(اليد العليا خير من اليد السفلى)(10)،حيث أن اليد التي تعطي دائماً هي يد عليا، بينما اليد التي تأخذ دائماً يد ذليلة وسفلى.
   من هذا المنطق اهتم الإسلام بالاقتصاد ووضع حلولاً لمشاكل البشر الاقتصادية.
   ثم خاطبـت الوزير:وأنتم من مصلحتكم إن أردتم البقاء،ومـن مصلحة البـلاد أن تفكـروا بتقدمها،وأن تطبّقوا بنود الاقتصاد الإسلامي واحداً تلو الآخر(11).
   قال الوزير بعد أن أصغى لكلامي : الإسلام غير قابل للتطبيق.
   قلت له:هذه العبارة يكررها الذين يجهلون حقيقية الإسلام في كل زمان ومكان. ثم أضفت: أي جزء من الإسلام غير قابل للتطبيق؟
   هل وجدت شيئاً من الإسلام غير قابل للتطبيق؟
   كلامك أيها الوزير يخالف مقولة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم):(حلال محمـد حلال إلـى يوم القيامة وحرامه حرام إلـى يـوم القيامة)(12)،ليس في الإسلام بندٌ واحدٌ غير قابل للتطبيق.
   صحيح أن هناك حالات نعمل فيها بقانون(لا ضرر ولا ضرار)أو قانون(الأهم والمهم)،وهـذا لا يعني خروجاً عن الإسلام بل يعـني الدخول من الإسلام إلى الإسلام،لان هذه القوانين من واقع وصلب الإسلام.
   سمع الوزير كلامـي وقال: إنشاء الله سأخبر الزعيم عبد الكريم قاسم بهـذا الموضوع ثم قام وودعنا متوجها إلى بغداد.   


1 ـ الظاهر أنه الدكتور إبراهيم كبة الذي يعتبره الشيوعيون ممثلهم في وزارة قاسم، وكانت الصحافة الشيوعية تشير إليه على أنه ممثل القوى الشعبية، وظلّ فـي الوزارة حـتى عام 1380هـ (1961م) ثم أُحيل على التقاعد.
2 ـ وهي عبارة عن صالة كبيرة تقع في روضة الإمام الحسين(عليه السلام) وكان الإمام المؤلف يتخذها محلاً للتدريس والمباحثة ومركزاً للقاءاته والبت في القضايا الحقوقية والاجتماعية وقضاء حوائج الناس، علماً إن والديّ الإمام المؤلف قد دفنا في تلك الصالة.
3 ـ ولعـل من الاخوة والأصدقاء من لا يزال يحتفظ بهـذا المنشور حتى الآن.
4 ـ سورة البقرة: الآية 279.
5 ـ ويحتوي على 43 جزء لآية الله العظمى الشيخ محمد حسن باقر عبد الرحيم الجواهري، ويعتبر هذا الكتاب من مفاخر الكتب الشيعية، ولهُ مؤلفات أخرى رسالة في المواريث، هداية الناسكين في مناسك الحج. توفى سنة 1266هـ‍.
6 ـ تقع شمال شرق إيران.
7 ـ مستدرك الوسائل: ج14 ص155 ب2 رقم الرواية 16359، ورواها باختصار القطب الراوندي في(لب الألباب) عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مثله.
8 ـ مستدرك الوسائل: ج13 ص11 ب2 رقم الرواية 14581. 
9 ـ الكافي(أصول): ج2 ص318 ح2.
10 ـ الكافي(فروع): ج4 ص11 ح4.
11 ـ أشار الإمام المؤلف إلى هذه البنود في طيّات كتبه الاقتصادية : الفقه الاقتصاد، الاقتصاد بين المشاكل والحلول، الاقتصاد الإسلامي المقارن.
12 ـ بصائر الدرجات: ص148 الباب الثالث عشر: باب آخـر فيه أمر الكتب ح7 عن أبي عبد الله(عليه السلام).
....."
•   السياسة الاقتصادية وثورة 14 تموز 1958!
 
  عبرت ثورة 14 تموز 1958 المجيدة عن السفر العظيم والجبار لشعبنا في تثبيت استقلاله السياسي والاقتصادي وما قدمه من تضحيات وشهداء لبناء مجتمع قائم على الرخاء والرفاهية والعدل الاجتماعي والنهوض السليم المعافى للبناء المؤسساتي المدني!وبعد البيان الاول الصادر في 14 تموز 1958،والذي عكس الطبيعة الوطنية والديمقراطية للثورة"ان الحكم يجب أن يعهد الى حكومة تنبثق من الشعب وتعمل بوحي منه،وهذا لا يتم الا بتأليف جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة"،توالت التشريعات التقدمية"الدستور المؤقت 1958،"بيان النفط"والحرص على استمرار جريان النفط والشروع بالمفاوضات مع شركات النفط وتشريع قانون رقم (80) لسنة 1961 والذي حدد مناطق الاستثمار لشركات النفط الاحتكارية،قانون الاصلاح الزراعي لتصفية الاقطاع رقم (30) لسنة 1958 والغاء قانون المنازعات العشائرية،قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959،بيان لجنة التموين العليا رقم 1 لسنة 1959 الذي حدد منهاج الاستيراد الجديد ومنع استيراد المواد الكمالية والترفية الاستهلاكية والمواد المنتجة المحلية وتشجيع استيراد المنتجات والمكائن والمعدات الضرورية للتصنيع او للاستهلاك الشعبي..
