المحرر موضوع: دَرْگـا  (زيارة 6054 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Saadi Al Malih

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 64
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
دَرْگـا
« في: 13:07 12/07/2012 »

دَرْگا (ܕܪܓܐ)


سعدي المالح


كانت محلتنا ملمومة على بعضها البعض، صغيرة جدا، عبارة عن زقاق قصير، اصطفت على جانبيه، على غير انتظام، عدة بيوت طينية متكئة بأكتافها على بعضها البعض، متلاصقة، يسده بيت كبير يحرسه كلب ضخم دائم النباح كأنه يعلن أن هنا ينتهي العالم. وكان هذا الزقاق يصعد من ساحة (درگا) باتجاه الغرب، بينما يتفرع منه يمينا، مقابل بيتنا بالضبط، زقاق آخر أصغر منه  وأقصر، تصطف ستة بيوت فقط على جانبيه، ويلقى حتفه عند المقبرة القديمة ( قصرا). لكن هذا الدرب الضيق القصير كان يستقبل أيضا من محلة (درگا)، كل صباح ومساء، المصلين الذاهبين إلى الكنيسة المحاذية للمقبرة والقادمين منها، وخاصة العجائز المدمدمات بأدعية وصلوات متواصلة في ورع ورهبة وهن خارجات من الكنيسة وحتى بلوغهن بيوتهن، فيما عدا ذلك لا يدخله احد غريب في النهار، فنحتله نحن الصغار ليصبح ملعبا لكل ما يخطر على بال من ألعاب الطفولة. أما في الليل فيأوي الناس إلى بيوتهم التي تنفتح على بعضها البعض عبر كوات خلفية أو جانبية، بينما يخيم في الخارج على المحلة كلها ظلام دامس يحولها إلى مستعمرة للكلاب والقطط السائبة والجن والأشباح والموتى الراقدين على بعد لا يزيد عن رمية عصا.
كانت ساحة "درگا" بالنسبة لأهل القرية مركزا للتجارة والأعمال والترفيه، أما بالنسبة لي فكانت قلب العالم كله، مثلما كانت بابل أو نينوى محورا للعالم بالنسبة للبابليين أو الآشوريين، ولهذا صوروا الثور المجنح، رمز قوتهم وعظمتهم، بخمس قوائم الأربع منها هي الأطراف في الاتجاهات الأربع والوسطى، الخامسة، هي أنفسهم. لأنهم كانوا يعتقدون أنهم يعيشون في مركز العالم ويعدون أنفسهم محوره، هكذا كانت درگا؛ مركز القرية ومحورها وقلبها النابض، ساحة صغيرة تتوسط حيا شعبيا، تتفرع منها أربعة أزقة من جهات أربع؛ شرقا زقاق قصير يهبط نحو الساقية وينتهي بها بعد نحو ثلاثمائة خطوة، وغربا يصعد زقاق أقصر منه مسدود ينتهي ببيت آل عزوز حيث يقع بيتنا، لكن فرعا ضيقا وقصيرا يلتف منه يمينا نحو الكنيسة.  شمالا يسير زقاق منبسط باتجاه البيادر يتفرع منه درب آخر نحو زقاق الحائكين، وجنوبا زقاق مسدود آخر، ضيق جدا، قد يبلغ طوله مائتي خطوة، يلتوي ليلتف من وراء مقهى العم گوگا، وهو زقاق معظم بيوته من صانعي العرق المحلي القجغ. كان العالم بالنسبة لي ينتهي عند حافات هذه الأزقة الأربعة وفرعيها، لأن درگا كانت معزولة عن بقية عنكاوا من طرفيها الغربي والجنوبي ومفتوحة على البيادر والحقول وقُصلان الشعير( جمع قصيل، وهو حقل قريب من القرية ترعى فيه الخرفان والأبقار وهو أخضر) والأراضي الديم.  على الرغم من ذلك كانت البيوت تلتصق ببعضها البعض عبر حيطانها وأسطحها الطينية، فتنفتح على بعضها البعض عبر كوات صغيرة وكبيرة من هذه الحيطان ومن على الأسطح المتلاصقة إذ يتبادل الناس من خلالها الحاجات الضرورية والرسائل القصيرة بواسطة النداءات. كان من السهل أن  تنتقل عبر السطح إلى عدة بيوت متلاصقة من الخلف وتهبط في باحاتها بواسطة الدرج مختصرا مسافة كان لابد أن تلتف حول نصف عنكاوا لتقطعها. وهذا ما خلق للقرية عالمان: خارجي مفتوح على الفضاء وداخلي سري منغلق على ذاته عبر الأزقة المغلقة.
لكن في أوائل الستينيات تغير كل شيء، اختلط هذان العالمان ببعضهما البعض، لا سيما بعد أن شُقّ شارع ليضرب درگا في الخاصرة بانتهائه على حافة ساحتها ليفتحها نحو الغرب من جهة والجنوب من جهة ثانية، وليعري عالمها السري ويوصله ببقية أطراف القرية أخيرا.
كانت علامات حمراء رسمت، منذ سنوات، على أسطح بيوت كثيرة وجدرانها على شكل خط مستقيم من غرب القرية إلى شرقها تحدد موقع شارع جديد مرشح للفتح. وكان بعض تلك العلامات الحمراء قد اندثر أو زال بمرور الأيام، حتى أن الناس الذين وقعت بيوتهم على خط الشارع الجديد اطمأنوا نوعاً ما من أن المشروع بات منسياً ولن يُنَفّذ.
لكن ثورة تموز 1958 التي قلبت كل الأمور على عقب، وهزت العراق كله، بكل أحداثها، سلبا وإيجابا، أعادت الحياة إلى ذلك المشروع شبه الميت. فجاء المساحون بعد حوالي سنة، يعيدون رسم علاماتهم الحمراء على الحيطان الطينية القديمة وينشرون الذعر في قلوب أصحاب البيوت التي سيقطعها الشارع الموعود وصولا إلى ساحة درگا.  
أما لماذا درگا فلا نعرف أصل الاسم، ربما يكون محرفا من ديركا، وكانت قرية بين أربل وعنكاوا، انتقل أهلها إلى عنكاوا قديما وسكنوا في هذا الحي وسمّي باسمهم. وديركا هي تصغير لدير بالسريانية كعما – عمكا، وثمة قرى عديدة تحمل هذا الاسم في المنطقة، أو ربما يكون درغا الذي يعني الدرج بالسريانية، والمنطقة فعلا تنحدر من أعلى حيث التلة قصرا إلى أسفل حيث الساقية، ولعل درجاً كان هناك في زمن ما.
كان بيتنا يقع قبل نهاية الزقاق القصير المسدود المنتهي ببيت آل عزوز. جاء المساحون ورسموا علامتهم الحمراء على منتصف درج بيت جدي، هذا يعني أن بيت جدي ونصف هذا الدرج سيبقى لكن الغرفتين الطينيتين اللتين شيدهما والدي قبل نحو سنتين ونصف والحوش كله سيبتلعهما الشارع. وكانت باحة البيت كبيرة جدا تسكنها عدة عائلات تنحدر من توما الجد الأكبر لعائلة المالح (جد جدي توما)،  بيت العم قاقوزا القصاب  وبيت العم أدو (يلدا) النجار ابنا سوريش عم جدي، وبيت فارغ لأبناء عمه الآخر حنوش، وهذا يعني أن نصف هذه البيوت أيضا سيضيع بحسب العلامة الحمراء ، وسيأتي الشارع على نصف بيت الأخوين زورتا العم فرنسي والعم بهنام، المجاور لنا من الطرف الآخر، ثم بيت آخر يؤجر بين فترة وأخرى لعائلةجاءت عنكاوا حديثا، يليه بيت حنا شماشا حتى يصل خاصرة درگا ويقف عندها. لقد كشف الشارع الجديد عن عورات بيوت المحلة، إذ بقيت لسنتين تقريبا من دون سياج انتظارا لإكمال تبليط الشارع. بعض البيوت ابتلع الشارع مساحة كبيرة منها فأرغم أهاليها على الانتقال إلى بيوت أخرى. بينما بقي الزقاق القصير المتفرع من زقاقنا المسدود نحو قصرا على حاله دون أن تصله مخالب الشارع. كان هذا الزقاق يقع مقابل بيتنا بالضبط. على الطرف اليسار من الزقاق يقع بيت العم بويا هللاوا ثم بيت توما فشة يليه بيت العم عيسى، وشكرية قاقوزا ، وينتهي ببيت آل شيشا كوندا على الزاوية لكن بابه يواجه قصرا. بينما على الطرف اليمين حوش تسكنه عدة عائلات من آل كليانا بينها بيت صديقي فاضل نوري ثم بيت بتو ( بطرس) مرقس كوندا وأولاده الكثر وويردو خالا الحلاق وبطرس روالا الذي يقف في مواجهة قصرا من الطرف الآخر.
