بعشيقة.. عناق روحي بين المساجد والكنائس والمعابد
المدى / نينوى/ يوسف المحمداوي.. تصوير/ محمود رؤوفمدينة تنعم بأهم ثروة يحتاج إليها العراقيون الآن، وهي التعايش السلمي، ووحدة الصف، وتغليب روح الانتماء للوطن على أية انتماءات أخرى، كانت السبب في المشاكل التي تعصف بالوطن بين الحين والآخر، بعشيقة لوحة فنية رسمتها ريشة عراقية خالصة،
لم يكن للمحاصصة المقيتة دخلٌ في زيت ألوانها أو قماشها أو إطارها، لذا تجدها فاتنة لعيون وقلوب الجميع، وحين تذهب لرؤيتها لا يمكن لأي شخص أن يضعك في خانة دينية أو قومية، بل سيضيفك حتماً إلى لوحة العراق المصغر الذي تمثله تلك المدينة، هذا العشق الممزوج بالألفة والحب الإنساني الخالي من جميع الشوائب الدخيلة على مجتمعنا لم يكن وليد اللحظة لكنه سلوك متوارث في قلوب أهل مدينة حباها الله بنعمة العشرة الممزوجة بالطيبة العراقية الخالصة.
ردٌّ صادم ومستحق
لي الحق أن أقول هذا وطني وهذا شعبي لأنه في أول دخولي للمدينة سألت صاحب أسواق للمواد الغذائية عن انتمائه الديني، وكان قصدي من السؤال هو لغرض دعم موضوعي والتحدث مع أكثر من جهة دينية، ولكن كان الرد قاسيا ومستحقا في نفس الوقت حين قال:" أنت من بغداد أليس كذلك؟ فقلت له نعم فأجابني: رجاءً لا تنقلوا لنا أمراضكم، فنحن هنا جميعا عراقيون أولاً ثم تأتي بعد ذلك معتقداتنا وقومياتنا، وهذا ما حفظ المدينة من نقمة التمزق والتفرقة"، لحظتها تمنيت أن يصغي معي أمراء الفتنة وبعض سياسيي الفرقة والتشتت من اجل تنفيذ رغبات هذه الدولة أو تلك.
المدينة ناحية تابعة لقضاء الموصل وتقع ضمن حدود سهل نينوى، وتبعد عن مركز المحافظة بحدود النصف ساعة في السيارة، وفيها عدة قرى عربية وكردية وتركمانية ومسلمة كالشبك وغيرهم ومسيحية وايزيدية، الناظر من بعيد يرى الكنيسة بقرب المسجد وكذلك المعابد الايزيدية، وفيها كذلك مقام للإمام الرضا المدفون في إيران حيث يقع المقام في قرية يسكنها الشبك، ومعظم سكنة بعشيقة يتكلمون اللغة العربية، بالإضافة إلى الكردية والسريانية والتركمانية.
الزيتون وصناعة الصابون
تشتهر بعشيقة بزراعة الزيتون وصناعة الصابون والراشي ولها معامل أهلية لصناعة المناشف، واشتهرت بعشيقة أيضا بصناعة المشروبات الروحية كالعرق والنبيذ، ويعد عرقها من ارقي أنواع الخمور، وكنا أيام الشباب نواظب على احتسائه حتى داخل المعسكرات لكن بعد نهاية الواجب بالتأكيد، وكان لنا صديق ايزيدي يجلب لنا العرق في جلكان صغير سعة 5 لترات، نقوم بإخفائه خارج أسوار المعسكر في حفرة خاصة، وفي الليل نتسلل إليها كاللصوص خوفا من الضباط لننعم براحة ونشوة لا تستغرق سوى سويعات ومقبلات الجلسة بالتأكيد لبن وأحيانا الكرزات التي تشتهر بها الموصل، وفي تلك الأيام كتبت العديد من قصائد الغزل ومنها قصيدتي (الاطلال) في الشعر الملمع والذي هو خليط ما بين الشعر الفصيح والشعبي، وذكرت فيها عرق بعشيقة حين قلت "يا فؤادي لا تسل أين الهوى/ عشك كلبي طالبة من نينوى/ اسقني واشرب على اطلاله/ عرق بعشيقه الجرح كلبي دوا"، ولكن ذهب الآن كل شيء... العمر وكذلك الخمر.
