المحرر موضوع: إلتقيت شخصا نرجسيا  (زيارة 947 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
إلتقيت شخصا نرجسيا
« في: 17:08 26/06/2013 »
إلتقيت شخصا نرجسيا

شمعون كوسا

في احد الايام دعاني صديق لحضور حفلة غنائية يقيمها احد معارفه الذين امتهنوا الطرب حديثا . قبلتُ الدعوة بعد ان استفاض صديقي بالحديث عن المطرب ، وعن شخصيته وامكانياته الفنية . في قاعة الاحتفال ، كنت الاقرب الى المسرح على مقعد في الصف الاول . عند افتتاح السهرة ، تقدم الفنان المنتظر نحو المسرح بخطى واثقة وحيّا جمهوره بنصف انحناءة . كان المطرب شابا انيقا وحسن الوجه ، وهذه المقومات لوحدها كافية في ايامنا لترفع المطرب عالياً  !!  بدأ اغنيته الاولى ، فانطلق الجمهور في تصفيق حادّ وطويل ، ولدى كل توقف بسيط ، بما فيه ثواني عملية الشهيق ، كان يتجدد التصفيق وبنفس الحرارة . انا بدوري كنت اصفق  ولكن ليس بحماس الحاضرين الذين كانوا قد اعتادوا على هذه الحركات ، او لربما تلقائيتهم كانت تدفعهم لذلك . عند نهاية الحفلة التي استغرقت زهاء الساعتين ، وقف الجمهور منتشيا يعبّر بشتى الطرق عن اعجابه وامتنانه وسعادته ، فكان الصفير يأتي ممزوجا بالتصفيق والصراخ وحتى البكاء .
خرجنا من القاعة وامسك صديقي بيدي لكي أنال شرف التعرف على المطرب الذي كان في الكواليس . لدى مصافحتي اياه ، واجهني بوجه جامد يخفي الكثير من الغضب. اتاني بكلام مباشر وقال : كنتُ الاحظك منذ البداية ، ورأيت بانني لم اثر اعجابك كثيرا في هذه الحفلة . لَم ألحظكَ تشارك الناس تصفيقهم الحار ،  ولم ألمحْ على وجهك الفرح الذي كان يغمر الاخرين . لقد استغربت من تصرفك كثيرا . ألم تأتِ هنا لكي تراني ، هل نظرت إليّ مليّاً ؟ هل وجدت فيّ نقصا ، هل اكتشفت في وجهي عيبا ؟ هل إلتقيتَ في حياتك  شخصا ارشق قامة واجمل وجها واعذب صوتا منّي ؟ لم يصادفني يوما شخص  بهذه البرودة وعدم الاهتمام  . كان عليك الانقياد الى حماس الحاضرين والوثوق باعجابهم ، ان هؤلاء جميعهم يَحلِـمون بكلمة واحدة أخصّهم بها ، أو بسمة اطلقها في وجه احدهم . انهم يتمنون مصافحتي او إمكانية مجاملتي والحصول على توقيعي الذي يمثل لبعضهم سند امتلاك للسعادة .
بعد هذه المجاملة العنيفة ، انحنيتُ عميقا طالبا الغفران لخطيئة ، توقّعت ألاّ تمحوها انصح توبة واصدقها ، وتخيّلت نفسي ، في تلك اللحظة ، محكوما مسبّقاً بالعقاب الذي سأناله يوم القيامة !! انصرفتُ مكسور الفؤاد حقا ،غير اني في اعماقي احسست بشفقة على المطرب الغاضب . شرحتُ لصديقي ما لم اجرأ  توضيحَه للمطرب المتواضع ، وقلت له : أنا اتبنى مبدأً في الحياة يقضي بألّا افرط في الاعجاب باي شخص في الدنيا مهما كان .  انا لا أستميت في سبيل رؤية رئيس الجمهورية ، ولا اتحرّق شوقا للقاء وزير او مصافحة مطرب او مصاحبة ممثل . يجب الاقرار بان هناك مواهب وصفات حميدة وطبائع قوية  ومراتب عليا تسعد الناس وتبهرهم وتفيدهم ،  ولكنها لا يجب ان تقود اصحابها الى التكبّر والاستعلاء والغرور .