   كما حررت العملة العراقية من الكتلة الأسترلينية،وتم بناء مئات الأحياء السكنية وجرى توزيعها على الفقراء من أبناء شعبنا في كل محافظات العراق(ومدينة الثورة هي معلم وشاهد على هذا الأنجاز الكبير لثورة 14 تموزالخالدة)،وتهيأت الظروف لأجازة احزاب سياسية ومنظمات اجتماعية ومهنية تمارس النشاط العلني مثل نقابات العمال والاتحادات الفلاحية ورابطة المرأة العراقية وبقية التنظيمات النسائية واتحاد الطلبة العام واتحاد الشبيبة الديمقراطي ونقابات مهنية للمعلمين والمهندسين والحقوقيين والاطباء ..الخ.وقد تطورت وازدهرت الصناعة الوطنية اثر الاتفاقية الاقتصادية العراقية السوفييتية،والاتفاقيات الاقتصادية والتجارية والثقافية الاخرى مع بلدان اوربا الشرقية والصين الشعبية!
  استرشدت وزارة الاقتصاد بعد ثورة 14 تموز المجيدة بعدد من المبادئ التي كانت نقيض السمات التي ميزت الاقتصاد العراقي في العهد الملكي المباد،وهي:التوجيه الاقتصادي والقضاء على التسيب،تحرير الاقتصاد من التبعية الاستعمارية،محاربة الاحتكار وتقوية الفئات الوسطى وتعميم منافع القطاع الخاص الموجه،جذب الرأسمال الوطني والعربي نحو الصناعة،القضاء على الطفيلية في الاقتصاد وعلى الوساطة غير الانتاجية بتعميم التعاون التسويقي الحكومي،محاربة الندرة الاقتصادية بالعمل على زيادة الانتاج والانتاجية،محاربة التحيز في العلاقات التجارية في الداخل والخارج،التكافل الاقتصادي عربيا،تقوية القطاع العام في جميع الحقول الاقتصادية(انشاء الهيئة العامة لشؤون النفط،القطاع الصناعي العام عن طريق مشاريع الاتفاقية السوفييتية،انشاء مصلحة المبايعات الحكومية ومؤسسة التصدير الخارجي للتمور وتعاونيات التمور ومصلحة المعارض الحكومية وشعبة الاقطان ومكتب تصدير الاسمنت وتقوية شركة النقل البحري ...على طريق انشاء نواتات للقطاع التجاري العام،انشاء المزارع الحكومية الكبرى ومحطات تأجير المكائن والآلات الزراعية كنواة للقطاع الزراعي العام ومنع تجاوز القطاع المجنب الخاص على القطاع التعاوني،انشاء منظمة الانشاء الحكومية كنواة للقطاع العام فب البناء والانشاءات..)،انشاء اجهزة التخطيط الجديدة .. الخ.   
   في السياسة النفطية،جرى انشاء ادارة وطنية لمصلحة المصافي الحكومية وطرد الخبراء الاجانب من مصفى الدورة بعد تعريقه بالكامل،ثم انشاء الهيئة العامة لشؤون النفط واعدادها للسيطرة التامة على قطاعات الانتاج والتصفية والتوزيع والتصنيع والتصدير على السواء،تصفية شركة نفط خانقين خلال عام واحد دون ضجة دعائية،استرجاع المياه الاقليمية واخراجها من امتياز شركة نفط البصرة،انشاء جهاز لتوزيع الغاز السائل على المواطنين،تخفيض اسعار المشتقات النفطية وخاصة البنزين منذ الايام الاولى للثورة. كما وضعت حكومة ثورة 14 تموز اسس التخطيط الصناعي العلمي وانشأت وزارة ومجلس التخطيط واصدرت قانون السلطة التنفيذية واجرت اصلاحات هامة في معمل النسيج الحكومي والمباشرة بتشغيل معمل السكر الحكومي.