وصلنا المدينة صباحا أنا وزميلي محمود ومعنا الزميل الإعلامي خالد الموصلي الذي اتصل بزميل إعلامي أيضا اسمه حكيم وهو من الشبك، مدينة تجد فيها الكنيسة تعانق المسجد والمعبد الايزيدي يغازل المقام الشيعي ما أجمل الحب والتقديس ورؤية تطبيق القول لكم دينكم ولي ديني، وللذين فاتهم التعرف على مكون الشبك الذي يبلغ تعداده حسب إحصاء 1977 ثمانون ألفاً، وبالتأكيد تضاعف الآن هذا العدد ، هناك الكثير من الآراء بشأن الشبك وأصلهم ولغتهم وديانتهم وأعدادهم، لكن الذي يتفق عليه الجميع هو أن الشبك هم عراقيون يعيشون ضمن محافظة الموصل منذ مئات السنين، فتذكر الموسوعة الحرة الشبك بأنهم جماعة قومية في العراق تدين بالدين الإسلامي منهم على المذهب الشيعي والبقية يتبعون للمذهب السني.
لا وجودَ للقبيلة
وجود الزميل حكيم ساعدنا كثيرا في الوصول إلى احد رجال الدين الايزيديين الذي حضر ساعة الاتصال به إلى مقام الشيخ محمد وهو من شيوخ الديانة الايزيدية، وجدنا عند الباب العديد من الشباب وخشيت أن اسألهم عن ديانتهم خشية أن يتكرر الرد الصادم الذي تلقيته في بداية دخولي إلى بعشيقة. احد الشباب يقول إن المقام تعقد فيه مناسبات العزاء كالمآتم وتتم فيه داخل هذه القاعة الكبيرة حل مشاكل الطائفة والاجتماعات الدينية، كما يقول الشاب كرم الياس سليم، ويؤكد لا وجود للعشائر داخل طائفتهم فهم مكون واحد يترأسهم أمير الطائفة، وعن التعايش بينهم وبين المسلمين والمسيحيين يؤكد سليم : أن جميع أهل بعشيقة هم إخوة ويتعايشون وفق مبدأ احترام طقوس واعتقادات الجميع، فهم يحضرون أفراحنا وأحزاننا وكذلك نحن، مضيفا انه في شهر رمضان يقوم المسلمون مثلا بإعطاء فطرة العيد للفقراء من أهل المنطقة سواء كان الفقير يزيديا او مسلما او مسيحيا، وهذا ما يبين لكم حجم التآلف والمودة التي تعيشها العوائل في بعشيقة.
وبينما سليم يتحدث تمنيت وما أكثر أمانينا المقبورة أن ندخل الساسة الطائفيين دورات معايشة في بعشيقة، ليشعروا بقيمة الإنسان العراقي حين يراهن على عراقيته أولا ومن ثم قوميته أو دينه أو طائفته، أتمنى أن يخلّد نصب تذكاري هناك اسمه الوطن، وتزوره جميع مكونات الشعب ليدركوا السعادة الكبيرة والفرح الأعظم في حب الوطن، أتمنى ولكن قاطعني الزميل حكيم قائلا: انه في عام 2007 قام بعض الإرهابيين في الموصل باعتراض باص يحمل 24 مواطنا ايزيديا في طريقهم لمعمل النسيج الذي يعملون فيه، وقاموا بقتلهم جميعا وكان الحدث صاعقا لنا جميعا ومأساويا، ولكون القتلة هم من مدعي الإسلام وحرصا على ألا تكون ردة فعل على المسلمين ومساجدهم قام شيوخ ووجهاء الايزيديين بحراسة مساجد ومقامات المسلمين بأنفسهم، وحذروا جميع الإخوة الايزيديين من الانجراف وراء الفتن والمؤامرات.
القوّال والزي العربي
وصل القوال علي رشو حسن إلى المزار بعد منتصف النهار تقريبا، مرتديا الزي الذي يرتديه رجال الدين الايزيديين، وهو لا يختلف بالمرة عن الزي العربي، حيث الدشداشة والعقال والغترة البيضاء وعباءة رجالية صيفية، وجلسنا سوية على بساط داخل المزار، وكان في قمة التواضع وغمرنا باستقباله الرائع ليقول للمدى: ان القوال هو عنوانه الوظيفي الديني وهو مقابل لكلمة الخطيب او شيخ الجامع عند المسلمين، والذي يقوم بإحياء الطقوس والعبادات من خلال الآلات الموسيقية، شأننا شأن الأديان الأخرى، فالمسلمون مثلا لهم أدواتهم، فالدراويش يستخدمون الدفوف، والشيعة يستخدمون الطبل والزناجيل في بعض المناسبات، والمسيحيون يستخدمون الأجراس وهكذا، فنحن نستخدم الدفوف والشبابة وهي آلة تشبه الناي وهي مقدسة بالنسبة لنا.
