السريان واللغة السريانية[/b]
الدكتور اسعد صوما
متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم
(ستوكهولم)
[/b]
(ملاحظة: يتكون هذا المقال من جزئين صغيرين. الأول عن السريان واصلهم، والثاني عن اللغة السريانية. نبدأ اليوم بالحديث عن السريان، وفي المقال القادم سنتحدث عن اللغة السريانية. كما نلفت النظر ان جميع الحواشي موجودة في نهاية المقال وقد وضعناها ضمن اقواس)1. لمحة عن السريان واصلهم:سريان اليوم جزء صغير من العائلة السريانية الكبيرة التي تتكون من اتباع كل الطوائف المسيحية الموجودة في بلاد الشام والعراق وما يجاورها (1) عدا الاقباط والارمن. وقد عاش السريان في مواطنهم التقليدية في الشرق الاوسط منذ حوالى 3000 سنة دون انقطاع، حيث طبعوا المنطقة بثقافتهم وحضارتهم ومآثر لغتهم، وقدموا بعض الانجازات الهامة في مجرى التاريخ شملت مساحة واسعة من العالم القديم وخاصة على المستوى الثقافي واللغوي. وكانت قوافلهم التجارية ناشطة جداً على طول مسالك طريق الحرير التجاري الشهير في عالم الشرق القديم، فانتشرت معهم ثقافتهم ولغتهم وابجديتهم بين شعوب عديدة.
ان لغتهم الآرامية السهلة النطق والكتابة كانت قد انتشرت حينها انتشاراً واسعاً جداً بسبب سهولتها وغناها ومرونتها وبساطة كتابتها، فغدت لغة الاتصالات والدبلوماسية والتجارة في الشرق القديم، كما ان ابجديتهم الارامية السهلة والمكونة من 22 حرفاً كُتِبَتْ بها العديد من اللغات، وأصبحت مصدراً لكثير من أبجديات لغات العالم ايضاً. لكن منذ القرن الثالث الميلادي، خسر السريان دويلاتهم العديدة ونفوذهم السياسي.
ينقسم سريان اليوم الى عدة مجموعات كنسيّة: بعضها لا زال يحمل الاسم السرياني مثل السريان الارثوذكس والسريان الكاثوليك. أما المجموعات السريانية الاخرى فقد خسرت هذا الاسم كلياً أو جزئياً خلال معمعة التطور التاريخي، ولها اليوم اسماء محلية كنسية خاصة تُعرف بها، مثل الموارنة والروم والاشوريين والكلدان. (2) وهذه المجموعات الكنسية كلها هي بكل حق ورثة اللغة السريانية الآرامية، وورثة الحضارة السريانية والتراث السرياني العريق الذين انتجهما اجدادهم على مر العصور. (3)
يتحدر السريان من الآراميين الذين كانوا يشكلون في القرون الاولى قبل الميلاد وبعده، الغالبية العظمى لسكان منطقة بلاد الشام والعراق، حيث وحدوها بوجودهم البشري الكثيف وبلغتهم الآرامية وبعوامل حضارتهم وثقافتهم. وقد اطلق اليونانيون تسمية "سريان"(4) على الآراميين في القرون الاولى قبل الميلاد وخاصة منذ القرن الثالث قبل الميلاد. لكن "السريان" استمروا حينها يسمون أنفسهم بالآراميين (5) لغاية بداية القرن الخامس الميلادي؛ وبعد ذلك بدأ الآراميون المسيحيون بدورهم يستعملون تسمية "سريان" ܣܘܪ̈ܝܝܐ الى جانب أسمهم الآرامي ܐܪ̈ܡܝܶܐ فقالوا عن أنفسهم "سريان آراميين" ܣܘܪ̈ܝܝܐ ܐܪ̈ܡܝܐ، وعن لغتهم "اللغة السريانية الآرامية" ܠܫܢܐ ܣܘܪܝܝܐ ܐܪܡܝܐ. واستمرت التسمية السريانية الجديدة في الانتشار أكثر، وعمت سائر المنطقة الآرامية، وثم انفردت في الاستعمال بعدما انزاحت التسمية الآرامية من الاستعمال اليومي.(6)