   قامت حكومة 14 تموز المجيدة باعادة تنظيم اجهزة مديرية الصناعة العامة واستحدثت فيها شعب للبحوث الاقتصادية وللتنمية الصناعية،كما وضعت عشرات الدراسات الفنية الصناعية تحت تصرف القطاع الخاص كصناعات عرق السوس والتعليب وخميرة الخبز والطباشير الملون والحبال من سعف النخيل والانابيب لمشروع المياه القذرة،وعشرات الدراسات الاقتصادية ايضا كدراسة المواد الاولية لمعامل السباكة وكفاءة معمل الجوت ومعامل السكائر ومشروع الاحذية الشعبية ودراسة استثمار النفايات في مصافي النفط،وعشرات التحاليل الفنية للمواد الخام الصناعية كالاسمنت والاتربة والاخشاب والفحم والاملاح والدهون والصابون والجلود ومعجون الشبابيك واللباد المانع للرطوبة والقصب والرخام والورق والكحول..الخ.وباشرت الحكومة العراقية باجراء مسح صناعي عام للمشاريع الكبرى والمتوسطة وفق اسس اقتصادية وفنية سليمة،واجرت دراسات موضعية كاملة للمشاريع المطلوب حمايتها بالاعفاء"الحماية الصناعية اقتصاديا وتكنيكيا".آنذاك،جرى اعتماد اشراف الدولة على توجيه القطاع الصناعي الخاص ومنع النمو الاحتكاري فيه والحيلولة دون تغلغل الرأسمال الاجنبي المقنع بأقنعة وطنية وتشديد شروط الحماية للمشاريع المختلطة"اشتراط حد ادنى من رأسمالها العراقي لا يقل عن 60% وحد ادنى من نسبة الكلفة لا تقل عن 25%".وجرت عملية تنويع اساليب الحماية الصناعية بانسيابية عالية"التوسع في مدى وآجال ومواد الاعفاءات الصناعية عبر قانون تشجيع المشاريع الصناعية،تشجيع استهلاك المنتجات الوطنية،وضع القطاع التجاري في خدمة القطاع الصناعي،الاهتمام بالجانب الدعائي في الحماية الصناعية،الحيلولة دون نمو الاحتكارية في التسويق الداخلي".
    ومن منجزات ثورة 14 تموز تأسيس وكالة حكومية لشراء المعامل الصناعية الصغيرة من بعض البلدان المشهورة بانتاجها على اسس الدفع المؤجل والمقايضة بالصادرات العراقية،وتأسيس شركة كبرى مختلطة لابتياع المعامل المذكورة من الوكالة الحكومية بشروط مريحة وبضمانات المصرف الصناعي وبتوفير حد ادنى من الارباح..الا ان المعارضة الشديدة التي جوبه بها هذا المشروع التخطيطي الهام من اصحاب المصالح حال دون اتمامه بالكامل لينتهي الى مشروع شركة الصناعات الخفيفة.
   كان عقد الاتفاقية الاقتصادية العراقية السوفييتية عام 1959 واحدة من التهم التي وجهها الادعاء العام راغب الفخري الى الدكتور ابراهيم كبة اثناء محاكمته عام 1963.ورد الدكتور كبة ان مشاريع الاتفاقية وضعت على اساس تركيب نموذجي لاقتصاد وطني متحرر سليم استنادا على:القيام بالمسح الصناعي والنفطي الجيولوجي والمغناطيسي والسيميكي العام،التركيز على الصناعة في المشاريع بحيث احتلت 80% من مجموع قيمة مشاريع الاتفاقية،التركيز في القطاع الصناعي العام على الصناعات الثقيلة كمعامل الفولاذ والاسمدة الكيمياوية والكبريت وحامض الكبريتيك واللوازم والعدد الكهربائية،وعلى الصناعات الزراعية كمعامل المكائن والمعدات الزراعية والاسمدة النيتروجينية ومحطات الجرارات الزراعية ومعامل النسيج والتعليب،وعلى الصناعات التحويلية كمعامل النسيج القطني والصوفي والتريكو والخياطة والزجاج والمصابيح الكهربائية والتعليب والادوية.وفي حقيقة الامر،لم تكن طريقة الحساب بالروبل آنذاك المشكلة،ولم تكن التكنولوجيا السوفياتية المتدنية هي الآخرى المشكلة!انما كانت المشكلة هي ظهور قوة متحدية للامبريالية مدت يدها الى الشعوب المسحوقة لنيل الاستقلال السياسي والاقتصادي،ومن اراد نيل الحرية عرف كيفية الاستفادة من هذه الفرصة التأريخية،وقد احسنت ثورة 14 تموز المجيدة ووزير الاقتصاد آنذاك الدكتور ابراهيم كبة فهمها وحاول الامساك بها،ومن اراد ان يبقى ذليلاً تفنن في كيفية بتر هذه اليد التي امتدت لمساعدته.