وكلما مدح أحدهم ثورة تموز وانجازاتها قالت أمي أي انجازات هذه، لقد قتلوا الملك في بغداد وخربوا بيتنا وبيوت الآخرين في عنكاوا، وبالفعل كان لثورة تموز نتيجة كارثية على عائلتنا الصغيرة إذ لم يتبق من بيتنا الذي لم يمض على بنائه إلا سنوات قليلة، غير بضعة أمتار مربعة ظلت خربة فترة طويلة.
هذا الحدث، كان بالفعل كارثة قصمت ظهر والدي الذي تمكن أن يوفر بعض المال من مرتبه الشحيح ويبنى لعائلته بيتا صغيرا يكون سترا لها، سيما وأن والده قد سطا على الجزء الأكبر من تعويض البلدية للبيت باعتبار أن الأرض كانت ملكه.
بيد أن هذا كله لم يعن لي شيئا. كارثتي كانت غير" كارثة عائلتي" ، مع أن سببها الرئيس كان الشارع نفسه، الذي بلع عند نهايته بيتا آخر، هو البيت الذي ولدت فيه.
كان جزء من ذلك البيت الطيني القديم الواقع في مدخل زقاق خلفي، مؤجرا من قبل عائلتي قبل أن نشيد بيتنا الجديد، وفيه ولدت، كما كانت تقول لي أمي عندما تتحدث عن تواريخ ميلادنا وأماكنها التي تحفظها جيدا بالساعات والأيام مرتبطة بحال الطقس في ذلك اليوم أو بمواعيد الأعياد أو الصوم أو المناسبات الأخرى الكثيرة. ذلك البيت كان يطل على ساحة درگا ولا يبعد كثيرا من بيتنا ومن ذاكرتي الطفولية.  لهذا كانت درگا، محور العالم ومركزه بالنسبة لي.
في الطرف الجنوبي من الساحة جايخانة (مقهى) العم كوكا (كوركيس) ملاصقة لبيته. وهي أقدم جايخانة في القرية؛ مبنى طيني يتكون من صالتين مفتوحتين على بعضهما من الوسط فيهما فتحات كبيرة تشبه الشبابيك وفي أعلى منها فتحات أصغر؛ كوّات تسمح دائما بدخول الهواء وخروجه، وقد توزعت دِكاك (جمع دكّة) طينية في أطراف الصالتين بدلا من المصاطب مع بعض التخوت والطاولات الخشبية القديمة. على الدِّكاك والتخوت حصران قديمة مصنوعة من الحلفاء، يتوزع الناس هنا وهناك يلعبون الدومينو والداما، والعم كوكا وابنه حبيب الفارعا الطول، ولعلهما أطول رجال القرية، يسقيان الزبائن الماء والشاي واللبن وبعض المشروبات الغازية آنذاك من زاوية على اليمين في الصالة الأولى حيث أباريق الشاي وحِب الماء وأحيانا سطل اللبن في الصيف. أسماء المشروبات الغازية كانت غريبة وصعبة اللفظ بالنسبة لكثير من الرجال، فيطلبونها على وفق ألوان القارورة أو السائل الذي فيها: هات الأصفر، أو الأسود ، أو الأحمر وهكذا، فمن لديه عانة ثمن الشاي أو عانتان ثمن القارورة الغازية يدفع ولا سيما الأفندية الذين كانوا يتقاضون رواتب شهرية، ومن ليس لديه من فقراء الفلاحين والأجراء يقول للعم كوكا سجلها على الحساب، والعم كوكا يؤشر خطا على الحائط إلى جانب خطوط أخرى أو يحفظها عن ظهر قلبه لكي يسجلها ابنه فيما بعد في دفتر الديون حتى يأتي موسم الحصاد أو حصول الأجير على أجره أو راتبه.
في الصيف يرش العم كوكا الساحة الأمامية الترابية ذات الدكّتين الترابيتين الطويلتين بالماء الذي تجلبه له زوجته من الساقية منذ الصباح، ويُخرِج الطاولات والمصاطب إليها لتتحول المقهى إلى الباحة الأمامية ويجتمع عديد من الرجال هناك. كان هذا المقهى، مركزا لتبادل الأخبار وإجراء الصفقات ووضع الخطط ومعرفة الأنواء الجوية وموعد الحِرْث والزَّرْع والحصْد. كيف لا وفي المقهى راديو لا يملك مثله إلا بضعة بيوت في القرية. كان صوت الراديو يلعلع في المقهى لا أحد يعير له انتباها كبيرا لا سيما عندما كان يذيع أغنية لزهور حسين أو أم كلثوم أو مائدة نزهت. بينما عندما كان يحين موعد نشرة الأخبار كان عدد من الأفندية يقتربون منه ليصغوا جيدا إلى صوت المذيع محاولين فهم ما يقوله بذلك القدر الذي يعرفونه من اللغة العربية، ليصبحوا فيما بعد ناقلي الأخبار بالسورث (السريانية العامية) لمن لا يجيد العربية ويدفعه الفضول لسماع بعضها.
في تلك الأيام سجل الشماس سيوا من كويسنجق بعض الأغاني باللغة الكوردية في الاذاعة العراقية واشتهر صيته بواسطتها، وكلما سمع الشماس ججي في عنكاوا أغنية هه ري كولي كان يقول إن سيوا يغني قوم شبير بالكوردية، ويغنيها معه كما هي بالسريانية، فيضحك الرجال منه، أما عندما يغني ناظم الغزالي "طالعة من بيت ابوها" فيردد معها مدراشا ويقول هذا مدراش مار أفرام على اللحن السباعي، ومع أغنية "فوك النخل فوك" يردد ترتيلة أخرى قائلا هذه لمار يعقوب، وكان الرجال الذين يجهلون تاريخ موسيقاهم وألحانها يتندرون عليه بتعليقاتهم ويسخرون منه، وما أن اشتهرت أغنية "يالله صبوه هالقهوة" لسميرة توفيق المعروفة بكونها أغنية بدوية سألوه ساخرين منه : يا شماس هذه تشبه أية ترتيلة؟ استمع جيدا للأغنية ثم راح يغني معها بالسريانية قائلا هذه سوغيتا على الوزن المثمن، عندئذ ضحك الجميع  متصورين أن الشماس بدأ يخرف، لكن في الحقيقة كان الشماس على حق فهذه الألحان والكثير غيرها من الألحان التي تعد ألحانا شعبية وتراثية هي بالأصل ألحان سريانية تداولها رجال الدين في الكنيسة الشرقية بالتناقل منذ القرون المسيحية الأولى، لكنه لم يكن يعرف كيف يعبر عن وجه الشبه  بين هذه وتلك الألحان لأنه كان يحفظ الألحان الكنسية دون أن يعرف مصادرها ويشرح أصولها.  
 كان والدي يتردد إلى المقهى صيفا لكني لم أجده يلعب الداما أو الدومينو، كان يقف مع الرجال حيث يتبادلون الأخبار والأحاديث المنوعة، وكثيرا ما يأتي إليهم العم لورنس فيلقي نكتة أو كلمة عابثة ثم يخرج من عبه ربعية العرق ويأخذ منها مصة، يمسح فمه بيده ويرجعها إلى مكانها، وإذا ما أغضبه أحدهم أو ناكده أهداه واحدة من عفطاته المشهورة. كان العم لورنس دائم المرح أراه أحيانا بين الحقول يرفع إلى فمه ربعيته ثم يخرج ليمونة حامضة من جيبه يتمزز بها. كنا نحن الصغار نستغل وجود والدي بين شلة الرجال لنذهب إليه ونطالبه بالفلوس فيستحي ويعطينا لكنه عندما يرجع إلى البيت يعاقبنا ويعاتب أمي على السماح لنا بإحراجه أمام رجال القرية، فتقول إنها لم تعرف بما فعلنا، وفعلا كنا لا نخبرنا بالأمر كي لا تمنعنا من الذهاب إليه. ومع ذلك كنا أحيانا نكرر فعلتنا هذه كلما تضايقنا وشعرنا إننا بحاجة إلى المال. كيف لا نفعل وإلى جانب هذا المقهى، وتحديدا عند حافة باحته كان يقع دكان حنا شماشا.