انا لست افضل من غيري ، ولكني لا ارى أحداً افضل مني  . أنا احترم المراتب وأُعجَبُ بالمواهب ، ولكني لا اذهب الى حدّ الشغف الجنوني او العبادة . واضفتُ ايضا : إن صاحبَك هذا شخص مغرور وعاشق لنفسه بشكل غير طبيعي  بحيث انه لا يحتمل غير المديح والتصفيق وكلمات الاعجاب . لقد ذكّرني بقصة تُروى عن اساطير الاغريق وآلهتهم . انها حكاية نارسيس الذي كان عاشق وجهه ومغرما بشخصه . لقد ذكّرني صاحبك بها وسأرويها لك ، ولكن حذارِ ان تنقلها له ،  لاني اكون حينذاك اصادق على قرار هلاكي .
تقول الاسطورة :  انجبت إحدى آلهات اليونان ، واسمها ليروبي ، طفلا اطلقت عليه اسم نارسيس .  كان المولود ذكراً ذا وجه جميل جدا يشعّ نورا .  رأه أحد العرافين ، ويدعى تريزياس ، وتنبّأ لوالدته قائلا : ان الطفل البهيّ هذا سيعيش طويلا شرط ألاّ يرى نفسه  ولا تقع انضاره على محياه الجميل . ترعرع نارسيس وازداد جماله ، وعندما شبّ الغلام بدأ الناس بخطب ودّه ، غير انه كان يعيد كافة محبّيه خائبين . ومن بين ضحاياه كانت الاِلهة المدعوة (ايكو) اي الصدى ، ويقال بان هذه ، بعد أن تجاهلها نارسيس ، اطلقت عليه ادعيتها ولعناتها .
كان نارسيس عديم العاطفة ولا يحسّ بمشاعر الاخرين  . حدث ذات مرة ، وهو في احدى جولاته ، أن أحسّ بعطش شديد . بعد ان قطع مسافة صغيرة ، وجد نفسه أمام عين ماء صافية جدا . انحنى نارسيس لشرب الماء ، وتوقف شبه مصعوق بما يرى ، لقد ابصر صورة شاب في غاية الجمال . ابصر نارسيس نفسه وغمرته سعادة لم يشعر بها قبل ذاك ، وتحول حبّ نفسه بلحظة الى غرام وعشق . كان هذا احساسا يشعر به لاول مرة ، حب عميق وعشق لا يقاوم . كان هذا الحبّ العارم موجها لصورته التي رآها في الماء  . المشهد الذي وفرته عين الماء لم يكن يبارح خياله . كان هيامه قد شغله تماما وحوّل ليله نهارا ونهاره ليلا . بدأ يبحث عن عشقه ، عن صورة مطابقة له في وجوه الناس وفي المياه . بقي طويلا يطوف البلاد ، بقي على هذه الحال كثيرا وعندما رأى بان ناره غير قابلة للانطفاء ، اصيب باليأس وقرر الانتحار . وتقول الرواية ، عندما غرز الرمح في صدره ، سقطت كمية من دمه على الارض ، فانبتت زهرة بيضاء جميلة ، حملت اسم النرجس ،  تيمّنا باسم نارسيس .