   بالتكنولوجيا السوفياتية تسنى للصين بناء صناعاتها،ولمصر بناء السد العالي.وبالتكنولوجيا الحربية السوفياتية هزمت الفيتنام الولايات المتحدة ونالت سيادتها الوطنية.ويكفي النظر الى التدهور الذي وصلت اليه مصر لنفهم الى اين تقود الآيديولوجية المتعفنة التي يتبجح بها الاغبياء المنتقدون لابراهيم كبة المهندس الاقتصادي لثورة 14 تموز.فهؤلاء يجهلون حقيقة تحريم الغرب آنذاك لعمليات نقل التكنولوجيا في مجال الصناعات الاستراتيجية كالحديد والصلب والصناعات الميكانيكية والكهربائية الى البلدان النامية!فعملية نقل التكنولوجيا كانت هي جوهر المعاهدة السوفياتية التي يحاولون الانتقاص منها،ويحاولون تصويرها كأنها عملية نهب.وكان القصد من عرقلة عملية نقل التكنولوجيا في الصناعات الاستراتيجية هو عرقلة عملية التنمية الاقتصادية،ولنفس الاسباب رفض البنك الدولي تمويل مشروع السد العالي.
   الصراع كان يدور حول عملية نقل التكنولوجيا.وكان على الاغبياء مراجعة الاضابير الخاصة بمشروع الحديد والصلب في وزارة التخطيط للوقوف على اساليب العملاء التي اتبعت من اجل عرقلة اقامته.ومن اجل فهم دور الاتحاد السوفياتي في عملية نقل التكنولوجيا من الضروري مراجعة كيفية تطويره للقدرات العراقية على استخراج النفط مما تسنى للعراق التحرر من قبضة الاحتكارات النفطية.وكلفة المشاريع المتضمنة في المعاهدة الاقتصادية العراقية السوفييتية عام 1959 لم تكن المشكلة،فمجموع تكاليف جميع مشاريع المعاهدة لم يتجاوز تكلفة مشروع واحد من ابسط المشاريع الاساسية لما يسمى بالتنمية الانفجارية عهد البعث المقبور،اذ كانت كلفة المشروع الواحد من مشاريع التنمية الانفجارية تضرب بالمعامل 3.فلماذا لا يتكلم هؤلاء الاغبياء عن نهب الشركات الغربية عن طريق هذه التنمية الكاذبة،ولماذا لا يتكلمون عن تكاليف مشروع المفاعل الذري الذي ضرب ايضاً بالمعامل 3،وتم تفجيره بعد قبض المبالغ المخصصة؟وقد اثبت بأن الفرنسيين هم الذين قاموا بالتفجيرات من الداخل اثناء القصف الاسرائيلي،لأن قلب المفاعل لم يكن آنذاك قابل للنيل بواسطة القذف الخارجي.ولماذا لا يتكلمون عن عملية نقل التكنولوجيا الغربية في مجال انتاج اسلحة الدمار الشامل التي كلفت بالمليارات،هذه الاسلحة التي استخدمت اولاً في الحرب مع ايران،وفيما بعد كذريعة لتدمير كردستان والعراق؟!
    شجعت حكومة ثورة 14 تموز على خلق بورجوازية متوسطة تجارية بتقليص مبالغ الاستيراد للشركات وكبار التجار وتجزئتها خلال العام الواحد،وتسعير المواد الهامة المستوردة بالجملة والمفرد منعا للاحتكار والمضاربة والاستغلال،وتشجيع التجار الصغار والوسط على الاستيراد،وكذلك تشجيع الاقبال على تأسيس الشركات ذات المسؤولية المحدودة وخاصة الصناعية والانتاجية منها وذلك لصرف الرأسمال الوطني من ميدان التجارة الى الميدان الصناعي"امكن تأسيس 24 شركة من هذا القبيل برأسمال يزيد عن مليون دينار خلال العام الاول من الثورة".
     جاءت الضربة التي تلقتها العلاقات الإنتاجية شبه الاقطاعية وبالتالي وزن ودور الشيوخ من الاقطاعيين وكبار ملاكي الاراضي الزراعية  في اعقاب ثورة تموز عام 1958 وتسلم السلطة من قوى وقفت من حيث المبدأ ضد الاقطاعيين وهيمنة المشايخ على الفلاحين وصدور قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 والبدء بتوزيع الاراضي على فقراء وصغار الفلاحين.لم تملك 85% من العوائل الريفية حتى ثورة 14 تموز شبرا واحدا من الارض في حين ان 1% من العوائل الريفية امتلك ثلاثة ارباع الاراضي!وبقي فقراء الفلاحين هم المرتبة او الطبقة الاشد ثورية في الريف ولا يفتقرون الى الارض وحسب بل يفتقرون ايضا الى  الرأسمال"النقود وادوات الانتاج".وحسب احصاء 1957 كان لكل 6 عوائل فلاحية حصان واحد اي سدس حصان لكل عائلة .. وكان مابين 60%- 70% من مجموع العوائل الفلاحية لا يملك حصانا واحدا او بغلا او حتى حافرا!كان تملك الفلاح او عدم تملكه لحيوان حراثة قوي يمكن ان يتخذ مقياسا لتصنيفه من مرتبة فقراء الفلاحين او اغنياءهم او متوسطيهم الى جانب المقاييس الاخرى..لقد استغلت في زراعة ما قبل 1958 (2712 ) ساحبة و( 1056 ) حاصدة دارسة وآلاف الآلات الزراعية مما اسهم في تفكيك العلاقات الابوية الا ان انتشار الوعي السياسي بين الفلاحين فجر غضبهم على الاقطاع لا الآلة فايدوا الاصلاحات الزراعية.