كان حنا يعيش في بيت مجاور مع أمه وأخته وقد توفي والده وكان أخوه الأكبر المتزوج قد ترك البيت ليعيش في بيت مستقل. تعتاش العائلة من هذا الدكان الصغير لكنه يحتوي كل ما تحتاجه العائلة من سمن وسكر وشاي وصابون وأرز وغيره ، لكن ما كان يستهويني وإخوتي السكاكر والحلويات والبسكويت والعلكة التي كنا نسرع لشرائها كلما توفرت في أيدينا عانة (أربعة فلوس) أو أقله تلك القطعة المعدنية الصفراء أم الفلسين التي نحصل عليها بشق الأنفس من خلال صراعنا اليومي مع والدتنا. يبدو أن حنا تعلم الصنعة من أبيه الشماس الأعرج الذي بدأ يبيع في أيوان بيته قطعا من السكر القند وبعض الحلويات والشاي الفَل وبعض الحاجيات الأخرى، لكن لم يكن يملك المال ليطور هذه البقالة الصغيرة فتبرع له أحد أقربائه الأغنياء بعشرين دينارا في ذلك الوقت ليفتح دكانا يحوي معظم الحاجات المنزلية. أقف الآن أمام دكان حنا شماشا وقد اعيد بناؤه بالاسمنت، وها هو الابن(حفيد الشماس الأول) يقوم مقام والده بعد أن استشهد حنا شماشا أثناء انتفاضة آذار 1991 برشقات من رشاش طائرة هيليوكوبتر للجيش العراقي كانت تصوب سلاحها نحو كل هدف متحرك على الأرض.. دون أن يكون له أي علاقة بالسياسة بل أنه كان يحاول الهرب من بيته إلى ملجأ آمن يلوذ به.
في ركن آخر على فم الزقاق المؤدي إلى البيادر  كان العم ميخا الأصلع العجوز الهرم يجلس أمام طبق قديم فيه بعض الحلوى والمعجون والبسكويت والعلكة وربما حب عباد الشمس بالقرب من بيته، أحيانا يتجمع الأولاد حوله، يناولونه نقودهم القليلة فيتفحصها جيدا ويضعها في علبة معدنية صغيرة ثم يسال الطفل ماذا يريد فيعطيه. كان طبق العم ميخا أقدم من دكان حنا شماشا لكنه أضحى أقل شهرة في تلك الأيام لتقدمه في السن وهرمه حتى أن مراهقا من عائلة ميسورة تجرأ وسرق ذات يوم العلبة المعدنية بما فيها من نقود!. وبالطبع كانت الفتيات يفضلن الشراء من حنا الشاب غير المتزوج الذي يمزح معهن وأحيانا يعطيهن بعض الزيادة على ما يطلبنه فيما إذا كان ثمة من تجاوب مع مزحة أو حديث جميل. فضلا عن ذلك كانت رائحة النفط تفوح دائما من طبق العم ميخا لأنه في الوقت نفسه كان يبيع النفط (الكيروسين) فكلما جاء مشترٍ ينهض من أمام طبقه فيدخل أيوان البيت ليصب من تنكة نفطا في قارورة زجاجية لأن الناس في ذلك الوقت كانوا يشترون النفط بالقوارير لاستعماله في الإنارة فقط!
وبين دكان حنا شماشا وبيت العم كوكا يقع بيت هرمز عمانا المشهور بصيد عصافير الحقول بالفخاخ المعدنية الصغيرة في الخريف، ويكون صيد العصافير عادة بين حراثة الحقول وبذارها وقبل سقوط المطر. كان العم هرمز يأتي عصرا مع الغروب حاملا أفخاخه وكيسا مليئا بالعصافير، فتكون زوجته بانتظاره لتنتف ريش العصافير الناعم مستفيدة منه لبيعه لصنع المخدات، وقبل أن تنتهي من مهمتها يتوافد الزبائن، هذا يريد خمسة وذاك عشرة وهذه ستة وهكذا، لأن العصافير تستخدم مازة لشاربي العرق وأيضا تطبخ مع البرغل. أذهب مع أمي لشراء العصافير فأراها تجلس أمام الطشت تساعد في نتف ريش العصافير المسكينة الصغيرة التي قتلتها فخاخ العم هرمز. لا اتحمل المنظر فأخرج. العديد من الرجال كان يعيش على صيد العصافير، وما يزال، حتى أن ابن أحدهم ما يزال يمارس اصطياد العصافير بالفخاخ كهواية على الرغم أنه يعمل موظفا مرموقا منذ ثلاثين سنة!
وكانت ساحة درگا في الصيف سوقا للترعوزي والبطيخ الأصفر منذ الصباح الباكر، ومركز السوق كان في ظلال بيت العم ايليا بطروزا ( بطرس) وتحت حائطهم. الترعوزي هو القثاء وقد يكون انتقل إلى سهل أربل ونينوى من ألرها لأنه سمي باسم قرية "طرعا دْ عوزي" السريانية ( باب العوز) القريبة منها والتي اشتهرت به. ويزرع ديميا في سهول عنكاوا إلى جانب البطيخ الأصفر (الشمام). يأتي المزارعون بمحصولهم اليومي من الترعوزي والبطيخ الأصفر منذ الصباح الباكر ويضعونه أكواما على ملايات أو خُرج فارغة أو على الأرض مباشرة فيهب الناس إلى شراء ما يحتاجون. وتتحول الساحة إلى هرج ومرج الباعة والشارين والأطفال والحمير المربوطة بالقرب منهم. تقاس جودة الترعوزي بطراوته وصغر حجمه أما البطيخ بحلاوته وكبر حجمه ونوعيته. كان أحيانا يظهر صراع بين الباعة حول أي منتوج هو الأفضل وأي بطيخ هو أحلى أو أي ترعوزي هو أطرى.  كانت أمي ترتاد هذه السوق قبل أن يكون لنا بستاننا الخاص فتشتري من هذا وذاك لكن أيضا كان يعجبها أن تشتري كومة من البطيخ "كوترة" أي على التخمين من دون وزن....
وإلى جانب هؤلاء تجد العم اسحق عمبارك جالسا أمام كومة صغيرة من الطماطم والباذنجان والسلق والبصل وبعض الأعشاب ساعة أو ساعتين دون أن يقبل عليه الكثير من الزبائن لأن معظم الناس يزرعون الخضار بأنفسهم فيضطر بعد بعض الوقت لتحميل بضاعته في خرج مصنوع من الحصيرعلى حمارته ليدور بها في القرية عله يبيع ما تبقى لديه من الخضراوات. وعندما كبر ولداه صباح وأوسا (يوسف) أخذا يساعدان والدهما، كانا عصاميين وعملا بجد ثم فتحا دكانا تطور إلى تجارة ناجحة يضرب بها المثل.    
ولأن البيوت في عنكاوا كانت تبنى باللبن (الطوب)، المصنوع من الطين والتبن، كان درگا مسرحا لصناعة مثل هذا اللبن كلما احتاج أحدهم بناء بيت، يأتي بالتراب الأحمر من (خبّرتا) وهي حفرة كبيرة جدا تمتد لمساحة واسعة وبعمق عدة قامات تشبه المقلع في بداية القرية (بارك عنكاوا حاليا). وينقل هذا التراب بواسطة الخُرْج المحمول على دابة ويخلط بتبن ناعم وماء فيُجبل منه طينا، ويصب هذا الطين بعد تخمره في قوالب خشب مستطيلة بحدود 40في 60 سم ثم يسوى سطح القالب ويزال الطين الزائد بقطعة خشبية أو باليد ويترك قليلا إلى أن يتماسك فيرفع القالب وتترك قطع اللبن لأسبوع أو أكثر لتجف أمام الشمس في ساحة درگا ثم تقلب على حافتها لتجف من الأسفل والجوانب أيضا. ويستعمل هذا اللبن فيما بعد للبناء بدلا من الطابوق أو البلوك الخرساني الذي نستعمله الآن، وكان يوسب كتا أشهر طوّاب وبناء في ذلك الوقت، ولم يكن يضاهيه في قطع اللبن غير هرمز جمعة، كان العم هرمز طويل القامة يسير بخطوات سريعة واسعة، ومشهورا بسرعته في المشي، يقال  أنه كان ذات صباح، يعود من قرية قريبة من راوندوز (أكثر من 100 كلم عن عنكاوا) فلم يجد سيارة