كان الآراميون القدماء يتبعون في دولهم وكياناتهم السياسية نظام المدينة الدولة، فكان لهم العديد من الدويلات المنتشرة في منطقة الهلال الخصيب. وكان البعض من دولهم يحمل اسم "آرام" الى جانب اسمها المحلي مثل "آرام دمشق"، "آرام صوبا"، "آرام معكة"، الخ؛ كما ان بعضها حمل ايضاً اسم "بيث" الى جانب اسمها مثل "بيث عديني"، بيث حالوفي"، "بيث ياكين"، الخ. وقد عاش الآراميون خلال تاريخهم الطويل بجوار شعوب أخرى لها لغاتها وحضاراتها مثل الاشوريين والكنعانيين والحتيين وغيرهم فتأثروا بهم وأثروا عليهم، إلا ان تلك الشعوب القديمة اختفت لاحقاً من مسرح التاريخ، واختفت معها لغاتها وحضاراتها، وزالت كلياً بعدما ذابت بقاياها ضمن الآراميين. أما هم فقد استمروا في الحياة لغاية اليوم باسم سريان، محافظين على بقايا وجودهم البشري وعلى شيء يسير من حضارتهم ولغتهم التي هي مبعث قوتهم.
وفي القرنين الأولين بعد الميلاد كان للآراميين عدة كيانات سياسية، قام البعض منها على الاثنية الآرامية والبعض الآخر على اللغة الآرامية. وكانت معظم المدن الكبيرة في منطقة الهلال الخصيب آنذاك تشكل كيانات سياسية آرامية تعتمد نظام "المدينة الدولة"، منها بترا (في الاردن)؛ دمشق، وحمص، وحماة، وحلب، وتدمر (كلها في سوريا)؛ حطرا، وحدياب، وسنجار، وميسان (كلها في العراق)؛ الرها، وآمد (دياربكر)، ونصيبين، وماردين، وطورعابدين (في تركيا)، الخ. وقد انتهى النفوذ السياسي لمعظم هذه الممالك والامارات والاقطاعات الآرامية في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، لكن الشعب الآرامي استمر في الوجود على ارضه لغاية اليوم رغم تقلص عدده بشكل كبير جداً.
وكان اليونانيون منذ القرن الثالث (7) قبل الميلاد قد أخذوا يطلقون تسمية "سريان" على الآراميين، فعمد الآراميون الى تبنيها تدريجياً واستعمالها الى جانب اسمهم الآرامي. وهناك شواهد قديمة كثيرة حول هذا الموضوع منها المؤرخ والفيلسوف اليوناني بوسيدونيوس (135 ق. م. – 51 قبل الميلاد) الذي كان من مدينة أفاميا على نهر العاصي في سوريا حيث كتب: "يطلق السريان على انفسهم اسم الآراميين...8 (
وكذلك المؤرخ اليوناني سترابو (63 قبل الميلاد – 24 ميلادي) بقوله: (9) "ان الذين يطلق اليونانيون عليهم تسمية سريان فانهم يسمون انفسهم بالآراميين". (10)
وفي النسخة السبعينية السريانية للعهد القديم ܡܦܩܬܐ ܫܒܥܝܢܝܬܐ والتي تُرجمت من العبرية الى اليونانية في مصر في القرن الثالث قبل الميلاد، ومن اليونانية الى السريانية في الاسكندرية حوالى عام 615 ميلادي، نرى ان الاسم "السرياني" اصبح في الترجمة السبعينية بديلاً عن الاسم "الآرامي" الاقدم منه ومرادفاً له. أي ان المترجمين (11) قاموا بترجمة تسمية "آرامي" من النص العبري للعهد القديم الى لفظة "سرياني" في النص السبعيني اليوناني وثم السرياني. فعلى سبيل المثال نرى ان تعبير מלך ארם "ملك آرام" (12) في التوراة العبرية قد تُرجم في النسخة السبعينية السريانية الى صيغة ܡܠܟܐ ܕܣܘܪ̈ܝܝܐ ”ملك السريان"، وعبارة רץין מלך ארם "رَصين ملك آرام" ترجمت الى ܪܨܢ ܣܘܪܝܝܐ (13) "رَصين السرياني".