    لقد سجل القانون رقم 30 لعام 1958 الذي اخذ بحد الألف دونم في الأراضي المروية والفي دونم في الاراضي الديمية مع الأخذ بمبدأ التعويض عن الفائض عن الحد الاعلى يدفع للمالك بأقساط تؤخذ من الفلاحين المستفيدين،بداية جيدة لمسيرة الاصلاح الزراعي..الا ان السنوات التي اعقبت صدور القانون شهدت تراجعا خطيرا في تطبيق فقراته،او تجاوزا عليها في كثير من الاحيان مما اعطى الفرصة للملاكين الكبار للالتفاف على القانون وافراغه من محتواه.واسهمت اجهزة الزراعة والاصلاح الزراعي التي ترتبط مصالحها بالاقطاع من تحقيق تلك الاغراض للعودة بالريف الى ما كان عليه ايام العهود السابقة.واصطدم تطبيق القانون رقم 30 لسنة 1958 بالمقاومة الضارية من كبار الملاكين الذين لجأوا الى كل سلاح بما فيه اغتيال انشط المناضلين من الفلاحين حتى بلغ عدد القتلى العشرات.ولجأوا الى تخريب الانتاج وخاصة في الاراضي الخاضعة للاصلاح – فوق الحد الاعلى – والتي لم يتم الاستيلاء عليها بل بقيت ادارتها بايدي الملاكين بالامتناع عن التسليف وتجهيز البذور كليا او جزئيا.لقد رزخ الفلاح تحت وطأة الديون الحكومية مما دعاه الى ترك الارض والهجرة الى المدن بسبب سلبيات القانون رقم 30 رغم الصراع الساخن بين الاغوات والشيوخ القدامى وبين الفلاحين المستفيدين من تشريعاته وتعديلاته..ولم يكن اتحاد الجمعيات الفلاحية  المشكل وفق القانون رقم 139 عام 1959 سوى اتحادا لكبار مالكي الارض والشيوخ القدامى عرقل عمليا  تنفيذ القانون رقم 30.اضافة لذلك لم يقدم القانون رقم 30 العلاج لحل مشاكل الفلاح المنتج كالتقاليد البالية والمفاهيم المخطوءة والقيم العشائرية،ومشاكل السلوك وضعف القدرات والنشاط وسوء التنظيم وتخلف المستوى التكنولوجي.
   حال صدور القانون رقم 30 الذي شرع بتوزيع الاراضي على فقراء وصغار الفلاحين،ساند البعثيون الاقطاع ضد الاصلاح الزراعي،وحاربوا القطاع العام في الاصلاح الزراعي،وشهروا بسياسة وزارة الاصلاح الزراعي واطلقوا الاكاذيب والافتراءات ضدها وجهدوا في مضايقة خيرة الموظفين ومحاولة شل جهاز الاصلاح الزراعي.كما ساند البعثيون الاجهزة القاسمية للقيام بالمخالفات القانونية الصريحة مثل تأجير اراضي الفلاحين للاقطاعيين وجعل حق الاختيار مطلقا من قبل الاقطاع في الاراضي المجنبة خلافا لروح القانون وتأجير اراضي الاوقاف لغير الفلاحين وتزوير الجمعيات الفلاحية والتدخل للسيطرة على انتخابات جمعيات الفلاحين.وضاعف البعثيون محاولاتهم المسعورة لاجراء التعديلات الرجعية الخطيرة في قوانين الاصلاح الزراعي وتأجيل الاستيلاء على اراضي بعض الاقطاعيين خلافا للقانون.