تقله فأخذ يمشي على قدميه فوصل عنكاوا في الليل، ويحكى عن عداء آخر وهو العم حنا المعروف بحتا أنه ذهب إلى شقلاوة وعاد منها إلى عنكاوا في اليوم نفسه والطريق بين عنكاوا وشقلاوا يبلغ نحو خمسين كيلومترا، وينبغي أن لا ننسى هنا أنه كان على الأول أن يجتاز جبل صلاح الدين والثاني أن يقطعه في ذهابه وإيابه. ويحكي لي ابن خالتي جبرائيل أنه في شبابه كان يسافر من عنكاوا إلى ألقوش سيرا وراء الدواب المحملة بالجوز والزبيب وبضاعة أخرى منذ الصباح الباكر فيصل ألقوش مساء. هذه المسافة تقطعها السيارة الآن بنحو ساعة وثلاثة أرباع الساعة! لا أدري إلى أي درجة تكون هذه الحكايات صحيحة لكن المصادر التاريخية لا تخلو من أخبار مشابهة إذ كانت جيوش الدولة الآشورية تسير نحو 40 كم في اليوم فما بالك إذا كان السائر شخصا بمفرده. وقد تمكن كلكامش وانكيدو من قطع نحو 500 كم في عدة أيام بقياسات تلك الأيام في رحلة عودتهما إلى مدينة اوروك. وإذا كانت ملحمة كلكامش قصة أو أسطورة فإن شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم بين (2095-2048) قبل الميلاد يخبرنا في أنشودة "ملك الطريق" متفاخرا أنه ركض من أور إلى نفّر وعاد منها إلى أور في يوم واحد ليحتفل بمهرجان القمر في المدينتين في اليوم نفسه، والمسافة بين المدينتين تزيد على 300 كم ذهابا وإيابا. كان هناك العديد من الرجال الذين يضرب بهم المثل في المشي السريع لمسافات طويلة.
على أية حال لقد توارث سريان السهول هذه الطريقة في قطع اللبن من أجدادهم البابليين والآشوريين لعدم وجود حجارة في السهل الفسيح الذي كانوا يسكنونه. وكانت أبعاد هذا اللبن نفس أبعاد اللبن الآشوري القديم تقريبا. ومثل هذا اللبن اكتشف في الطبقات الوسطى والسفلى من تل قصرا في عنكاوا الذي يعود تاريخه إلى نحو سبعة آلاف سنة. ويشهد سفر التكوين(10: 2-3) على استعمال سكان بابل اللبن إذ يشير إلى أن العبرانيين "فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنًا وَنَشْوِيهِ شَيًّا. فَكَانَ لَهُمُ اللّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ". والبيوت المبنية من الطين كانت أدفأ شتاء وأبرد صيفا.
وكنت تجد في هذه الساحة أيضا مئات من سيقان أشجار الحور الطويلة الباسقة التي تستعمل عادة لتسقيف البيوت فتمدد بعيدة عن بعضها البعض بحدود خطوة إلى خطوتين على عرض السقف ثم ترصف ما بينها فروع أشجار أرفع منها لتغطى هذه وتلك بحصران من الخوص وبعض النباتات اليابسة ثم تكسى بطبقة من الطين المجبول بالتبن. لكن كل هذا لا يمنع من إن يتسرب ماء المطر إلى البيت عندما تهمل إدامة السقوف والجدران. تصوروا لآلاف السنين لم تتغير طريقة البناء هذه إلا في النصف الثاني من القرن العشرين عندما دخل الطابوق والسمنت والحديد صناعة البناء! كان قدماء العراقيين يصنعون بيتهم في البداية من الحلفاء ثم تعلموا صناعة اللبن وشيدوا باللبن زقوراتهم وأبراجهم وقصورهم، ولم يكتفوا بذلك بل أخذوا فيما بعد يفخرون هذا اللبن ويشوونه بالنار ليبقى قويا ويدوم سنوات طويلة. بيتان فقط في درگا كانا مبنيين باللبن المشوي، بيت عمي يوسف بائع العرق المعروف في أربيل وبيت صليوا أوراها أحد أقدم المعلمين في القرية، لكن كليهما انتقلا إلى مساكن جمعية الخالدية التي شيدت في عام 1957 في مدخل عنكاوا من الطابوق والطين.
ونظرا لوجود الأخشاب واللبن في الساحة هذه ليس غريبا أن تصبح أيضا مركزا لتجمع عمال البناء وغيرهم فيأتي أصحاب العمل أو البناؤون فيختارون عمالهم منذ المساء ليبدأوا في اليوم الثاني ومنذ الصباح الباكر بنقل المواد أو البناء. وكانت الساحة في أشهر الحصاد تصبح أيضا مركزا لتجمع الحاصدين ونقلة الحصيد من الحقول إلى البيادر.
وكلما أضاع أحدهم شيئا ثمينا كلف المنادي في القرية العم بهنام الملقب بسقرا ليأتي ويقف في وسط الساحة وينادي ( الله يرحم والدَيّ من عثر على كذا ويعيده لصاحبه فتمنح له مكافأة مجزية) وعادة ما تكون تلك الأشياء الثمينة حليا أو ساعة أو محفظة ومعظمها لنساء وهكذا. والعامة تسمي المنادي كزيرا وهي كلمة تركية أو فارسية بينما اهملت الكلمة السريانية سقرا ܣܩܪܐ اللصيقة باسمه والتي تعني المُبَلّغ، ويتصورها البعض صقرا من صقر العربية وهذا غير صحيح.
وإلى ذلك فأن ساحة درگا هي مركز شراء وبيع الحلفاء المستخدمة في صناعة الحصران ، كانت تأتي اللوريات وأغلبها من باطنايا وباقوفا وتللسقف أو من ألتون كوبري محملة بالحلفاء المجففة رزما رزما ويشتريها العاملون في صناعة الحصران ليتقاسموها فيما بينهم، بالأحرى كان صليوا ساكا هو الذي يشتري اللوري ويقسمه إلى حصص صغيرة يشتريها صانعو الحصران فيستفيد هو حصة أو حصتين لأن صانعي الحصران يدفعون له بالمؤجل بعد بيع حصرانهم. وهذه الحلفاء التي نسميها "برديل؟" تنبت على نحو جيد على ضفاف نهر خوصرتا (الخاصرة) الذي يسمى الآن الخازر بقلب الصاد زايا. وعلى ضفاف الخابور وغيرها من حواف الأنهر، ولولا هذه الحلفاء لما كان لنا أعظم ملك في تاريخنا ولا أول نبي يؤسس ديانة سماوية . فها هي الكاهنة العظمى اينيتو التي ولدت ابنها (سرجون الأكدي) سرا ( كان يمنع على الكاهنات آنذاك إنجاب الأطفال على وفق قوانين حمورابي) وضعته في سلة من البردي وختمت غطائها بالقير وتركته بين الحلفاء على حافة النهر، قبل ألفين وثلاثمائة سنة، ولا أدري كيف فكرت والدة النبي موسى العبرانية أن تفعل الأمر نفسه بعد ألف ومائتين سنة وفي مصر على مسافة تبعد آلاف الكيلومترات "فأخذَتْ لَهُ سَفَطًا مِنَ الْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِالْحُمَرِ وَالزِّفْتِ، وَوَضَعَتِ الْوَلَدَ فِيهِ، وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ". (سفر الخروج 2: 3) ويكون لكلا الطفلين المصير نفسه فيعثر عليهما بستاني في الأول وأمَة في الثاني ويتربيان في عائلتين ملكيتين ويصبح الأول أشهر ملك في الشرق الأوسط والثاني نبيا في المنطقة نفسها!!! على المؤرخين أن يستنطقوا هذه الحلفاء اللعينة أو المقدسة إن كان كلاهما واحد أو أن كليهما اختلقا قصتهما واعتديا على هذه النبتات التي صرنا نعذبها بجدلها وغزلها والجلوس عليها لكي تنطق لنا بالحقيقة! لكن هذه الحلفاء أتت اليوم على موقع برج بابل باعتراف طه باقر ففي محاضرة له تحت عنوان (برج بابل) ضمن فعاليات المؤتمر العالمي للآثار الذي انعقد ببغداد في 1978 قال:
"غدا برج بابل الآن عبارة عن حفرة مليئة بالمياه ونبات الحلفاء.. فقد حمل أهالي الحلة القدماء كل الطابوق الذي بُني به البرج.. وبنوا بهِ بيوتهم.. ففي بيتنا القديم بالحلة.. طالما شاهدت أسم الملك (نبوخذ نصر) محفورا بعلامات مسمارية على سطوح الطابوق الذي شيدنا بهِ دارنا"...
وكلما طال شعري تاخذني أمي إلى بيت العم ويردو خالا القريب فيجلسني على الأرض في الأيوان ويربط شعري من الأعلى بخيط حتى يحصد بقية رأسي على هواه. أما تلك البقعة المشدودة بالخيط فتبقى على حالها مثل عرف الديك، وكانت هذه موضة حلاقة الأطفال في تلك الأيام. وكان في درگا حلاق آخر هو العم عيسى سيدا. هذان الحلاقان يحلقان الكبار والصغار، الرؤوس واللحى،  مقابل كذا وزنة من الحنطة سنويا. كانا يستعملان المقص والموسى العريضة ويحدانها بقطعة من جلد تسمى النشتر وأحيانا يستعملان رغوة صابون.
 وفي نهاية الخمسينيات حدث تطور آخر في عنكاوا، إذ شيد أول مشروع فيها لإسالة الماء، لكن الماء لم يكن يصل البيوت، بل نصبت حنفيات ذات رؤوس عديدة في المحلات، وكان من حصة درگا ثلاث حنفيات، الأولى أمام بيت صليوا اوراها أفندي والثانية عند الزاوية اليسرى لبيت ايليا بطروزا، والثالثة في مدخل زقاق صانعي العرق، بالقرب من مقهى العم كوكا. يأتي الماء لهذه الحنفيات من خزان اسمنتي شيد على ارض مرتفعة قليلا بالقرب من متنزه عنكاوا الحالي. وكان جارنا، العم فرنسي، مشغلا لمضخة الماء المنصوبة على بئر ارتوازية تضخ ماء زلالا إلى الحوض. وبما أني كنت صديقا لرمزي ابن العم فرنسي كنا نذهب مع والده أحيانا إلى المضخة، وكنا نسأله أن يسمح لنا بتشغيلها، وكانت تلك متعة كبيرة فنشعر إننا وفرنا الماء لعنكاوا كلها. لكن هذه الحنفيات لم تحل مشكلة الماء في القرية كليا، لأن بعض النساء المتنفذات والمتسلطات كن يسيطرن على هذه الحنفيات ساعات طويلة دون أن يسمحن لغيرهن بأخذ الماء إلى أن يرتوين ويملأن كل ما لديهن من حبب وطسوت وأواني. هذا الأمر كان يخلق مشاكل كثيرة ومخاصمات خاصة بين النساء فتصل في بعض المرات إلى جر الشعر والعض والاشتباك بالأيدي، مما أدى ذات يوم أن يقوم أحد الرجال وفزعة لزوجته المغلوب على أمرها بقفل إحدى الحنفيات وإخفاء أقفالها في المزارع لينقطع ذلك الصنبور من الماء للأبد!
كانت أمي تشتري اللحم من العم يعقوب نعمتو الذي كان يثبت قنارته على حائط بيت ايليا بطروزا ويعلق عليها قطع اللحم الكبيرة ليقطع منها لزبائنه بالوقيات التي كان يزنها بميزان من صفيحتين من الفافون كل منها معلقة بثلاثة حبال من رأس عصا غليظة فيها ممسك في الوسط، وعندما يبقى بعض اللحم الرديء والعظم والشحم في قنارة العم يعقوب والذي قد لا يشتريه أحد ينادي: هيوا يا رجال الرديء بالرديء، والرديء المقصود به هو العرق فيبادل ما تبقى له من رديء اللحم بقنينة عرق محلي الصنع ليبدأ مشوار الشرب لديه منذ الظهيرة. وكان ثمة عدد من باعة اللحم، لا يذبحون بأنفسهم بل يشترون اللحم من القصاب ويتجولون به في أطباق على رؤوسهم في القرية أي كانوا باعة متجولين. كان جدي لأبي واحدا من هؤلاء، مزارعا فقيرا وبائعا للحم في الوقت نفسه، أنا لا أتذكره كذلك، لكن جدتي تقول إنه كان يحمل طبق اللحم على رأسه وفي إحدى يديه ميزان صغير.  سرعان ما ترك جدي هذه المهنة التي لم ينجح فيها وسببت له الكثير من المتاعب، لأنه، بحسب جدتي، كان يوزع لحمه مجانا على النساء الجميلات اللواتي يدخل بيوتهن، وكان ذلك سبب مشاجراتهما باستمرار. وكان العم كوركيس نني وهو من أبناء عمومة جدي أيضا يحمل طبق اللحم على رأسه متجولا في أزقة القرية وعلى ما يبدو كان بائعا ناجحا. أما العم قاقوزا ابن عم جدي اللح كان أيضا بائعا متجولا للحم ولا أتصور أنه نجح في تجارته لأني أتذكره في شيخوخته فقيرا معدما.
كان عجوزا وحيدا فقد زوجته منذ زمن يعيش مع ابنته الأرملة التي تعتني به.. وكان للعم قاقوزا الأصلع، الضعيف، الصغير الحجم، بدلة واحدة بقطعتين من الملابس لا غير. وربما لم يعرف ما هو الحمام منذ زمن مثل الكثير من أمثاله في ذلك الوقت. لكن كلما انتهت ابنته من صناعة الخبز في التنور أراه ينزع بدلته ويبقى عاريا منكمشا على نفسه أمام التنور إلى أن تنتهي ابنته من نفض ملابسه في التنور حيث كان القمل يقع منها ويحترق بصوت مسموع.
أما أخوه العم أدو(يلدا) النجار الذي بيته ملاصق لبيت جدي. كنت أراه يصنع بعض الأدوات الزراعية البسيطة كالمحراث والمذراة والفؤوس والشخرا( لنقل الحصيد من الحقل إلى البيدر) وبعض التخوت وغيرها ربما كانت حاله أحسن من حال أخيه. وكانت زوجة العم أدو وجدتي على خلاف دائم وكثيرا ما تنشب بينهما معارك كلامية من الوزن الثقيل.
ولأن إمكانيات شراء اللحم كانت محدودة استغل بيت خال والدي وجود عجل صغير أجهضته بقرتهم، بحسب اعتقادهم، ليتهنوا في ذلك اليوم بأكل اللحم. في الحقيقة كان لهم حمارة وبقرة حاملين، وكلاهما على وشك الولادة. وذات صباح استفاقوا ورأوا حيوانا حديث الولادة على وشك الموت في الإسطبل، ولما كانت الدنيا تمطر والبرد ينخر في العظام والإسطبل يلفه الظلام تصوروا أن البقرة هي التي أجهضت، فأسرعوا إلى ذبح الحيوان قبل أن ينفق، وسلخه بسرعة، ووضعه في مرجل كبير ليطبخ على النار. ظلت النار تشتعل طويلا تحت القدر إلى أن طبخ اللحم فأكلوه وكأنهم في يوم عرس، لأن الفلاحين الفقراء نادرا ما كانوا يأكلون اللحم في ذلك الوقت. مثلا كانوا يأكلون الدجاجة في حالتين أما أن تكون الدجاجة مريضة أو أن يكونوا هم مرضى ليشفوا. لكن المفاجأة كانت في اليوم الثاني عندما وجدوا في الإسطبل عجلا صغيرا ولدته أمه للتو. فأيقنوا أنهم أكلوا أتانا البارحة! كنا كلما نتذكر هذه الحادثة نقول لجدتي كيف كان طعم الأتان الذي أكلتيه فكانت تتهرب من الجواب وتقول: في ذلك اليوم كنت زعلانة ولم أنم في البيت!
ولم يكن العم يعقوب نعمتو من مشاهير محتسي العرق الوحيد، بل كان يشاركه في هذه الشهرة العديد من الرجال، أمثال بتي ششا وكربيت و... ومعظم الرجال كانوا يحتسون العرق أيضا ولهذا كانت صناعة العرق مهنة مشهورة وشائعة في عنكاوا يمارسها العشرات من العائلات بعضها تتفنن في صناعته وتطيبه وتقطيره عدة مرات.  
