الكنيسة: وحدة وشركة، رسالة راعوية بمناسبة الذكرى الأولى لانتخاب البطريرك ساكو
بمناسبة مرور سنة على انتخابه 31 كانون الثاني 2014
إلى الأساقفة
والكهنة والشمامسة
والراهبات والرهبان
وجميع بناتِ وأبناءِ الكنيسة الكلدانيَّة
مقدمة
1- بمناسبةِ مرورِ عامٍ كاملٍ على إنتخابي بطريركاً، أي أباً وراعياً للكنيسة الكلدانيّة، أتوجه إليكم أيُّها الأخوة والأخوات، بالسلامِ والمحبَّةِ والإحترام، والشكرِ لله ولكم على كلِّ ما تمّ إنجازُه خلال عامٍ واحدٍ، وطلب المعذرة عمَّا لم يتمّ إنجازُه. نشكر الله في هذه الأيام على رسامة أساقفةٍ جُددٍ، انهم علامةُ تعزيَّة وقوَّة ورجاءٍ في هذا الزمن الدقيق.
2- أيُّها الأحباء، لا يَخفى عليكم ما عشناه وما نعيشه في البلد الأُم، وما يعيشه اليوم أخوتُنا في سوريا ولبنان، من خوفٍ وعدمِ إستقرار، وهجرةٍ وحالةٍ سياسيّةٍ واقتصاديٍّةٍ هَشَّةٍ. في هذا الخِضَمِّ المُقلق، إرتأيتُ أن أوجِّه هذه الرسالة الراعويّة العامّة إلى جميعكم، متمنيًّا أن تَلقى صدىً في نفوسِكم لعملِ كلِّ ما هو خير وحقيقي وصالح. فنحن كنيسةً واشخاصًا مؤمنين، لسنا مجرد إمتداد لحدث في التأريخ الغابر، بل اننا نعيش الحدث الآن وهنا بإيمانٍ ورجاء. لنراجع ذواتنا امام الله، وليبحثْ كلُّ واحدٍ منّا عن سبلٍ جديدةٍ إيجابيَّةٍ للإسهام في نهضة كنيستنا، وخدمة اخوتنا.
الكنيسة وحدة وشركة
3- "الكنيسة في حقيقتها وواقعها العميق شركةٌ وألفةٌ مع الله. شركةُ حبٍّ مع المسيح ومع الآب بالروح القدس، تستمر وتمتد في شركة أخويَّة". هذا ما شرحه البابا فرنسيس في تعليم الأربعاء 6 تشرين الثاني 2013، مُلَّخِصًا معنى "شركة القديسين" التي نُعلن إيمانَنا بها لدى تلاوتنا لقانون الإيمان . الكنيسةُ إذاً في جوهرها واحدة، وعن هذه الوحدة ينبغي ان تُعَبِّر في الواقع اليومي، لأنها تمنح النعمة والقوّة لعيش الانجيل، والسير معًا كفريق واحدٍ نحو ملء الشركة الى الحياة الأبدية. هذه الوحدة ستُحررنا من انقساماتنا الداخليّة والخارجيّة، وتُخرجنا من انغلاقنا الشخصيّ والطائفيّ والجغرافيّ، وتَردُّ الينا قيّمَ المحبّة والامانة والتضحيّة.
4- الكنيسة جماعة مؤمنة بالمسيح - المخلص, لها مواهبُها ورسالتُها ودورُها الرياديّ. حضورُها يَجعلنا نكبر وننمو في الإتجاه الصحيح، ويعبر بنا الواحد الى الآخر. من لا يعيش مع الكنيسة وفيها يفقر، لن يختبرَ حضورَ المسيح الممجد. لنتعلم الدرسَ من توما رسول كنيستنا المعظَّم الذي لم يكتشف المسيح القائم من بين الأموات إلاّ ساعةَ انضمَّ إلى الجماعة. الحضورُ هو في قلبِ الحياة الإلهيَّة - الثالوث. فلا انفراد, ولا تكبّر، لا استبداد ولا اقصاء. حضورٌ دافيء يُنمي العلاقات: محبّة وشركة, مسؤوليّة وخدمة، وثباتٌ امام الصعوبات والتحديات.