   كان هناك اتجاهان متضاربان بشأن تطبيق القانون رقم 30.الاول اتجاه تسوده عوامل سياسية ويتمثل في القضاء على الاقطاعيين كطبقة،وتنظيم الجمعيات الفلاحية لغرض القيام بالمهام التي يقوم بها الملاك،خصوصا وان طبقة الاقطاع كانت العمود الفقري للحكم الملكي البائد،وينتظر منها ان تكون مصدرا للتآمر على الثورة التي تهددها.والاتجاه الآخر تسوده عوامل اقتصادية تتمثل في التريث بالاستيلاء على الاراضي الزراعية المملوكة لأجل تجنب الخلل والارتباك الناشئ عن فقدان الاستثمارات والاعمال التي قدمها الملاك في سبيل عملية الانتاج الزراعي،واستمرارها لتأمين حاجة البلاد من الغذاء المطلوب،ولأجل تجنب ما يعرقا التنمية الاقتصادية،وما يحدثه ذلك من أثر على النشاط الاقتصادي العام،وعلى الوضع المالي للدولة.وظهرت هذه الاختلافات في مجلس الاصلاح الزراعي،وكان الدكتور ابراهيم كبة الى جانب الاسراع بالاستيلاء على الارض وطرد الاقطاعيين بتشجيع من تنظيمات الحركة الديمقراطية في الارياف التي جهدت في مهاجمة الاقطاعيين بحيث ان قسما كبيرا منهم هرب الى المدن،بل وغيروا ملابسهم من الملابس القبلية الى الملابس المدنية!وسبب استمرار هذا الخلاف تذمر الدكتور كبة الى ان حدا به الوضع الى تقديم استقالته من الوزارة!...

•   الوعي الديني والفكر الرجعي في العراق

   في العراق،لعب رجال الدين دورا مشهودا في ثورة العشرين الوطنية التحررية ضد الاستعمار الانكليزي الى جانب البورجوازية الوطنية والاقطاعيين من صغار ومتوسطي شيوخ العشائر والجماهير الشعبية.كما انخرطوا في صفوف حمعية"حرس الاستقلال"بقيادة جعفر ابو التمن ورجل الدين محمد الصدر.ورافقت الجمعية ثورة العشرين،وكان لها دورا واضحا في النضالات آنذاك.ولجأ الانكليز بعد ذلك الى سلاح التفرقة المذهبية والقومية والدينية لمنع وحدة الحركة الوطنية منذ ورقة عمل ويلسون قبل انشاء الحكم الأهلي.واكتسبت الحركة الوطنية الزخم بتوسع التجمعات العمالية وانبثاق تنظيماتها النقابية والسياسية،الا ان الادارة الكولونيالية التجأت الى سلاح التأويل السلفي للدين،وامامة تنظيمات الاخوان المسلمين السنة(محمد محمود الصواف)،وحض المرجعيات الدينية الشيعية على مواجهة الشيوعية في خمسينيات القرن المنصرم. 
   تسببت الهجرات الكبرى للفلاحين من الريف بفعل جاذبية الحياة في المدن والفارق الكبير في دخل عامل المدينة ودخل عامل الريف،والطابع القمعي للنظام الاقطاعي،وجفاف النهيرات المتفرعة عن دجلة بسبب تطور نظم السحب بالمضخات في دفع شغيلة المدن الفقراء والاعداد الكبيرة من المهاجرين الى التأثر الشديد بالافكار الثورية الديمقراطية مما اثار حفيظة المرجعيات الدينية المحافظة التي صدمت مرة اخرى باكتساح المد الديمقراطي الشعبي والافكار العلمانية وقيم التدين الشعبي للشارع العراقي بعيد ثورة 14 تموز 1958 والاجراءات الاقتصادية اللاحقة!خاصة اثر التغيرات العميقة في طبيعة الملكية،وتفتيت الملكية الاقطاعية للارض واعادة توزيعها على الشرائح الفلاحية الفقيرة،وتنامي تطور ملكية الدولة الخدمية والانتاجية،وبروز البورجوازية الوطنية التجارية والصناعية بوضوح!