 هذا العرق القجغ كان يصدر بالأساس ليباع في أوكار عدة بأربيل التي كان فيها فضلا عن ذلك خمسة متاجر لبيع العرق المرخص يديرها عنكاويون، ولا يكفيها كل هذا، بل كان الاربيليون أنفسهم يأتون دائما إلى عنكاوا لشراء العرق وأحيانا للشرب في البساتين القريبة من القرية. ومن أشهر هؤلاء كورا وموسى ومطلب ومجكو، ( وكان هذا الأخير مطربا معروفا في أربيل) يأتون من أربيل بالباص عصرا حاملين معهم بعض الخيار والطماطم والطرشي والثلج ويشترون قنينة من العرق القجغ وينصبون مائدتهم في ظل قبرانا (كوخ بستان) العم ويردينا فيشربون ويغنون بالكردية والتركمانية، وقبل أن يغادروا في معظم المرات يتشاجرون فيما بينهم ويترنحون يمينا وشمالا وهم ذاهبون إلى موقف الباص مساء، وكنا، نحن الصغار، نجدها فرصة لنركض وراءهم صائحين موسى أو كورا فيلتفتوا إلينا وهم بالكاد يسندون أنفسهم وأحيانا يقعون على الارض ولا يقدرون على النهوض فيأتي بعض الرجال لمساعدتهم وإيصالهم إلى موقف الباص. ويتكرر هذا المشهد معظم أيام الربيع والصيف.    
وكان يأتي إلى ساحة الدركة راقصون على الحبال أو مرقصو القردة فيجتمع الأطفال والرجال حولهم وتخرج النساء أمام البيوت ليراوا ما يشبه الأعاجيب رجلا يسير على حبل أو يتسلق حبلا مربوطا من سقف أو رجلا يرقص قردا ويعطيه موزة بين حين وآخر. وأخيرا يمر مهرج بالرجال والأطفال ليدفعوا له مقابل هذه الفرجة اللطيفة.  
ولأنها اكبر ساحة في القرية فكانت معظم الأعراس تمر بها فيقف المحتفلون بها لتعقد حلقات الدبكة على أنغام الطبل والمزمار أو الأغاني الشعبية. ويخرج رواد المقهى للتفرج ويفد غيرهم من اماكن مختلفة ويتحلقون حول الراقصين وتخرج النساء حاملات أطفالهن يستمتعن بالخكا( دبكة الأعراس). فيرتفع الغبار من تحت اقدام الراقصين والراقصات وتتحول الساحة الى مهرجان حقيقي للفرح، بينما تكون العروس مجللة بوشاح راكبة حصانا يسندها من اليمين واليسار اثنان من أصدقاء العريس. وفي يوم عرسه في هذه الساحة طعن والدي رجلا بالخنجر فبات ليلته في السجن بدلا من أن ينام إلى جانب عروسه في السرير. يقول والدي إن هذا الشخص اختلف مع ابن خاله ورفع يده عليه ليضربه أثناء توقف مسيرة العرس في الساحة هذه وبينما كان هو قريبا منه فهب لنجدته وبالطبع كان يحمل خنجرا كأي عريس فاستله وضرب المعتدي فجرحه....
وجميع أهل الحي، بل وعنكاوا كلها، ينامون فوق السطوح في الصيف، وعادة ما كانت العديد من الأسطح متلاصقة فبإمكان المرء الانتقال من سطح إلى آخر بسهولة وأحيانا من محلة إلى أخرى. وهذا الأمر كان يحدث إحراجا شديدا لبعض العائلات من حيث خصوصيتهم وإسرارهم العائلية، أما المتزوجون الجدد والعائلات الشابة فتنصب الكلل فوق أسرتها حتى تحمي نفسها من الأنظار والبعوض، لكن مع ذلك كانت تحدث مواقف محرجة ومضحكة أو مشادات كلامية لأسباب مختلفة. وذات يوم ضرطت امرأة بدينة ضرطة مسموعة فوق سطح دارها فسمعها جارها الذي كان يحتسي كأس العرق فوق السطح فقال من مكانه: لينفجر بطنك الفاسد، وفي هذه الأثناء سمعه جار آخر ربما كان يقربها أو يرتبط مع عائلتها بعلاقة صداقة فنهره: ما لك تحكي على المرأة، هلا شممت رائحتك الكريهة، ثم كلمة من هذا وكلمة من ذاك حتى وتوتر الوضع وتحول إلى مشادة كلامية ثم تطورت إلى مسبات وشتائم وعركة بالأيدي والأرجل كاد أحدهما يقع من على السطح. تجمع أهل المحلة وبدأوا يسألون عما حدث وما هو سبب العراك، إلى أن عرفوا إنها ضرطة تلك العمة البدينة، وهكذا دخلت تلك الضرطة تاريخ القرية.  
وإلى ذلك كانت درگا مكانا مناسبا لألعاب شعبية كثيرة كنا نلعبها كالدعابل وهللكان والاختباء والقفز من فوق بعضنا البعض وغيرها  وعادة ما كانت تلك الألعاب تجري في الساحة المقابلة لذلك البيت الذي ولدت فيه
كان جزء من ذلك البيت الطيني القديم الواقع في مدخل زقاق خلفي ضيق، مؤجرا من قبل عائلتي قبل أن نشيد بيتنا الجديد، وفيه ولدت، كما كانت تقول لي أمي.
بعد أن اهتديت إلى مكان ولادتي كلما مررت بذلك البيت أقول في نفسي، وأحيانا لأصدقائي، هنا ولدت. وأكثر ما كان يحز في نفسي، بعد أن وعيت، وكبرت، ودخلت المدرسة، هو أنني لم أدخل ذلك البيت أبدا لكي أراه من الداخل، وأتطلع إلى الغرفة التي فتحت فيها عيني على الحياة للمرة الأولى.
وكنت أحيانا أبذل قصارى جهدي لأستعيد بعض ملامح ذلك البيت من الداخل فلا أتوفق، وتخونني الذاكرة، ربما لأنني كنت صغيرا جدا عندما ترك أهلي ذلك البيت إلى بيت جدي حين شيدوا بيتنا الجديد.
وظل ذلك الألم أو الحلم يراودني، وبتّ على ثقة تامة من أنني ذات يوم سأقتحم ذلك البيت وأتفرج على الغرفة التي ولدت فيها، ولهذا عندما نمي إلي أن ذلك البيت سيهدم انتابني القلق والحزن عليه أكثر مما على بيتنا الجديد.
وكنا نحن الصغار، في تلك الأيام، نتفرج بلهفة على الجرافات وهي تهدم البيوت وتثير غبارا كثيفا وضجة عالية مذهولين من قوتها وضخامتها وشطارة سائقها، بينما الناس، ولاسيما أصحاب تلك البيوت يبكون على بيوتهم ويتأسفون على ما بنوه بمشقة وعناء وجهد، وعلى مدى سنوات طويلة، فيرونه يُهدم بسهولة ويتحول إلى ركام في ساعات معدودة.
في اليوم الذي أقدمت فيه الجرافات على هدم ذلك البيت. هُرِعت منذ الصباح لأتفرج بقلب يقطر أسىً وألماُ على محو مكان ولادتي من الوجود، تلك الغرفة التي رأيت فيها النور لأول مرة. عندما بدأت الجرافة تهدم الحيطان الخارجية للبيت ومن ثم بعض الملحقات الصغيرة تسمرت في مكاني ووقفت متمالكا نفسي بعض الشيء، لكن ما أن رفعت الجرافة " بوزها" نحو تلك الغرفة المستقلة في الحوش والتي ولدت فيها، تفطر قلبي وارتعش جسدي فجأة وتفجرت دموعي، ثم لم أتمالك من ضبط نفسي فعلا صوت بكائي، فهرعت إلى البيت وأنا أصرخ.
سألت والدتي منفعلة: ماذا حدث؟
قلت وأنا أشهق بالبكاء:
-   بيت العم عيسونة!
قالت بسرعة لتستكشف الخبر:
-   ماذا به؟
قلت:
-   هدموه.
فسألتني معاتبة:
-   ولماذا تبكى أنت؟
أجيت وأنا أكفكف دموعي:
-   أليس هو البيت الذي ولدت فيه؟
فأكلتها صفعة على وجهي.
-   يا ابن الحرام، هدموا بيتنا الذي وفرنا فيه تعب العمر كله ولم تبك، فتبكي على بيوت الآخرين. وخاصة ذلك البيت الذي كان كلما سقطت قطرتين من المطر، نزلت واحدة منها إلى داخله؟ أتدري كم عانينا في ذلك البيت؟ وكيف كان صاحبه يطالبنا بالإيجار كل يوم إن لم ندفع بالموعد المحدد؟
بعد ساعات قادني الحنين مرة أخرى إلى ذلك البيت، فرأيته مهدما بكامله. وظلت رؤية الغرفة التي ولدت فيها حسرة في قلبي تنخسنى كلما تذكرت تاريخ ميلادي.