وفي زمن مار افرام (القرن الرابع الميلادي) لم يكُ السريان يسمون انفسهم سرياناً بعد، بل آراميين، وهذا واضح من الكتابات السريانية التي وصلتنا من ذلك العصر، وبينها كتابات مار أفرام الذي لا يستعمل تسمية سريان ولغة سريانية، بل يستعمل تسمية "آراميين" و"لغة آرامية". (14) وهناك العديد من الشواهد في كتاباته النثرية والشعرية، منها قوله: ܐܪ̈ܡܝܐ ܒܣܘ̈ܟܝܗܘܢ ܫܒܚܘܗܝ اي "مجده الآراميون باغصانهم"، (15) وقوله عن الفيلسوف "برديصان" الرهاوي (توفي عام 222م) بانه "فيلسوف الآراميين" كما في الشاهد التالي: ܓܘܚܟܐ ܕܝܢ ܥܒܕ ܢܦܫܗ ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ ܘܝܘ̈ܢܝܐ ܦܝܠܘܣܦܐ ܕܐܪ̈ܡܝܐ "ان فيلسوف الآراميين (برديصان) جعل نفسه اضحوكة في أعين اليونانيين والآراميين"؛ (16) كما ان مار أفرام يسمي اللغة السريانية بالآرامية كما في قوله: ܟܬܝܒ ܒܐܪܡܝܐ "كُتب بالآرامية". (17)
وبعد وفاة مار أفرام بفترة قصيرة بدأت التسمية السريانية تتغلغل بين الآراميين الذين راحوا يستعملونها الى جانب التسمية الآرامية. ونرى ذلك لدى الشاعر الكبير مار يعقوب السروجي الذي توفي عام 521 م، حيث وصف مارَ أفرام ملقباً أياه "تاج الامة الآرامية وبليغ السريان" بقوله: ܗܢܐ ܕܗܘܐ ܟܠܝܠܐ ܠܟܠܗ̇ ܐܪܡܝܘܬܐ: ܗܢܐ ܕܗܘܐ ܪܗܛܪܐ ܪܒܐ ܒܝܬ ܣܘܪ̈ܝܝܐ، اي "ان مار افرام أصبح تاجاً للامة الآرامية جمعاء، وبليغاً عظيماً لدى السريان". (18) ان الكاتب يعقوب السروجي استعمل هنا التسميتين الآرامية والسريانية معاً في قصيدته كإسمين على المسمى نفسه. ولقد سمى الشاعر يعقوب السروجي فتيات مدينة الرها بالآراميات، بقوله عن تلميذات مار افرام: ܝܒܒܝ̈ ܗ̱ܘ̈ܝ ܓܝܪ ܥܒܪ̈ܝܬܐ ܒܦܠܓܝܗ̈ܝܢ: ܘܗܪܟܐ ܡܫܒܚ̈ܢ ܐܪ̈ܡܝܬܐ ܒܡܕܪ̈ܫܝܗܝܢ،(19) اي "لقد رَنّمت الفتيات العبرانيات بدفوفهن، أما الفتيات الآراميات فتمجد (الرب) هنا بمداريشهن".(20) كما انه يسمي كنيسة الرها ܒܪܬ ܐܪ̈ܡܝܐ "ابنة الآراميين"، ويسمي ملكها ابجر ܒܪ ܐܪ̈ܡܝܐ "ابن الآراميين".