5- الكنيسة تَبني وحدتَها بإيمانها ومحبّتها وتضامنها واحتفالها بالأسرار وعملها الرسولي ورئاستها الواحدة. والكنيسة مجمعيَّة بطبيعتها لأنها شركة Koinonia. كينونتها مجمعيّة. ونحن الكلدان نستعمل كلمة شوةفوةاللدلالة على الشركة وهي اللفظة نفسُها التي نطلقها على الزواج للتعبير عن وحدته الوجدانيّة المتماسكة والقويَّة. الكنيسة المحلية تعبّر بالكامل عن الكنيسة الجامعة، أما الكنيسة المنغلقة ففاقدة هويّتَها!
كنيسة الله والانسان
6- لفظة الكنيسة (Ecclesia) عدةا تَعني الجماعةَ المختارةَ الملتئمةَ حول يسوع القائم والمُمَجَّد. جماعةٌ أسسها المسيح، ودعاها لتحمل رسالته الى العالم اجمع، وتحتفل بخلاص من يقبلونه بفرح. جماعةٌ تحيا بكلمة الله، وتتغذى بجسد المسيح حتى تصير هي نفسها جسده السريّ بفعل الروح القدس، فلا مجال فيها لطموحات سياسية أو قوميّة او ماليّة ضيّقة كما أنها ليست مؤسسة مدنيّة NGO !
7- الكنيسة، مؤسَسّةٌ على البشر أيضًا. وبطبيعتها تَعيشُ في واقعٍ تأريخيٍّ، وتتأثر بمفاهيم وثقافة وعاداتِ معاصريها. فلا يحق لنا أبداً ان نقرأ التاريخ ونفسره بحسب عقليّتنا وثقافتنا وأطرنا الحاليّة. الكنيسة بِناءٌ يُكمله الروح القدس في قلب المؤمنين المعمذين ويعضدهم لحمل البشارة الى العالم. يقول المجمع الفاتيكانيّ الثاني: "إن هذا الشعب المسيحي وإن كان بعدُ لا يضمّ في الواقع جميع الناس، ويبدو في الغالب بمظهر القطيع الصغير، فهو مع ذلك للجنس البشري برمته، نواة وحدة ورجاء وخلاص بالغ الفعالية. لقد أقامه المسيح شركة حياة ومحبة وحقيقة، وهو في يده أيضاً أداة الفداء لجميع الناس، وأرسله في العالم كلِّهِ نوراً للعالم وملحاً للأرض" (نور الأمم، رقم 9). الكنيسة مرسلة للتبشير في جميع جهات الارض، ومن دونه تفقد هويتها وحيويتها! من المؤسف ان تكون معظم كنائسنا الشرقية قد فقدت جانب التبشير وانغلقت على ذاتها، أي على القطيع الصغير!
كنيستنا الكلدانيّة
8- كنيستنا الكلدانيّة في العراق والعالم مرّت بظروفٍ صعبةٍ وحرجة. ففي السنوات الماضيّة أَثَّرت فيها سلبًا التحولات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والجغرافيّة. كنيستُنا تأثرت خاصة بالهجرة وغياب المركزيّة والمتابعة وتفعيل القانون، وتأوين ليترجيتها وأسلوب تعليمها، مما أفرز حالةً من التشتت والتشرذم والفوضى والعزلة، شوّهت وحدتَها ونضارتَها ورونقَها. لذا كنيستُنا اليوم مدعوة ان تسترجع سماتِها وكاريسمَها: موهبة الاستشهاد ابان الاضطهادات والثبات في الايمان، موهبة الحياة الرهبانية لعيش جذريّة الانجيل، وموهبة التبشير والمثاقفة. أليس من بلادنا انطلقت المسيحيّة إلى أنحاء آسيا: إلى التبت والصين والهند وافغانستان وبلدان الخليج وهي تمثِّلُ أوسعَ انتشارٍ للإيمان في التأريخ. والفضل يعودُ للمجهود الثقافيّ واللاهوتيّ والروحيّ والتبشيريّ لآبائنا الأوائل. علينا أن نذكرهم دومًا لنبقى كنيسة جامعة منفتحة على كلّ الناس واللغات والقوميّات ولا ننغلق في "غيتو" ما (ghetto)! كنيستنا الجامعة والمنفتحة اختارت بطريركاً عظيماً من المغول، اسمه يهبالاها الثالث (ت1318)، هذا يجب ألا ننساه!