الديانة كما يبين القوال علي قديمة جدا ويعود تاريخها إلى العهد الاكدي والسومري، فالتاريخ بدأت كتابته من سومر، وأبناء هذه الديانة هم جزء من حضارة العراقيين، وكانت تسمى تلك الأديان بالطبيعية لكونها تقدس الماء والصخور والهواء والكواكب وغيرها، وكان باعتقاد الأديان الطبيعية أن تلك المقدسات هي من توصلها إلى الخالق، وللأسف تاريخ ديانتنا فقدت منه العديد من الحلقات، وهذا الفقدان جعل منها في وضع مهزوز، لذلك نحن في بعض الأسئلة قد نُحرج لعدم توفر الإجابة الدقيقة، وما يثبت قدم ديانتنا هو الأعياد والطقوس التي نمارسها، فمثلا عندنا عيد رأس السنة الذي يقام في 14 نيسان شرقي، وهو يتزامن مع 1 أو 2 ميلادي في نيسان ونحن لدينا تقويم شرقي والاختلاف مع الميلادي تقريبا 13 يوماً، وهذا العيد كان يحتفل به البابليون.
لا زواجَ في نيسان
وفي هذا الشهر نرفض حسب معتقداتنا النبش في الأرض لأننا نعتبرها في هذا الشهر حامل، لكون النبش في الأرض هو قتل للنبات قبل النضوج والتكاثر ، والجميع يعرف بأنه في نيسان يبدأ النمو، وفي هذا الشهر نرفض الزواج ايضا، والايزيدية لا تقر بوجود الهين كما تؤمن الزرادشتية بوجود إله للخير وآخر للشر، وإنما تؤمن بالله الواحد، فنحن نقول أن الخير من الله والشر من الإنسان.
قلت له وهذا ما يجعل البعض يتهمونكم بعبدة الشيطان لأنك الآن لا تقر بان الشر من الشيطان؟ يبين الشيخ أن ديانتنا ابتلت بأمور لا تخصها وليست من صلب عبادتها، فهناك من يتهمنا بعبدة إبليس وهذا شيء خطأ وكبير ونحن في حيرة وذهول إزاء هذا الاتهام، لان هناك أمورا فيها الإنسان مسير وليس مخيراً، مثل سنوات العمر، طول الإنسان وبشرته وهناك أمور مخير فيها إما يسلك درب الخير أو الشر، وهو من له القدرة على تحديد الاختيار.
عبادة إبليس تهمة
نحن في ديانتنا لا وجود لكلمة إبليس أو الشيطان لان ديننا يقول إن الشر هو في أي إنسان موجود، وهناك من يستطيع ردعه وآخر قد لا يستطيع، فهذه تهمة ألصقت بنا ونحن منها براء، وهناك من الناس البسطاء حين يذكر أمامهم اسم إبليس أو الشيطان ينزعجون، لكونهم يعتبرون ذلك تهمة لهم على ذنب لم يقترفوه أصلا، ولكن البعض يفسر ذلك الانزعاج هو محبة بالشيطان أو إبليس، كيف نحب شيئاً لم يذكر أو نعرفه بديننا، وهذه التهمة ألصقت بنا عام 1540، وبالتحديد من قبل العثمانيين من اجل تبرير قتل أبناء هذه الديانة، فوضعونا تحت طائلة الكفر وعليه يجب قتلهم واستباحة أراضيهم وأموالهم، وللأسف بعض السذج من الايزيديين صدقوا تلك التهمة وجعلوها كحقيقة، على الرغم من محاولاتنا المستمرة لبث الوعي عندهم.
الديانة الايزيدية ديانة غير تبشيرية كما يقول الشيخ وإنما ديانة مغلقة لا تقبل الدخول ولا تسمح بالخروج، شأنها شأن الديانة اليهودية التي لا تسمح حتى لأولاد المرأة اليهودية إذا كان زوجها مسيحياً بدخول دينهم، ومفهوم ديانتنا أن هناك 7 ملائكة يديرون الكون، والمسؤول عليهم هو الله الذي نسميه نحن طاووس الملائكة.