ومنذ حينها استعمل الكتّاب السريان على مر العصور التسميتين السريانية والآرامية بشكل متلاحم ومترادف، وأصبح هذا تقليداً دارجاً لدى الكتّاب، فكتبوا بانهم "سريان آراميون" وان لغتهم هي "السريانية الآرامية". وهذا واضح لكل من يطالع الكتب والنصوص السريانية القديمة، فعلى سبيل المثال، نستشهد بأحد أكبر العلماء والمؤرخين السريان، يعقوب الرهاوي (المتوفي عام 708 ميلادي) بقوله: ܚܢܢ ܐܪ̈ܐܡܝܶܐ (21) ܐܘܟܝܬ ܣܘܪ̈ܝܝܐ "نحن الآراميون اي السريان".(22) وكذلك بقوله: ܠܘܬܢ ܐܪ̈ܡܝܐ، اي "عندنا نحن الآراميين"،(23) وكذلك ايضاً في حديثه عن اجداد السريان بقوله: ܥܬ̈ܝܩܐ ܒܢܝ̈ ܐܪܐܡ، اي " أبناء آرام القدماء".(24)
أما كون السريان يتحدرون من الآراميين، فهناك شواهد سريانية كثيرة على ذلك من المؤرخين والكتاب السريان القدماء. مثلاً، يقول العلامة اللغوي السرياني الشرقي (النسطوري) بربهلول (من القرن العاشر) في قاموسه السرياني الموسوعي الشهير: ܡܢ ܩܕܝܡ ܣܘܪ̈ܝܝܐ ܐܪ̈ܡܝܐ ܡܬܩܪܝܢ ܗܘܘ، اي "كان السريان قديماً يسمون آراميين".(25) وكذلك فعل المؤرخ والعلامة السرياني يعقوب ابن الصليبي (توفي 1117) بقوله: ܚܢܢ ܓܝܪ ܒܢܝ̈ ܐܪܡ ܐܝܬܝܢ: ܘܥܠ ܫܡܗ ܡܬܩܪܝܢ ܗ̱ܘܝܢ ܒܙܒܢ ܐܪ̈ܡܝܐ، أي "نحن أبناء آرام وعلى اسمه كنا نسمى سابقاً آراميين".(26) وكذلك ايضاً فعل العلامة السرياني الشرقي النسطوري سليمان مطران البصرة (توفي حوالي 1240) في كتابه السرياني ܕܒܘܪܝܬܐ، أي "النحلة" بقوله: ܐܪ̈ܡܝܐ ܐܘܟܝܬ ܣܘܪ̈ܝܝܐ "الآراميون اي السريان"، كما انه سمى أبجر ملك الرها بالآرامي بقوله في المصدر نفسه: ܟܕ ܫܡܥ ܐܒܓܪ ܡܠܟܐ ܐܪܡܝܐ ܕܒܝܬ ܢܗܪ̈ܝܢ܆ ܐܬܠܚܡ ܥܠ ܥܒܪ̈ܝܐ ܘܒܥܐ ܕܢܘܒܕ ܐܢܘܢ، اي "عندما سمع أبجر الآرامي ملك بيث نهرين غضب...".(27) وهناك اثباتات كثيرة على ذلك، لكن نكتفي منها بهذا القدر من الشواهد السريانية القديمة.