 

غير متصل hanna hanna

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 3118
  • الجنس: ذكر
  • حنا و نجاة
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: دَرْكـا
« رد #1 في: 16:09 14/07/2012 »
          الاخ العزيز  سعدي

      حين  قراءتي للقصة  عن محلة الدركا في قريتنا عنكاوة الحبيبة والتي كتبت عنها
      ارتعشت اجزاء من جسمي... وتذكرت الاشياء الجميلة في القرية من حيث
     كانت عنكاوة تحتوي على المحلات منها الدركا  وسياوش ومحلة عجمايا
     ومحلة العسكراني ومحلة نباتي والزقاري واخرى لا اتذكرها.... كل العادات التي ذكرتها
    كانت لكل محله نفس الطبائع ونفس العادات من حيث الشايخانات  كانت موجودة في محلتنا شايخانتين - او المقهى  - كانت شايخانة المرحوم  يوسف دحو الحسيني والتي كان يؤجرها الى اشخاص كانت من اكبر الشايخانات في عنكاوة وذات حديقة وبمساحة كبيرة  
 وتمر من جانبها ساقية عنكاوة . وكنا صغارا نصيد العصافير بواسطة الجطل -قشته - ونصوبهاعلى العصافير الواقفة على الاشجار العالية  وعندما تقع الاحجار الصغيرة على بيت المرحوم العم  يوسف والملاصق للشايخانة كان يخرج المرحوم يركض ورائنا وكنا نخاف منه كثيرا من حيث
هيبته وذات شخصية محترمة..والشايخانة  الثانية  في محلتنا كانت للعم المرحوم هرمز  وكانت كبيرةمع حديقة واسعة  والساقية تمر من جانبها وكانت مجاورة لشايخانة العم يوسف.والشايخانة  الرابعة كانت في محلة الزقاري وايظا كبيرة وذات حديقة واسعة والى جانبها تجري الساقية
كان يقدم في كلها الشاي والماستاو اي اللبن مخلوطا مع الماء وبطل السيفون وكانت لكل شايخانة راديوكبير ذات باتري كبير و يرسل الباتري الى اربيل  لشحنه بواسطة ابو العربانة يجرهاالحصان ينقل الثلج الى عنكاوة   ..ومن العادات الاخرى في  الليالي الصيفية كان الناس ينامون فوق السطوح في بعض الليالي كنا نسمع الصياحات من المرحوم  المضمد توما شبو  والمرحوم بولص عتو  والسيد سلمان ويردينا الحسيني واخرون واحد بهذه المحلة والثاني والثالث من محلات اخرى ينادون بصوت عالي تسمعهم كل عنكاوة ينادون   .... هو .. هو... مدير  والثاني يصيح هو.. هو  دختور  والثالث يصيح هو..  هو اوسا  وتبدأ الصياحات ومن صوب كل محلة..
والعم المرحوم اوسا هو رجل كبير من يسمع  على الصياحات واسمه كانت تقوم القيامة يسب ويشتم بشتائم كبيرة وبصوت عالي وكنا في تلك الليلة متذوقين للصياحات ونسمع ضحكات الناس فوق السطوح..... واما عن الحفرة الكبيرة والتي  ذكرتها وينقل التراب منها لعمل اللبنات والطوب والان هي حديقة عامة كانت ملك لنا وكانت المرحومة والدتي  لهايوميا معارك مع الناس الذين يحفرون لاخذ التراب كل يوم كانت الحفرة تكبر
    كانت الحفرة بمساحة صغيرة واصبحت بمساحة حوالي الف متر مربع والعمق حوالي عشرة امتار
 ..اما الشارع المار من منتصف عنكاوة شمل  دارنا واهدم الجزء الاكبر منه. واعطي لوالدي ثمنه 150 دينار... اما اهالي  عنكاوة  كانوا يمتهنون الزراعة وتربية الماشية.. واما الصناعة كانت صناعة الحصران و العرق المحلي وصناعة الفخار وصناعة السجاد اي زقارة مع تلوين الخيوط مع صناعة الالبان..واخرىكصيد العصافير وزراعة البطيخ والترعوز وتربية الدواجن والجزارة الى جانب المرحوم يعقوب نعمتو  كان يبيع اللحم المرحوم كوركيس المالح ونور الدين اربيلي  والجزارين المرحومان شمعون وبولص ايليا خوشب.
 ومن العادات الاخري في اعياد سيدتنا مريم العذراء كان لمن له الفرس يتسابقون كل بفرسه والى قبة المريمانة..واخرون من اهالي عنكاوة
يمشون على الاقدام  الى القبةويقدمون الصلوات..واما في حالة عدم مجيئ المطر  كانوا يزورون المريمانة لتقديم الصلوات ...وفي سنوات تأخر الامطار يقوم احد الاشخاص من الاهالي بلبس بعض الملابس الرثة ويصبغون وجهه بالسخام الاسود ويعلقون في اسفله حزامه الاجراس وتدهن ملابسه حتى  لا تتبلل من سكب الماء عليه وهو نصف عار
 وبيده الجاكوج الخشبي كنا نسميه الكلاكوسا .. كان يركض ويضرب الابواب والناس كانت تخافه والاطفال تركض باكية وكما النساء كانت منه
خائفه  ..وكما يقومون الناس بصب سطول الماء على رأسه وهو يصيح.. هياران وهياران يا خوا بنيري باران.. كلمات كردية المعنى يا الله ارسل لنا المطر....وكان يعطى الكلاكوسا المال ....... وهنا تذكرت عن تأسيس جمعية في محلتنا ونحن اولاد المتوسطة: - اي قبل
 ثورة الرابع عشر من تموز عام1958 كونت محلتنا جمعية..ونحن صغار السن كان المسؤول على الجمعية السيد كوركيس عيسى
 ونائبه على ما افتكر السيد جبار دنحا وعضوية السيد انطوان بهنام وعضوية  السيد سيدا هرمز وكانت لنا جريدة اسبوعية يكتبها وبخط  ورسم الصور الخطاط والرسام السيد سيدا هرمز وكان تباع علينا باربعة فلس...ونحن لا نعرف عن السياسة شيئا...
 وكل اسبوع في الصيف تجري الاجتماعات خارج عنكاوة في المزارع وبيد الاخ كوركيس عيسى دفتر فيه الاسماءويتكلمون عن الاعضاء اي علينا فلان سوى هيجي والثاني سوى هيجي لازم نزعل معه ونطرده اي لا يمكن لاحد من التكلم معه... وقائلين عليكم المجئ باجر لترميم مرسنيقا ومن لا يتجاوب كان مصيره الطرد وعدم اللعب  و التكلم معه ويبقى المطرود لوحده لا يتكلم او يلعب معه احد في المحلة... هذه كانت العقوبة....ولا نعرف اذا الحكومة عرفت بنا ذلك الوقت ماذا كان مصيرنا ..لاننا صغار وكلنا كنا  حوالي في المتوسطة..وكذلك كانت جمعيتنا تقيم سنويا الالعاب الساحة والميدان في منطقة بسته يخطط المكان بالجص والاحجار ويقام ثاني يوم العاب الساحة والميدان..وثاني يوم تصدر جريدتنا باسماء الفائزين وبعض الصور الكاريكاتير للفائزين كانت تباع علينا..... ومن عادات اهل عنكاوة كل احد يقوم اهل المواشي بتقسيم منتوج لبنهم الى الفقراء فلا يبيعونه ..  . وكما كان الفلاحون يوزعون بعض منتوج الحنطة الى الفقراء وكما الكنيسة كانت تزرع اراضيها وتوزع المنتوج على الفقراء
في حياتي لم اجد فقير واحد من اهالي عنكاوة جالس امام الكنيسة ويطلب المساعدة رغم فقرهم لان اهالي عنكاوة كانوا كرماء لا يتقبلون بذلك
------------------------------------------------------------------------------------------------------------
فورا يقومون ويسعفون ذلك الفقير اما من اموالهم او من اموال الكنيسة... ومن عادات الكنيسة   كانت في كل عيد  يجري المزايدة على من يشتري الصليب ويبقى الصليب لدى المشتري طيلة ذلك الفصل مما يزيد دخل الكنيسة لمساعدة الفقراء...واما العادات الاخرى كان لكل شخص عيد وحسب الاسماء مثلا حنا عيد مار يوحنان ويوسف عيد مار يوسف وكذلك بطرس وبولص ومتي ولوقا واخرون وكل عيد ياتون اصدقاء واقارب الذي عيده ويعيدونه   في البيت وياخذون بيك من العرق وكذلك يعيدونه في الخارج .. والان بدلته الكنيسة  الى دوخرانة... واما العادات في الزواج ليلة الدخلة يقومون اصدقاء العريس باخذ العريس الى مكان خارج القرية ليعلمونه على ليلة الدخلة ...في احدى المرات انا وصديق تتبعنا العريس واصدقاءه قريب من ارزلتا اسم للمنطقة لمجرى ساقية عنكاوة  ونمنافي منطقة منخفظة حيث سمعنا من هؤلاء قائلين للعريس اسحب عليها  الخنجر قبل .......ومن العادات انك ذكرتها في تقريرك السابق حول الكاريزه الحلوة والتي كنا نحن طلاب مدارس الابتدائية كانت المدرسة تاخذنا الى عين الماء المفتح سفرة مدرسية التلاميذ والمعلمين وكثير من العادات على الكاريزة ذكرتها سابقا...ومن عادات تلاميذ المدارس خارج المدرسة من نرى وخاصة  المعلم مقبلا نترك اللعب ونجري من امامه وخائفين...وكما كنا عند اقبال القس نهرب له لنقبل يده..واما النساء فيدخلون الدار  عند مرور القس وخاصة المرحوم القس بولص عجماية لان هذا القس يضرب النساء الجالسات امام دورهن بالكوبال - جوكانا -والتي يحملها على الدوام ... ادخله الله جناته .... ومن عادات اهلنا الكرماء في عنكاوة يوميا تنقل كل عائلة الطعام المطبوخ في بيتهم الى الجيران
او الاقرباء والاخرين وبالعكس  عادات حلوة...وفي الاعياد يذبحون اصحاب المواشي ماشية ويزوعون لحمها على الفقراء....
وكثيرة هي العادات ولم نتذكرها عن اهالي الحبيبة عنكاوة ..
 وشكرا للدكتور سعدي المالح  عن ذكرياته الحلوة عن عنكاوة...والى ذكريات اخرى تتذكرها........
وان الذكريات التي ذكرتها الان هي للاسف غير متناسقة ارجوا المعذرة ...  