كنيستنا بحاجة الى وقفة صلاة ومراجعة
9- كنيستنا مدعوة الى وقفةِ صلاةٍ ومراجعةٍ شاملةٍ، لرؤية الامور بمنظار الانجيل، لتسير بأمانة وثقة في نور الرب وهَديه واعتمادِ رؤية واقعيّة ومستقبليّة ممنهجة تتناسب مع المستجدات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والجغرافيّة، فتجدد التزامَها برسالتها وتطوّر هيكليّاتها وطقوسها التي هي من أجل الناس كما يُؤكِّد يوحنا ذهبيّ الفم (ت 407)، وتخدم بكل تواضع كلِّ الناس من دون تفرقة. كنيستنا مدعوة ان تعيد بناء ما تهدّم وتُصلح ما تشوَّه وتَجمع مَن تفرّق وتُعيد من تهجّر. كنيستنا مدعوة الى تعميق الوحدة وتوطيد الشركة من خلال توجهها في ايمانها ورسالتها الى الانجيل، والنظر الى المسيح المركز:" له ينبغي ان ينمو ولي ان أنقص" (يوحنا 3/30). أما في ادارتها فعليها ان تتوجه الى المركزيّة الابوية لأن فيها قوَّتها. نحن كنيسة واحدة ولسنا مجموعة كنائس متقاطعة ومعزولة. الابرشيات والرعايا كلُّها في الداخل وفي بلدان الانتشار مرتبطة بالبطريركيّة بالرغم من تمتع كنائس الانتشار ببعض الخصوصيّات التي لا تتعارض مع انتمائها الكنسيّ البطريركيّ. على رجال الكنيسة التجذّر في الانجيل والالتزام بتعليم الكنيسة والابتعاد عن الشكليات والكبرياء والتعصّب، لأن بعكسه يخسرون هويّتهم الكنسيّة المنفتحة والشاملة. كما عليهم أن يهتموا كثيرًا بتنشئة مؤمنيهم ايمانيًا وانسانيًا وتوعّيتهم امام التحديات الثقافيّة والاجتماعيّة والجغرافيّة الحاصلة. قال البابا يوحنا بولس الثاني: "تكاتف مختلف اعضاء الكنيسة يُعطي اهميّة خاصّة، بالنسبة الى الثقافة التي يحصل عليها المؤمنون العلمانيّون، سواء في ابرشياتهم أو في رعيّتهم، لا سيما فيما يتعلق بمضمون الشركة والرسالة" (أرشاد رسولي، العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 1987 رقم 61).
10- البطريرك- الجاثليق هو أب الكنيسة الكلدانيّة، يتقدم ابناءها، ويرأس سينودسها، ويحقق وحدتها ويُعزّز الشركة كما هي الحال بالنسبة الى قداسةِ البابا في الكنيسة الجامعة، والاسقف في نطاق ابرشيته! هناك قوانين تنظّم الادوار والعلاقة في الكنيسة، ينبغي احترامها بدقّة (مراجعة القوانين 88-90 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية). يقول اغناطيوس الانطاكي (ت 107): "عليكم ان ترتبطوا بأسقفكم كارتباط الاوتار بالقيثارة، وتكونوا في وحدة لا تشوبها شائبة، في وحدة دائمة مع الله" (أفسس 4/1، تراليان 6، فلادلفيا 3). وهنا أودُّ ان أُذكِّرَ بالوعد الذي يقطعه الاسقف قبيل رسامته الاسقفية بالطاعة والاحترام للحبر الاعظم والبطريرك "أنا الأب ... المنتخب مطرانا على أبرشيّة ... أعد ان اكون أميناً وطائعًا دومًا للكنيسة المقدسة الرسولية الرومانية، وللحبر الاعظم، خليفة الطوباوي مار بطرس الرسول ونائب المسيح ولخلفائه الشرعيين.. وأعد أن أكون أمينًا وطائعًا لغبطة البطريرك، رئيس كنيستنا الكلدانيّة، ولكل ما يُقرره سينودسها المقدس وحسب قوانينها وتقليدها العريق". أليس الى هذه الوحدة ترمز حركة الاساقفة في تنصيب بطريركٍ جديد، عندما يتركون عكازهم جانبًا ويمسكون بعكاز البطريرك؟
هناك من يّرّوج بأن القانون الكنسي نَزَع َعن البطريرك وعن السينودس الدائم السلطة القضائية، هذا غير دقيق. من يريد التأكد ليراجع القوانين. وفي لقاء البطاركة الكاثوليك الشرقيين مع قداسة البابا فرنسيس في تشرين الثاني الماضي على هامش انعقاد اعمال الجمعية العامة لمجمع الكنائس الشرقية مؤتمرها، طالب البطاركة بصلاحياتٍ أوسع!