وفي القرون الاولى من الفترة المسيحية، اعتنقت غالبية الآراميين الديانة المسيحية تدريجياً؛ ومنذ القرن الخامس الميلادي، ثبتت عليهم التسمية السريانية التي اطلقها عليهم اليونان. وحسب التقليد السرياني، هناك "قصة" ممتعة تقول ان ابجر الخامس "أوكاما" ܐܒܓܪ ܐܘܟܡܐ ملك الرها الآرامي اصيب بمرض وعجز عن معالجته الاطباء، فسمع عن يسوع الناصري بانه يشفي المرضى فكتب اليه ليأتي ويشفيه. فأجابه يسوع بانه سيرسل له احد اتباعه ليشفيه. وفعلاً ارسل له ادى الرسول الذي نجح في شفاء الملك ابجر وتنصيره. فاعتنقت مملكة الرها المسيحية واصبحت المعقل الاول للمسيحية الناطقة بالآرامية، مثلما كانت انطاكية معقل المسيحية الناطقة باليونانية. وأصبحت لغة الرها الآرامية لغة الكنيسة السريانية الرسمية، وانتشرت مع انتشار الكنيسة السريانية في كل مكان. وكانت الرسائل المتبادلة بين ابجر الملك والسيد المسيح والمحفوظة في آرشيف الرها، قد عظّمت قيمة الرها ولغتها السريانية بين جميع الاوساط المسيحية في الشرق والغرب، كما انها أعطت أهمية لشعبها الآرامي حينها. كما ان التقليد التوراتي(28) ينص على آرامية ابرهام وابنه اسحق وحفيده يعقوب، ان هذه الشخصيات الدينية الهامة دخلت الى مختلف الطقوس الكنسية السريانية وأصبحت محوراً لكثير من الموضوعات الدينية والكنسية.
ولقد انطلق المبشرون السريان يبشرون بالمسيحية في مختلف الاصقاع القريبة والبعيدة ناقلين معهم لغتهم السريانية الآرامية والطقوس الكنسية، حيث بشروا هناك في الهند والصين ومنغوليا، الخ. ولغاية اليوم، يوجد حوالي عشرة ملايين(29) من السريان المسيحيين في جنوب الهند ينتمون الى مختلف الكنائس السريانية والمذاهب المسيحية، ويستعملون اللغة السريانية في طقوسهم الكنسية.
لكن في الفترة نفسها التي دخلت فيها التسمية السريانية على الآراميين المسيحيين، دخلت ايضاً بعض التعاليم والافكار الفلسفية والدينية الجديدة وتسربت الى الكنيسة،(30) مما ادى الى انعقاد مجامع كنسية لتثبيت العقيدة المسيحية، لكنها سبّبت ايضاً في انقسامات كنسية. ولغاية القرن الثامن الميلادي، كان الآراميون المسيحيون ينقسمون الى اربع كنائس هي: السريان المشارقة (النساطرة)، السريان الملكيين (الروم)، السريان الارثوذكس (اليعاقبة)،(31) والسريان الموارنة؛ لكن منذ القرن السادس عشر ولاحقاً خرجت مجموعات من تلك الكنائس وأسست لها فروعاً كاثوليكية، وبعدها بروتستانتية، فتضاعف عدد الكنائس السريانية في المنطقة.
وفي فترة تاريخهم المسيحي تعرض السريان لاضطهادات منوعة أدت الى تناقص اعدادهم بشكل مروع، كما ان غالبيتهم اضطروا الى هجر لغتهم الآرامية، الا ان مجموعات هامة منهم في العراق وسوريا وغيرها، لا زالت تتحدث بلغتهم الآرامية لغاية اليوم.