وللاسطورة هذه روايات اخرى تختلف قليلا ، واحداهن تفيد بان نارسيس كان يبحث عن نفسه في عيون الماء ، وفي احدى محاولاته ، يقال بانه انحنى كثيرا على عين ماء ليمسك بصورته ، فسقط في الماء ومات غرقا لان العين كانت عميقة ، وفي نفس الموضع الذي غرق فيه ، نبتت زهرة النرجس . وهذه الرواية تقول ايضا بان عاشقته الاِلهة (ايكو) عندما سمعت الخبر ، كانت تنوح عليه باكية ومرددة : واأسفاه ... واأسفاه .. واأسفاه ، بصدى يتكرر ويتكرر دون توقف.
لقد توفي نارسيس لانه لم يتوصل الى إشباع رغبته في العثور على صورته وجماله . لم يجد في الخلق صورة تشبهه او تستحقه . لقد مات ضحية الاعجاب الشديد بنفسه .
 باعتقادي أنا ، كان الشاب المطرب يحمل الكثير من صفات نارسيس ، ولهذا احببت ان اطلق عليه صفة النرجسي ، وأومل بان عدم اهتمامي به بما فيه الكفاية سوف لن يحدو به الى الانتحار !!
 الدنيا مليئة باشخاص يتمتعون بطلعة بهية ، بشابات رشيقات جميلات ، باناس شديدي البأس واصحاب بطولات ، بمطربين حباهم الله بارخم الاصوات وما الى ذلك من صفات تثير اعجاب الجميع ، ولكن الجمال والرشاقة والقوة والمواهب والصفات الحميدة الاخرى لا يجب ان يحصرها حاملها بشخصه فقط وكأنه هو الاجمل والارشق والاقوى والافضل ، هو وليس غيره ، صفات بمجملها موروثة اصلا ، تلد مع الانسان ولا فضل له فيها .
فالنرجسي ، يعتقد بانه الوحيد المحقّ  في كل شئ وبان الاخرين اغبياء او جهلة او قد يكونون حتى اولاد كـ ( ) . انه لا يحس بمشاعر الغير ، واذا اضطرّ لذلك فانه يتظاهر بذلك . ومن جهة اخرى ، وبعد ان يكون قد رأى بان الكثيرين من رفاقه يملّون منه بسرعة ، فانه يبحث دوما عن اصدقاء جدد  . ويقال بهذا الخصوص بان نيرون كان مثالا حيّا للشخص النرجسي وانه بالاضافة الى ذلك ، كان شخصا منحرفا .
النرجسسي يهتمّ بمظهره واناقته ،  واصعب امر لديه هو ان يتجاهله الاخرون ويمنعوا عنه المديح . كلامه يبدأ عادة بـِعبارات  : الا يعجبك وجهي ، الا تعجبك بدلتي ، كيف ترى مظهري ؟ ويقول ايضا : اريد هذا وارغب في ذاك ، واشتهي ، واشتاق . وفي السياق نفسه ، فانه لا يرتاح لمديح يكال لغيره  ويحاول بشتى الطرق تغيير الحديث ، واذا لم يفلح في ذلك ، فانه يبدأ بذمّ الشخص واهانته ولربما شتمه . وقسم آخر من النرجسيين تقودهم انانيتهم الى عدم الاكتفاء باحتكار السعادة لنفسهم ، ولكنهم يرغبون في التأكد بان جارهم يعيش بتعاسة .
النرجسي لا يستسمح احدا ولا يعتذر ، وشعاره هو  : يجب عليكم رؤية ما أراه انا . إن الأنا متأصلة فيه لانه مصاب بجنون العظمة. يعتبر نفسه محور الكون ، وبصورة عامة ،  من الصعب جدا تغيير تصرفات من ولد نرجسيا .
هناك الكثير مما يقال حول هذه الشخصية المعقدة ، لاسيما وان الكثيرمن الصفات المجاورة للانانية والغرور تتداخل فيها . بعد هذا الوصف ، قد نجد الكثرين ممن نعرفهم يندرجون بنسب متفاوتة في هذه القائمة ، لان المغرور والاناني والمتكبر كلهم ضيوف شرف على فندق النرجسية .

kossa_simon@hotmail.com