11- من المؤسف أن نكون أحيانًا مثل الرسل قبل بدء الكرازة: بعضُنا يَحنّ الى الماضي واساليبه ويرفض التأقلم مع الواقع الجديد وحساسيّة المؤمنين وثقافتهم اليوم، والبعض الآخر يُريد التجديد والتغيير لأنها سنّة الحياة، والبعض ينغلق على الجانب القوميّ او القبلي ناسيًّا البعد المسكونيّ أو مهتما بالجانب المالي. في كل الأحوال ينبغي ان نعرف كيف نتعامل مع هذا الواقع وأن نوجه نشاطنا كله نحو المسيح ونؤسس مسارنا على إتباعه بشكل جذري، فهو الضمان الأول والاخير لخلاصنا.
12- نحن كنيسة واحدة ولسنا كنائس مفصولة مزروعة هنا وهناك، نحن كنيسة واحدة أي عائلة واحدة، ولا خيار لنا غير الوحدة، وهي التحدّي الأكبر امام نهضة كنيستنا بشكلّ سليم. الوحدة تتقاطع مع عقلية التكتلات القرويّة أو المناطقيّة أو الفكريّة أو المحسوبيّات أو النقد غير المسؤول، لقد قال يسوع: "مَن لم يَكُنْ مَعي كانَ علَيَّ، ومَن لم يَجمَعْ مَعي كانَ مُبَدِّدًا" (متى 12/30). علينا أن نخرج نهائيًا من هذه التجاذبات الضيقة التي لا تخدم أحداً! الوحدة لا تعني النمط الواحد، ولا تتعارض مع التنوع والتعدديّة واختلاف الرأي. هذا حق مقدس. الاختلاف ثراء كبير للمجتمع والكنيسة ودافعٌ للحركة والنشاط شرط ان يتم بنيّة سليمة ومحبَّة عميقة لئلا يقود الى الخلاف والإنقسام فنرتكب خطيئة جسيمةً! لنضع امام أعيننا صلاةَ يسوع هذه: "ليكونوا واحدًا، أيها الآب، كما أنت فيّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا، حتى يؤمن العالم بأنك أرسلتني" (يو 17/21). هذه الصلاة ينبغي ان تكون صلاتنا اليوميّة الدائمة، وبرنامج عمل وخارطة طريق. الوحدة هي الأمل الوحيد لمستقبلنا! فيها خلاصُ كنيستنا وحَيَويتُها!
13- نشكر الله أن لنا اليوم بابًا جديدًا أسمه فرنسيس: "جاءَ شاهِداً لِلنُّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس" (يوحنا 1/7). بابا منفتح ومجدد، بسيطٌ ومتواضع، وقريب من الكلّ، يبتسم ابداً، ويستقبل بدفء الأب، ويرى الامور بعين نبويّة، ويحاول ان يعطي الكنيسة نفحةً روحيّة تُعيد اليها عنفوانَها ورونقَها. هناك ايضًا أساقفة هم رعاة حقيقيّون، ومبادرون بشكل يُلفت الانظار، وهناك كهنة ورهبان وراهبات يعيشون الانجيل بجذريّة، بعيدًا عن الاضواء وعن العقليّة الاكليروسانيّة. كما لنا علمانيّون بديعون، أسخياء وأمناء للانجيل ولاخوتهم. هؤلاء هم رفعة رأسنا وافتخارنا مما يُشجّعنا ان نرى منعطفاً جديداً للكنيسة الكلدانيّة، وعودةً الى خطّها وخطّتها في الاصالة والوحدة والتجدد والانفتاح على الروح القدس. من هنا تقع على عاتق كل واحد منا مسؤولية تاريخية للإسهام في خلق مناخ ملائم لتحقيق هذا الخطّ الانجيليّ الحيويّ، وللتعبير عنه في ظروفنا الصعبة والمعقدة.