2. انقسام السريان الى مشارقة ومغاربة:لقد انقسم السريان مع مرور الزمن الى كتلتين بشريتين في منطقتين جغرافيتين، فتسموا بالسريان المشارقة والسريان المغاربة. وتشبه الحدود السورية العراقية اليوم، الى حد ما، الحدود التي كانت تفصل بين السريان المشارقة (في العراق وايران)(32) والسريان المغاربة (في سوريا وتركيا ولبنان اليوم). لقد صادف انقسام السريان في بداية القرن الخامس الميلادي، وكانت القسمة على محاور عدة: سياسية ولاهوتية وكنسية ولغوية ومناطقية؛ فسياسياً كان السريان المشارقة يتبعون دولة الفرس، والسريان المغاربة بيزنطة؛ ولاهوتياً تبع السريان المشارقة الفكر النسطوري في تحليل لاهوت المسيح وناسوته ورفضهم لقب مريم "والدة الله" ܝܠܕܬ ܐܠܗܐ؛ ولغوياً استعمل السريان المشارقة في الكتابة والادب والطقوس الكنسية الفرع الشرقي من اللغة السريانية الفصحى التي تسمى لديهم ܠܫܢܐ ܥܬܝܩܐ "لشانا عتيقا" (أي، اللغة القديمة) و ܠܫܢܐ ܣܦܪܢܝܐ "لشانا سفرانايا" (أي، اللغة الادبية)؛(33) وتكلموا ولا زالوا يتكلمون لغاية اليوم اللغة "الآرامية الشرقية الشمالية الحديثة" North-Eastern Neo-Aramaic.(34) واستعمل السريان الغربيون اللغة السريانية الفصحى بلهجتها الغربية حيث يسمونها ܣܘܪܝܝܐ ܟܬܒܢܝܐ "سوريويو كثوبونويو" (أي، اللغة الكتابية، بمعنى اللغة الفصحى) وتكلموا بفروع آرامية مختلفة، فمنهم من يتكلم اللغة "الآرامية الغربية الحديثة"(35) Western Neo-Aramaic، ومنهم "الآرامية المتوسطة الحديثة"(36) Central Neo-Aramaic.(37) وكنسياً تأسس من السريان المشارقة الكنيسة السريانية الشرقية(38) تحت سلطة اسقف المدائن والذي سُمي بعدئذ جاثليق/بطريرك، بينما كان السريان المغاربة تحت سلطة اسقف/بطريرك كنيسة انطاكيا قبل انقسامها؛ ومناطقياً تمركز السريان المشارقة حول "المدائن" عاصمة الفرس على نهر دجلة ضمن حدود الدولة الفارسية، وأما السريان المغاربة فتمركزوا حول عاصمتهم الروحية "انطاكيا" ضمن حدود الامبراطورية البيزنطية. وبالرغم من ان السريان المغاربة انقسموا بعد عام 451 لاهوتياً وكنسياً الى فرقتين، وفي القرن السابع الى ثلاث فرق، فقد كانت غالبيتهم من رعايا الدولة البيزنطية.
بعد سيطرة العرب المسلمين على منطقة الشرق الاوسط تحول معظم السريان المشارقة والمغاربة الى رعايا في الدولة العربية المسلمة الفتية، وزالت الحدود السياسية القديمة من بينهم. الا ان القسمة الكنسية واللاهوتية واللغوية استمرت بين السريان وما زالت ليومنا هذا. ورغم ان غالبية السريان الآراميين(39) قد فقدوا لغتهم الآرامية الأم من التخاطب اليومي، الا انه ما زال العديد منهم يتكلم الآرامية كل بحسب لهجة منطقته وخاصة في العراق وسوريا، ولا زالت كنائسهم تستعمل السريانية الفصحى في عبادتها وطقوسها.
(يتبع في المقال القادم عن موضوع "اللغة السريانية")ملاحظة: هنا تبدأ حواشي المقالة:(1) اي في العراق وسوريا ولبنان والاردن وفلسطين، ما يجاورها من البلدان الحديثة مثل تركيا وايران ومصر وبلدان الخليج وارمينيا وغيرها التي فيها اقليات سريانية.
(2) منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأت هذه المجموعات السريانية تهجر الاسم السرياني تدريجياً وتقطع نفسها من التواصل معه في مرحلة انفلات وابتعاد عن الاصل والتراث، لتبتعد عن اسمها السرياني المتوارث من الأجداد للأباء والأبناء بحثاً عن عوامل تبرز خصوصياتها المجموعاتية والطائفية من جهة، وابعاد نفسها عن اخوتها السريان المحافظين على التسمية السريانية من جهة اخرى. فشكلت مرحلة الانفلات لدى بعض الطوائف السريانية ضياعاً في هويتهم السريانية التقليدية المنقولة لهم عبر تاريخ اجدادهم الموثق، وحلت مرحلة التفكك من الجسم السرياني، وربما معاداته ايضاً.