  في هذه الفترة بالذات بدأ الاصطفاف والفرز يأخذ مجراه في الوعي الديني السائد،وحصل تمايز بين المؤسسات الدينية التي تنظم انتاج واعادة انتاج الفكر اللاهوتي وبين الجماهير الشعبية المؤمنة،فظهر مناصري التدين الشعبوي والاقتصاد الاسلامي الشعبوي،الا انهم لم يحددوا معالم ما سموه الاقتصاد الاسلامي وآليات تطبيقه بوضوح"انظر:مؤلفات السيد محمد باقر الصدر التي صدرت في عام المد الديمقراطي - 1959"!وشهدت هذه الفترة ايضا انضمام عدد غير قليل من رجال الدين الى الحزب الشيوعي والقوى اليسارية الديمقراطية الاخرى!كما شهدت الفئات الوسيطة والتقليدية من التجار وكبار ملاكي الأرض والاقطاعيين انبثاق شتى الحركات الدينية السياسية ذات المضامين الاحتجاجية،غير معادية للرأسمالية بل لشرورها!الشيعية منها تدعو الى اقامة الحكم الاسلامي بقيادة الولي الفقيه وليجري اخضاع الدستور والحياة السياسية لأحكام الشريعة والمذهب الأثني عشري،الا ان حزب الدعوة رفع شعار اقامة حكم ديمقراطي دنيوي ثم تراجع عن هدفه هذا بفعل الضغوط!" اختلف السيد محمد الحسيني الشيرازي مع حزب الدعوة حول الايمان بالمرجعية الدينية وولاية الفقيه،بينما تشكل الحزب على اساس نظرية الشورى والانتخابات،وكان السيد محمد باقر الصدر قد وضع الأسس الفكرية والخطوط العامة لحزب الدعوة،ومع اقتراب الصدر من نظرية ولاية الفقيه في السبعينات بعيد الثورة الاسلامية في ايران،اقترب السيد محمد الشيرازي قليلا من نظرية الشورى وقال بها في ظل قيادة الفقهاء المراجع،بعد ان كان يرفضها رفضا باتا"(انظر:حسين الشامي/المرجعية الدينية..)
   الآيديولوجيا الدينية تستمد قوتها من الريف والاقتصاد الزراعي الخاضع لرحمة قوى الطبيعة،فالوعي الفلاحي غيبي محدود الأفق لا يخفت بانتقال ابناء الريف الى المدينة وتعرضهم لرحمة قوى السوق.وتربة الغيبية تضرب جذورها عميقا في المجاهيل وفي الحياة الاجتماعية وفي الطبيعة على حد سواء!ويطغي النمط الغيبي بحدة في فترات الفراغ السياسي!لكن التمدين الجاري هو في اطار عملية تحديث رأسمالي ينقض كالصاعقة على دعة الحياة الريفية البليدة الراكدة ليقذف بها في لجة التغيرات العاصفة مولدة براكين من السخط.وهو بأسلوبه والظروف المحيطة علة بقاء واستمرار تأثيرات الفكر الغيبي. 
   معروف ان المؤسسة الدينية تعني مجموع المراكز المقررة"المراجع"ومؤسساتها العلمية"الحوزات"والمؤسسات الاقتصادية"املاك الوقف،الثروات الشخصية،والمؤسسات الاقتصادية الاخرى"،والمؤسسة الفكرية"الاجتهادات الفقهية السائدة،الآراء السياسية الاقتصادية التي تدرس في الحوزات"،المؤسسة الجماهيرية"المقلدين والاتباع والاتقياء الورعين من المراتب الدينية ومن الناس..".والمؤسسة الدينية – مؤسسة انتاج فكري تخضع للطبقة المهيمنة على الانتاج المادي،وتتميز بمصالح مادية مغايرة لمصالح الجماهير الشعبية،وتنخرط في علاقات الملكية القائمة لنجدها اما مالكا اقطاعيا"الاوقاف والحبوس"او طرفا منخرطا في العلاقات الرأسمالية،وهي تضم مراجع كبيرة رئيسية ومجتهدين وحجج اسلام واتباعا واتقياء ورعين،وهي ليست كلا متجانسا ولعبت على امتداد التاريخ ادوار متفاوتة في السعة والمضمون السياسي والاجتماعي.
   ان سبل حصول المؤسسة الدينية على اسباب العيش يلعب الدور المهم في تحديد سلوكها السياسي والاجتماعي الاساسي،وان نشوء تيار سياسي ديني هو من صلب المؤسسة الدينية،ويمكن ان يحظى باستقلالية نسبية في ظروف المعارضة عن مجموع المؤسسة،الا انه يضطر الى ان يأخذ بنظر الاعتبار مصالح مجموع المؤسسة الدينية عند وصوله الى الحكم!والمؤسسة الدينية مجموعة ضغط مستقلة وقوية نسبيا،وهي في البنية السياسية تعين قواعد السلوك التي يجب ان يتبعها المجتمع والدولة في اتخاذ القرارات.وغالبا ما تستخدم الشعارات الدينية السياسية لتغطية المصالح الشخصية للزعماء السياسيين والدينيين الذين يعتمدون على تقاليد الدعم العشائري او الديني. 