العلمانيون أمل الكنيسة
14- العلمانيون نساء ورجال لهم كرامة ابناء الله نفسُها، وكامل الحقوق في الكنيسة. هم شركاء أصلاء وليسوا متفرجين، أو أرقامًا بلا هويّة، لهم مواهبُهم ومهارتُهم، وخدماتُهم المتنوعة، فيها قوًّة تجدديَّة تحمل الأمل والمستقبل. لذا نشجعهم على المشاركة في حياة الكنيسة والحياة العامّة، مشاركة حقيقيّة ومؤثرة: "إن المجمع الفاتيكاني الثاني يعتبر الخدمات والمواهب عطايا من الروح القدس، غايتها بناء جسد المسيح، وتأمين الرسالة التي تستهدف خلاص العالم. فالكنيسة يديرها فعلاً ويرشدها الروح القدس، الذي يوزّع مختلف المواهب التراتبية والكاريسماتيّة على المعمدين جميعًا، داعيًا اياهم للعمل والمشاركة، كلاًّ بطريقته الخاصة" (ارشاد رسولي، العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 1987 رقم 21). كذلك يؤكد الارشاد الرسولي: الكنيسة في الشرق الاوسط: "إنِّ المؤمنين العَلمانيِّين هم بالمعموديّة أعضاء بالكامل في جسد المسيح، ومشاركون في رسالة الكنيسة الجامعة. إنَّ مشاركتهم في حياةِ الكنيسةِ ونشاطِها الدّاخليِّ هي الينبوع الرُّوحي الدّائم الَّذي يُتيح لهم الذّهاب أبعد من حدود البنى الكنسيِّة. إنَّهم وكرسل في العالم، يترجمون بأعمالٍ ملموسة الإنجيلَ والعقيدةَ وتعليمَ الكنيسة الاجتماعيِّ" (رقم 50). لذا بفرح وارتياح نود تطوير مشاركتهم ونتطلع الى طروحاتهم واقتراحاتهم والتواصل معهم مهما كانت المسافات. للمؤمنين العلمانيين ممن لديهم احساس وفكر ومعرفة، فسحة واسعة من العمل في المجال الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والقوميّ. الكنيسة تبقى مرجعيّة روحيّة وتوجيهيّة تدعم هذه الأنشطة من دون ان تنخرط فيها!
15- وهنا لا بدّ ان نشير الى الانتخابات الجديدة المقبلة في العراق، ندعو العلمانيين الى المشاركة الفعّالة في الانتخابات ليكون لهم حضورٌ ودورٌ مؤثِر! نحن بحاجة الى أشخاص لديهم تاريخ وفكر وثقل وقدرة على خدمة الوطن والمجتمع عامةً والمكوّن المسيحيّ خاصةً. أملنا كبيرٌ في الانتخابات القادمة.
الهجرة التحدي الأكبر
16- الهجرة هي التحدي الاكبر لكنيستنا. ونزيفها ما يزال مستمراً ويُهدد وجودَنا التاريخيّ. لم يبق من المسيحيين في البلاد الا من هم من الطبقة المتوسطة والفقيرة، ونحن بهذه المناسبة نؤكد لهم محبتنا وسعينا للحفاظ عليهم وعزمنا البقاء معهم حتى النهاية. علينا تشجيعهم ليكملوا مشوارهم وشهادتهم ويبذلوا جهدهم لتكون صعوباتُهم ومعاناتُهم علامةَ رجاءٍ وسلامٍ لإخوتهم في الوطن.