(4) منذ القرن الثالث قبل الميلاد درجت عادة عند اليونانيين بان يطلقوا تسمية "سوريا" على بلاد آرام، وتسمية سريان على الآراميين، و"لغة سريانية" على اللغة الآرامية.
(5) إن كان اليونانيون يسمون الآراميين بالسريان فهذا ليس حدثا فريداً، بل يشبهه حال بعض الدول الاوروبية اليوم. فاليونانيون مثلاً يسمون انفسهم "إلينس" ونحن نسميهم يونان، وإسم "الألمان" الاصيل بلغتهم هو "دويتش" Deutcher لكننا نسميهم نحن "ألمان"؛ والنمساويون لا يسمون أنفسهم بهذا الاسم (نمساويين) بل "اوستررايشر";österreicher وكذلك السويديون فهم يسمون أنفسهم "سفنسكار" svenskar، بينما نحن نسميهم "سويديين". وهناك امثلة أخرى كثيرة مشابهة في العالم.
(6) رغم ان التسمية الارامية انزاحت من الاستعمال اليومي، الا انها بقيت في الاستعمالين الكتابي والادبي لدى مختلف الكتّاب السريان على مر العصور، فنرى مثلا الكاتب السرياني "يشوع بركيلو" (توفي عام 1309) يستعمل التسمية الآرامية في رسائله بقوله، ان كتبتَ لكاهن فاكتب ما يلي: ܠܟܗܢܐ ܕܐܬܓܒܝ ܫܪܓܐ ܠܥܡܐ ܐܪܡܝܐ: "الى الكاهن الذي اختير سراجاً للشعب الارامي". انظر كتاب رسائله طبعة اسحق ارملة في بيروت 1928، الفصل الاول صفحة 22.
(7) رغم انهم كانوا احياناً يطلقون عليهم التسمية السريانية بشكل غير متواصل وغير منتظم منذ القرن السادس قبل الميلاد.
[left][left
](
Posidonius, (Cambridge Classical Texts and Commentaries 1988), vol. 2, pp. 955-956[/left][/left]
(9) Strabo, Geography, book I, 34
[/left]
(10) وكذلك فعل المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس الذي عاش مباشرة بعد المسيح (ولد حوالى عام 37 ميلادي ومات حوالى سنة 100 للميلاد) بقوله: "يطلق اليونانيون على الآراميين اسم السريان" (انظر كتابه:
Antiquities of the Jews, Book I, Chapter 6
(11) كان هؤلاء التراجمة من علماء اليهود المتمرسين باللغات العبرية واليونانية والارامية.
(12) انظر التوراة السبعينية السريانية، سفر الملوك الثاني 12:17
(13) انظر التوراة السبعينية السريانية، سفر الملوك الثاني 15:37
(14) أما لماذا لقب مار أفرام بالسرياني في ذلك الوقت الذي كان يُسمى آرامياً، فان اليونان هم الذين سموه بالسرياني لانهم كانون يطلقون على الآراميين تسمية "سريان"؛ ومن اليونانية دخل لقب "افرام السرياني" الى السريانية بواسطة الترجمة لاحقاً، فأصبح مار أفرام يُعرف في كل الاوساط باسم "أفرام السرياني".
(15) E. Beck, Des heiligen Ephraem des syrers Hymnen de Virginitate, (CSCO vol. 223/Syr 94), Louvain 1962, p. 70.
(16) C.W. Mitchell,
St Ephrem’s Prose Refutations of Mani, Marcion and Bardaisan, (2 vols; London & Oxford 1912 & 1921), vol. II, p. 7.
(17) Ibid., vol. I, p. 122.
(18) P. Bedjan,
Acta martyrum et sanctorum, vol. III, Paris 1892, p. 677.
(19) Ibid. P. 668.