    لم تدن المرجعيات الدينية التقليدية الكبرى والجيل الاقدم من "العلماء"المحافظين الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذتها ثورة 14 تموز المجيدة بشكل مباشر وعلنا،الا انها تحولت الى مهاجمتها والتعرض لقادة الثورة بشكل سافر عام 1960 حيث ارسلت البرقيات تلو الاخرى الى الزعيم عبد الكريم قاسم تطلعه ان الاصلاح الزراعي خرق للشريعة الاسلامية التي تحمي الملكية الخاصة،كما انتقدوا بصراحة قانون الاحوال الشخصية لعام 1959 والمساواة بين الرجل والمرأة في الارث وفرض احادية الزواج!يذكر ان شيوخ الاقطاع والعشائر كانوا يغرقون المدارس الدينية بأموال الحقوق الشرعية،وكانوا مصدرا ثرا للخمس- الضريبة الدينية!واستخدموا المنشورات لمهاجمة الالحاد والدعوة الى اعتناق الاسلام المحافظ،وفي شباط 1960 صدرت الفتوى الدينية المشهورة ضد الشيوعية!وهذه المواقف تدرج عادة ضمن الفكر الرجعي الذي عاود انبعاثه لتضرره الشديد من منجزات ثورة تموز.
   في نظر المؤسسة الدينية التقليدية شكلت الماركسية تهديدا للاسلام كعقيدة ومصدرا مقدسا للتشريع،وعدوها قوة اجتماعية من شأنها ان تهدد سلطة الدين الاسلامي على العامة من ابناء الحضر وابناء الريف،بعد ان بلغت درجة المشاركة الجماهيرية التي يقودها الشيوعيين حدود غير مسبوقة في تاريخ العراق السياسي،خصوصا في صفوف الطبقات الوسطى والدنيا والطبقة العاملة والصناعيين في المدن والفلاحين الفقراء في الارياف.
    انبعاث الفكر الرجعي في العراق بداية الستينيات من القرن المنصرم،لا يعود لأسباب فكرية خالصة تتصل بتشبثه بحجج جديدة مقنعة تستحق المناقشة،بل هو يعود في الأساس الى دوره القديم – الجديد كسلاح من اهم اسلحة الردة على مسيرة 14 تموز المجيدة،والتي بدأت طلائعها في الواقع السنوات الأخيرة للحكم القاسمي،وبلغت ذروتها عبر انقلابي شباط وتشرين 1963،وذلك لاسباب موضوعية كثيرة اهمها تغير المواقع الطبقية بعد تموز،قيادة البرجوازية وبعض مراتب البرجوازية الصغيرة لحركة الردة،وتطلعها للسيطرة السياسية المطلقة في ظل الاستعمار الجديد واعتمادها على جبهة رجعية واسعة تضم اليمين الرجعي القديم(الاقطاع،البرجوازية العقارية الكبيرة،البرجوازية الكومبرادورية)والوسط الرجعي الجديد(البرجوازية الوسطى او الوطنية)وبعض مراتب البرجوازية الصغيرة المتخلفة المتقنعة بالأقنعة القومية.والتكنيك الرئيسي الذي استخدمه الفكر الرجعي هو تكنيك(اللاديمقراطية)،بالترويج لنظم الحكم الفردية والمؤسسات السياسية القائمة على المبدأ الأبوي،مبدأ الوصاية على الجماهير الشعبية،وفلسفة وتبرير الاحتكار السياسي والقيادة الانفرادية.والشعار الرئيسي الذي ما زال يستخدمه للتغطية والتضليل هو شعار(معاداة الشيوعية)مع توسيع هذا المفهوم ليشمل جميع المؤمنين بالديمقراطية وسيادة الشعب والحقوق القومية والاشتراكية العلمية.
  هاجم الفكر الرجعي قانون رقم 80 وفكرة التأميم بحجج اقتصادية(خنق الاقتصاد الوطني)وقانونية(مخالفته للقانون الدولي العام)وعقائدية(اجراء شيوعي)– واقترح حلول تساومية مع الشركات النفطية(كمبدأ المشاركة الوطنية الاجنبية في الامتيازات).وفي حقل الاصلاح الزراعي جرى شجب فكرة القانون رقم 30 من حيث الأساس وتحميله مسؤولية تدمير الجهاز الانتاجي في البلاد،والزعم بأنه مشوب بالأفكار الماركسية والمساس بحق الملكية المقدس!ويطمس الفكر الرجعي التناقض الجوهري بين التنميـة الكومبرادورية(الاستثمار الأجنبي المباشر او المقنع،اعتماد المؤسسات الأجنبية والتابعة للقيام بالتنمية،تبني اسلوب الشركات الاستشارية والمقاولة،اسلوب المناقصات العالمية الرأسمالية …الخ)والتنمية الوطنية!ورفع هذا الفكر الوسطي في حقل العمل والسياسة الاجتماعية شعارات(المشاركة الاختيارية)كستار للاستغلال الطبقي للعمال،و(السلام الاجتماعي) كبديل عن الصراع الطبقي،و(طرق المزاملة في السيطرة الاجتماعية)كبديل لأشكال النضال الطبقي للطبقة العاملة … الخ.في هذا الاطار لقت افكار من قبيل الاقتصاد الاسلامي والاشتراكية الاسلامية والاشتراكية