يقول الارشاد الرسولي: الكنيسة في الشرق الاوسط: "ينظر رعاةُ الكنائس الشَّرقيّة الكاثوليكيّة ذات الحَقّ الخاصّ بقلق وألم إلى تقلّص أعدادِ مؤمنيهم في الأراضي البطريركيّة، بحسب التّقليد. إنِّي لواثقٌ بأنَّهم يبذلون ما في وسعهم لحثِّ مؤمنيهم على الرّجاء، وعلى البقاء في وطنهم، وعلى عدم بيع أملاكهم. أشجّعهم على أن يحتضنوا بعطف كهنتهم ومؤمنيهم في بلاد المهجر، داعين إيَّاهم لإبقاء الاتّصال الوثيق والدّائم مع عائلاتهم وكنائسهم، والحفاظ، قبل كلّ شيء، بأمانة على إيمانهم بالله، بفضل هُويّتهم الدّينيِّة المبنيّة على التّقاليد الرّوحيّة العريقة" (رقم 32).
وبهذه المناسبة أطلب من ابرشيّاتنا وابنائنا في بلاد الانتشار عدم تشجيع الهجرة، بل دعم الصامدين هنا معنويًّا وماديًّا لتحسين اوضاعهم من خلال استثمارات واقامة مشاريع تنموية في المنطقة لخلق فرص عمل لهم ولجيرانهم.
الحوار المسكوني
17- التعاون بين كنائسنا المختلفة اساسيٌّ من اجل خدمة اكثر فاعليّةً وقوّةً وتأثيراً في مجتمعاتنا. ولكي نتقدم في التفاهم ونقترب من بعضنا البعض، علينا ان نتحلى بالصراحة والتخلي عن الذات kenosis) ( والجرأة وتعلم العبر من التاريخ الذي قسّمنا واضعفنا. الوحدة مطلب يسوع وضرورة حياتيّة لبقائنا وتواصلنا في بلدنا هذا وفي المشرق. الوحدة تعبير ملموس عن صدقيّة ايماننا ومحبتنا وشهادتنا. لذلك لنقم بخطواتٍ عمليّة وواقعيّة كإعادة صياغة العقائد الايمانيّة والروحانيّات بلغة مفهومة ومقبولة للمسيحيين والمسلمين، واعطاء الكلمات معاني واضحة، والبحث عن خطّ راعويّ مشرقيّ واضح في تنشئة اطفالنا وشبابنا على الحياة المسيحية الصحيحة والعميقة، وتنسيق انشطتنا ومؤسساتنا. لا نعملن منعزلين وكأننا جماعات تاريخيّة غير مشخصنة! ولا نفكر بأن الشركة القانونيّة مع روما عائقٌ، انها ليست عائقاً أبداً. لروما موهبة خاصّة للتتقدم في شركة المحبّة كما يقول أغناطيوس الانطاكيّ، والخدمة كما يؤكد البابا فرنسيس. ثقتُنا كبيرة بالبابا الجديد في تجديد ممارسة الموهبة هذه، ومعاونة الكنائس الشرقيّة الرسوليّة على خدمة الايمان والمحبة، فتمهد الطريق أقلّه الى الشركة!
وبالنسبة لكنيسة المشرق الاشورية والشرقية القديمة، الكنيسة الكلدانية تجدد دعوتَها الى الوحدة وتعرب عن عزمها في مواصلة هذا الهدف الوجداني الساميّ الذي من اجله صلى الرّب يسوع.
