الميلاد والسلام
جاء في الإنجيل المقدس في حين ميلاد المسيح ان جوقة من الملائكة ظهرت فوق المغارة التي ولد فيها الطفل "عمانوئيل" مُسبِحة بالعبارة : "المجد لله في الأعالي وعلى الارض السلام وبالناس المسرة" لوقا 2-14 . هذه العبارة اصبحت فيما بعد شعار يرفع فوق أية مغارة تقام لهذه المناسبة التي تهز بالمسرة أركان العالم اجمع. لكن السؤال يبقى هل حقاً ان ميلاد المسيح كان بداية انطلاقة السلام بين شعوب العالم والجواب لن انتظره من القاري الكريم بل سأجيب من عندي. ان هذا لم يكن الواقع وربما ان ارض الواقع بعد الميلاد كانت اكثر قابلة للحروب والنزاعات. فاين نحن من السلام الموعود من قبل الملائكة وها قد مر اكثرمن ألفين من السنين والسلام لم يتحقق ولو لزمن قصير .
المسيحية ليست كبقية الأديان ففي ثناياها يكمن سر الخليقة وسر العلاقة بين الخالق والمخلوق.، والسلام الموما اليه في ترنيمة الملائكة ليس السلام الارضي الذي نصبوا اليه وطالما تمنيناه ، انه سلام ازلي وهو اعظم من السلام الارضي فهو سلام ومصالحة بين الخالق ( الرب القدوس اسمه ) وبين المخلوق ( الانسان من ذرية ادم ) اثر خطيئة ادم المعروفة في الأديان السماوية. تصوروا ان احد الأبناء تمرد على ابيه الذي يعيله كما جاء في مثال الابن الضال-- لربنا يسوع المسيح -- وحين انقطعت السبل بالابن العاق هذا وبدل من ان يموت جوعاً رجع الى ابيه، وابوه عفا عنه وصالحه بأعظم ضحية وهي العْجِل المُسمَن، لوقا 11:15- 32 . اي غفر له وصالحه وحل السلام بينهما، وخير من ان يكون الابن في عداد الموتى اعطاه ابوه فرصة ثانية للحياة. هذا هو نوع السلام الذي رددته الملائكة في مولد المسيح.
ان ولادة المسيح التي تمر ذكراها في مثل هذه الايام هو المصالحة العظيمة التي تحققت ومعها جاءت العبرة والمثال الصالح في ان نقتدي كبشر بالإله الذي سامحنا كي نتعلم نحن ايضاً ان نسامح إخوتنا وفي ذلك نخطوا خطوة نحو السلام الأرضي الذي نصبوا اليه. المسيحيون في الصلاة الربانية يتلون قائلين: "اغفر لنا كما نحن ايضاً نغفر لمن اخطأ إلينا". اي علينا ان نتعلم من مثال الخالق ان نسامح من اخطأ إلينا وحين يأتي التطبيق لهذه الصلاة يأتي السلام منطلقاً من القلب الخاشع ، ينشر لمحبة ، محبة القريب، محبة مختلف الأجناس ومحبة من أخطأ إلينا وفي القمة ، ومن غير عجب، محبة أعدائنا.
هذه هي المحبة حاضنة السلام في المجتمع والتي اِن طبقناها كاملة في حياتنا اليومية فإننا نحول مجتمعاتنا الى مجتمعات مثالية تنعدم فيها الفوارق الطبقية والمادية والكل يصبح سواسية فلا يكون من بيننا من يسرق او يتحايل، او يقتل ولكن المثالية حالها حال المطلق لا يمكن تحقيقهما في شاكلة الحياة التي نعيشها. لندع المثالية والمطلق جانباً ونتقيد بالمحبة بقدرالمستطاع في افعالنا ومن اعماق القلب لانه ومن دونها تسوء الامور اكثر ويفسد المجتمع أكثر. حين تغيب المحبة كمبدأ في مجتمعاتنا المعاصرة ، حين لا نفهم الدين كعلاقة بين الخالق والمخلوق حينذاك نستسلم للأبليس الذي هو رمز الشر ليقودنا للحقد والكراهية وهذ يتجلى في ما يقترفه الارهابيون في ايامنا هذه في كل من العراق وسوريا بشكل خاص وفي مختلف انحاء العالم بشكل عام.
ماذا عن الثورات والحروب التي هي الاخرى تعتبر من سنن الحياة شئنا ام أبينا والتي لم تفارق البشر منذ بداء الخليقة ولحد اليوم . ما اتعس العيش في خضم ويلاتها التي منها القتل، التشرد وهجرة الأوطان. بهذا الصدد ماذا اقول عن أطفال سوريا الأبرياء وقد شردتهم الحرب الضروس لما يقارب الثلاث سنوات، خائفون جائعون يعيشون بلا مأوى في هذا الشتاء القارس. هذا ان لم تُغتال براءتهم امام أعين ذويهم.
الحرب هي نقيض السلام فأين هو موقف المسيح والمسيحية من السلام؟ الطفل الذي نعيش ذكرى ميلاده هذه الايام ، ويسعدنا ان نحتفي به، حين كبُرَ لم يحمل يوماً من الأيام سيفاً ولا سلاحاً بل منع خليفته ، بطرس، من استعمال السيف وحتى انه لم يقاوم الذين امسكوه ليُحاكم ومن ثم يُصلب، بل انه اسلم شخصه الى الذين ظمروا الشر له. هل من تطبيق للسلام أكثر من هذا؟
ضمن وصاياه لنا -- في موعظة الجبل -- وصية يستحق الكتاب الذي وردت فيه جائزة نوبل للسلام، في مرة من المرات على الأقل . هذه الوصية هي : "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدّعون" متى 5-9 . ابدع ما في هذه الوصية انها تحث المسوؤلين واصحاب القرار من اي جنسية وأي دين وفي اي زمان ومكان الى صنع السلام. انها تكافئ صانعي السلام بأعلى وسام سماوي يفوق جائزة نوبل بما لا يحصى من مرات لان الله سرمدي ومكافأته سرمدية. هذا هو وعد المسيح لكل من يطفي سعير الحروب، لكل من يعمل الى تهدئة الصراعات قبل ان تستفحل، ولكل من ينزع فتيل المشاحنات .. الى صانعي السلام، فطوبى لهم.
طفل المغارة " عمانوئيل " الذي ولد في مثل هذه الأيام والذي سجد له الرعاة وملوك فارس ( المجوس ) والذي جاء ببشرى السلام السماوي ومن ثَم اوصانا بصُنع السلام الأرضي، يستحق منا ايضاً السجود والشكر والأهتداء به ، وتلكم خير هدية نقدمها له لمناسبة ميلاده.
للمزيد عن كتابتي السابقة عن الميلاد، الرجاء الأستعانة بالروابط الآتية:
حنا شمعون / شيكاغو