                                        حنا يوسف حنا

غير متصل NabeelDamman

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 228
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: دَرْگـا
« رد #2 في: 21:59 14/07/2012 »
ذكريات قديمة مثيرة بقلم الجميل سعدي المالح.
اشد على يدك والى المزيد.
نبيل يونس دمان

غير متصل Ghazi Hanna

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 2842
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: دَرْگـا
« رد #3 في: 16:33 15/07/2012 »
شكرا للاخ الدكتور سعدي المالح  عن ذكرياته الحلوة عن عنكاوا العزيزة على قلوبنا،والى ذكريات اخرى .....

اخوك / غازي حنا

غير متصل Sound of Soul

  • الاداري الذهبي
  • عضو مميز متقدم
  • *******
  • مشاركة: 13100
  • الجنس: أنثى
  • اردت العيش كما تريد نفسي فعاشت نفسي كما يريد زماني
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • http://www.ankawa.com/forum/index.php/board,53.0.html
رد: دَرْگـا
« رد #4 في: 20:10 15/07/2012 »

السيد سعدي المالح ...

سرد جميل لماضي عاشه الكثيرون من اهالينا
عدت بنا استاذنا العزيز الى ذكريات الطفولة حين كانت جدتي المرحومة تجسلنا وتروي لنا تلك الحكايا والمعاناة
التي عاشها اجدادنا منذ نزوحهم من اراضيهم ابان الابادة العثمانية للارمن والى تلك الحقبة من الزمن
وكانت تروي لنا كيف قام رموز ثورة تموز بعد سنوات من استلامهم للحكم في العراق بالاستيلاء
على الاراضي والثروات الحيوانية التي كان يملكها جدي المرحوم اذ كان كبير القرية
التي كانو يقطنون فيها وفيها كانت ولادتي ايضا الا اني كنت طفلة قد بدأت لتوها خطواتها الاولى في تعلم المشي حين هجَّروا
عائلتي وكل اهالي القرية من بيوتهم واستولت الدولة العراقية انذاك المتمثلة برموز نظام الثورة في السبعينات
على اراضي زراعية ذو مساحات كبيرة جدا تعود لعائلتي مع مصادرة كل قطعان الخرفان والابقار وبيوت النحل التي تعود الينا
وبالطبع لم يسلم من الامر كل اهالي قريتنا الصغيرة ....

صدقا اقول وكأن المعاناة قَدرُ علينا ورثناه ورثاً من اجدادنا جيلا بعد جيل .....
جميلة جدا تلك الذكريات  رغم كل شئ بألمها وفرحها تبقى حقبة جميلة من تاريخ حياتنا
اسعدت  حقاً بقراءة هذه المقالة الرائعة ..
تحياتي

اختكم الارمنية .

http://www.ankawa.org/vshare/view/10418/god-bless

ما دام هناك في السماء من يحميني ليس هنا في الارض من يكسرني
ربي لا ادري ما تحمله لي الايام لكن ثقتي بانك معي تكفيني
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,603190.0.html
ايميل ادارة منتدى الهجرةsound@ankawa.com

غير متصل Qasra

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 226
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: دَرْگـا
« رد #5 في: 00:36 17/07/2012 »
اروع الذكريات ,

هل هذه الذكريات مكتوبه في كتاب ؟ ما اسمه ؟

من المحزن ان تضيع  >:(

جزيل الشكر للكاتب وللمشاركين الذين اضافوا ذكراياتهم ايضا

غير متصل azizyousif

  • عضو مميز متقدم
  • *******
  • مشاركة: 5628
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: دَرْگـا
« رد #6 في: 02:05 21/07/2012 »



                 دركا ........
       
                 تسلم الايادي اخونا العزيز /  د سعدي المالح .......

                شكرا جزيلا للدكتور / سعدي المالح .....  على ذكرياته الجميلة عن بلدتنا العزيزة / عنكاوا الحبيبة
                تمنياتنا لكبالموفقية والنجاح .

                   عزيز بطرس يروكا /  النمسا

غير متصل delawer_k

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 85
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: دَرْگـا
« رد #7 في: 00:06 23/07/2012 »
تحياتي للأخ سعدي المالح
اهديك كلمات اغنيتي(يا طيرا) التي الفتها و لحنتها في ربيع 1996 ادعو فيها العودة الى الحبيبة عنكاوا

يا طيرا منطيلى شلامي لكوللو عنكوايي
مند بنى ماثي خليثا بأثرى نخرايي
من خزماني و نشواثي  
دوستي و خورواثي
مور طالو ها دئورن لبيثا
لعنكاون ئي خليثا

يا طيرا لازت شوقتتي بد بيشن لخودي
تخرونن بجداثد دركا لبا دكموقدي
من خزماني و نشواثي  
دوستي و خورواثي
مور طالو ها دئورن لبيثا
لعنكاون ئي خليثا

يا طيرا لازت شوقتتي منوخ بد ئازن
طروصتيلا يان أديو انا خلما دكخازن
من خزماني و نشواثي  
دوستي و خورواثي
مور طالو ها دئورن لبيثا
لعنكاون ئي خليثا





                                                                     دلاور مرقس

غير متصل Enhaa Yousuf

  • مشرف
  • عضو مميز
  • ***
  • مشاركة: 1748
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • http://www.enhaasefo.com/
رد: دَرْگـا
« رد #8 في: 13:56 28/07/2012 »

الكثير ينفض عن جبينه غبار الذاكرة

وها انت تلملم غبار (دركا) ... وبدمع العين تجبله

لتبني بيتا جميلا  من الامنيات والاحلام في قلوب القراء

 هنيئا لعنكاوا بك استاذ سعدي

انهاء