وبشأن الكتاب الذي تعمل به الديانة الايزيدية يوضح القوال: إن دينهم يعمل وفق العلم الشفاهي أو ما يعرف بعلم الصدر، ولكونهم تعرضوا لاتهامات كثيرة فهم يحفظون تعاليمهم في صدورهم ويتوارثون تلك التعاليم، وكتبنا نتيجة لتلك الاتهامات تعرضت للتلف، وكل ما نحفظه كتبناه الآن وهو محفوظ، ونحن في مفهومنا نقول لا يوجد دين غير صالح وإنما هناك إنسان غير صالح، ونحن دين نؤمن بوحدانية الخالق منذ العهد السومري.
النبي إبراهيم الخليل
وعن نبيهم يبيّن أن النبي إبراهيم الخليل "عليه السلام" هو نبيهم الخاص، وكان لدينا 12 مصحفا نزلت على نبينا جميعها أحرقت نتيجة الهجمات علينا، فضاعت العديد من حلقات الدين، والآن نعتمد كليا على العلم الشفاهي، وهذا الأمر قابل للاجتهاد، ولكننا قمنا بتوثيقها خشية من ويلات الاجتهاد، وعن مرجعياتهم يقول لدينا المجلس الروحاني الذي يضم أمير الطائفة تحسين سعيد بك رئيس المجلس، البابا شيخ وهو كبير رجال الدين، والبيش أمام هو الرجل الذي يسير إمام الايزيدية بالمناسبات، وشيخ الوزير أي وزير الديوان، وكبير القوالين، وهناك لجنة استشارية مؤلفة من 40 عضواً واغلبهم كفاءات علمية وأساتذة.
ونحن - ونتيجة لما مررنا به من ويلات - لدينا عهد قديم وعهد جديد، وبعد مجيء الشيخ عدي بن مسافر الشامي إلى منطقة لالش ادخل بعض التعاليم الجديدة التي لم تكن في الدين أصلاً، ولالش مقدسة لنا مثل ما يقدس المسلمون الكعبة والمدينة والقدس، ومعبد لالش يقع في منطقة الشيخان، ويبلغ عدد الايزيديين في العراق كما يبين الشيخ 500 ألف نسمة، وبعشيقة وبحزاني هما موقع رجال الدين والقوالين ولكن الحج يكون في الشيخان، وفي الايزيدية رجل الدين بمنصب الفقير يرتدي نفس زي رجل الدين الشيعي عمامة سوداء وجبة سوداء أيضا.
عادات وتقاليد
وبالنسبة لامتناعهم عن تناول الخسّ واللهانة يبين بأنها من الخضار غير المرغوب فيها، لكونها تسقى بفضلات الإنسان، وهذا الأمر مكروه من قبلنا، وعن المحرمات في الزواج فكل ما محرم في الإسلام هو محرم لدينا، ويضاف له تحريم الزواج من زوجة الأخ، وتعدد الزوجات غير موجود لأننا نؤمن بأن الله حين خلق آدم لم يخلق له غير حواء واحدة، لكن لدينا في الشرع الدنيوي استثناءات خاصة في حالة العقم أو مرض الزوجة وهكذا، ولا يجوز زواج البنت قبل سن السادسة عشرة.
نحن في بعشيقة لو جئت لك بثلاث نساء؛ مسيحية ومسلمة وايزيدية، لا يمكن أن تميز بينهن في الملبس أو الشكل، نحن عراقيون وأبداً لم يحصل في بعشيقة أية فتنة بين العرب والكرد والتركمان ولا بين السنة والشيعة أو بين الايزيدي او المسيحي، ونحن في مآدب الإفطار في رمضان نجتمع سوية ونحضر مع الشيعة في العاشر من محرم وأربعينية الحسين ويقول للأسف البعض يعتقد بان الايزيدية لهم يد في قتل الإمام الحسين، علما أن نسبهم يعود ليافث بن نوح الذي كان يسمى يزيد، وايزيدية باللغة الآرامية تعني شعب الله فاتهامنا بهذا الأمر مخالفة للواقع.
نظرت إلى هذا الرجل بل لذلك الدين المبتلى بالتهميش والاتهامات على الرغم من قدمه ونبل تعاليمه فقلت ما قاله المتنبي: "ملء السنابل تنحني بتواضع... والفارغات رؤوسهن شوامخ".
والى حكاية أخرى من هذا وطني