(20) "المدراش" ܡܰܕܪܳܫܳܐ هو أحد انواع الشعر السرياني ويكون على شكل قصيدة جدلية للغناء، وهو على نقيض "الميمر" ܡܺܐܡܪܳܐ الذي هو قصيدة للقراءة. تتميز "المداريش" السريانية بتنوع اوزانها الشعرية التي تبلغ اكثر من خمسين وزناً شعرياً.
(21) لقد كتب المؤلف كلمة آراميين السريانية بهذه الصيغة اعلاه، اي وضع حرف الألف بعد حرف الراء، كي يلفظ الكلمة بصيغة oromoye/aramaye
(22) Patrologia Orientalis, vol. 29, p. 196.
(23) انظر كتاب يعقوب الرهاوي المسمى ܫܬܬ ܝܘ̈ܡܐ "الايام الستة"، طبعة المطران يوليوس جيجك في هولندا 1985، صفحة 60.
(24) نفس المصدر، صفحة 60.
(25) انظر قاموس بربهلول السرياني طبعة روبنس دوفا ل في باريس عام 1888، عمود 1324.
(26) انظر الفصل 14 من كتابه ܐܪܘܥܘܬܐ.
(27) Solomon of Basra, The Book of the Bee, ed. E. A .W. Budge, London 1886, page 99.
(28) انظر سفر تثية الاشتراع 26:5 حيث يقول: "آرامياً تائهاً كان أبي".
(29) نعتقد بان عددهم اكثر من عشرة ملايين؛ بعض الكنائس السريانية الهندية تستعمل اللغة السريانية وبعضها الاخر اهملها كلياً. أما اللغة السريانية في الهند فتستعمل بلهجتيها الشرقية والغربية حسب الكنيسة والطائفة.
(30) مثل تعاليم "مرقيون" و"ماني" و"برديصان" و"قوق" و"أريوس" وغيرهم من اصحاب التعاليم الفلسفية والدينية والغنوصية التي وسمتها الكنيسة بالهرطوقية.
(31) رفض السريان الارثوذكس مقررات مجمع خلقيدونيا الذي عُقد عام 451 ونص على ان للسيد المسيح "طبيعتين متحدتين" لاهوتية وبشرية. وقد فضّل السريان الارثوذكس مع الاقباط حينها صيغة "ان للمسيح طبيعة واحدة مكونة من طبيعتين متحدتين". وقد حارب الفريقان بعضهما البعض ونعتوا بعضهم بألقاب سلبية بعدئذ، فأطلق مناصرو مقررات خلقيدونيا على رافضيها تسمية "اليعاقبة"، وهؤلاء بدورهم اطلقوا تسمية "مَلْكيين" على الذين قبلوها. أما كلمة "يعاقبة" فهي النسبة من اسم يعقوب البرادعي الذي جدد الاعتقاد بالطبيعة الواحدة بعد ان اوشك على الاندثار على يد ملوك بيزنطا. أما استعمال اللفظة اليونانية "اورثوذكس" على الكنيسة السريانية فهي ترجمة حرفية للعبارة السريانية ܬܪܝܨܬ ܫܘܒܚܐ اي "الأعتقاد القويم"، الموجودة في اسم هذه الكنيسة بالسريانية ܥܕܬܐ ܣܘܪܝܝܬܐ ܬܪܝܨܬ ܫܘܒܚܐ "الكنيسة السريانية ذات الاعتقاد القويم".
(32) يوجد في العراق لغاية اليوم عدد هام من "السريان المغاربة"، ويشكلون هناك الطائفة المسيحية الثانية من حيث الحجم بعد الكلدان. وهؤلاء السريان المغاربة هم من آراميي العراق الاصليين منذ القديم، ويتحدثون بالآرامية الشرقية الحديثة لكنهم يستعملون السريانية الفصحى الغربية في طقوسهم الكنسية.
(33) وهي غير الارامية التي يتحدثون بها ويسمونها "سورث".
(34) ويسمونها "سورث".[/size][/b]-
__________
انتهى الجزء الاول ويتبعه الجزء الثاني قريباً
الدكتور اسعد صوما
ستوكهولم