الحوار مع اخوتنا المسلمين
18- اساس الحوار المسيحيّ – الاسلاميّ يقوم على محبّة الله ومحبّة القريب. التلاقي والحوار والاحترام المتبادل بناءٌ للسلام والتعاون بين الافراد والجماعات الدينيّة من اجل الخير العام واستقرار البلاد والعباد. يقول الارشاد الرسولي الآنف ذكره: " إنَّ طبيعةَ الكنيسة ودعوتَها الكونيِّة تتطلَّبان منها إقامة حوار مع أعضاء الدّيانات الأخرى. يرتكز هذا الحوار في الشَّرق الأوسط إلى عَلاقاتٍ روحيِّةٍ وتاريخيِّةٍ تجمع المسيحيِّين مع اليهود والمسلمين. هذا الحوار، الَّذي لا تفرضه بالأساس اعتبارات براغماتيّة ذات طابع سياسيٍّ أو اجتماعيّ، بل يستند، قبل كلّ شيء، إلى أُسسٍ لاهوتيِّة مرتبطة بالإيمان. اليهود والمسيحيون والمسلمون يؤمنون بإله واحد، خالق جميع البشر. فليُعِدِ اليهود والمسيحيون والمسلمون اكتشاف إحدى الرّغبات الإلهيّة، أي الرّغبة في وحدة وتناغم العائلة البشريَّة. وليَكتشفِ اليهودُ والمسيحيّون والمسلمون في المؤمن الآخر أخًا يُحترم ويُحَبّ كي يقدّموا، كلٌّ على أرضيّته أولاً، شهادةً جميلةً للصفاء والمودّة بين أبناء إبراهيم. فلتكن معرفة إله واحد بالنِّسبة للمؤمن الحقيقي – إذا تمَّ عَيشُها بقلب طاهر - دافعاً قوياً للسَّلام بالمنطقة وللتعايش المشترك، القائم على الاحترام بين أبنائها، وليس أداةً تُستغلّ في إشعال الصّراعات المُتَكَرّرة، وغير المبرَّرة" (رقم 19).
19- المسيحيون جزء من هذا النسيج العراقي والمشرقي ومن حضارته العريقة، ويرتبطون بإخوتهم المسلمين والصابئة والايزيديين، ويبقون شهودَ محبّة وسلام، وتعاون وازدهار، مهما كانت الظروف والاسباب. هذه امانة ايمانيّة ووطنيّة واخلاقيّة. وجودهم في غاية الأهميّة للشرق العربي والاسلامي بسبب انفتاحهم واخلاصهم واخلاقهم. على المسيحيين إيجاد أجوبة عن أسئلة المسلمين كما فعل آباؤهم خلال فترة الأمويين والعباسيين. على الكنيسة ان تجد منهجيّة جديدة ولغةًّ لاهوتيّةً جديدةً ومفهومةً بالعربيّة لمساعدة المسيحيين والمسلمين في فهم إيماننا واهميّة احترام الحرية الدينيّة لكل إنسان وكل مجتمع كما جاء في وثيقة "الكرامة الإنسانية" حول الحرية الدينيّة الذي أصدره المجمع الفاتيكاني الثاني. نتمنى من الأصواتِ المعتدلة في الإسلام وهي تشكِّلُ الاغلبية، أن ترتفع عاليًّا لتعزيز العيش المشترك ورفض العنف ضدّ المسيحيين. لنا في العراق علاقات اخويّة طيبة مع المرجعيات الدينية المسلمة والعديد من الاشخاص، نحرص عليها ونفتخر بها.
كلمة اخيرة
20- وفي الختام أتوجه الى الجميع وقد بدأنا عامًا جديداً 2014، مشجعاً الكل ان يكونوا متميزين بالروح والحق ويحفظوا الايمان في قلوبهم وأن يعكسوه في حياتهم اليومية، وان يعوا الكرامة الفائقة التي وهبت لهم بالمعموذية، وينمّوا وعيّهم الكنسيّ من خلال مشاركتهم الفعالة في وحدتها وشركتها ورسالتها. "مَن كانَ لَه أُذُنان، فلْيَسمَعْ مما يَقولُ الرُّوحُ لِلكَنائِس: الغالِبُ سأُعْطيه مَنًّا خَفِيًّا، وسأُعْطيه حَصاةً بَيضاء, حَصاةً مَنْقوشًا فيها اسمٌ جَديد لا يَعرِفه إِلاَّ الَّذي يَنالُه" (الرؤيا 2/17). وبهذه المناسبة يتوجه فكري الى سوريا، الى كنيستها الممتحنة واعرب لها عن تضامني وتعاطفي معها وصلاتي لكيما يقصّر الرب محنة السوريين وينعموا بالامان والاستقرار.
نعمة الله تكون معكم وتبارككم وتحميكم من كل مكروه، بشفاعة امنا العذراء مريم وشهدائنا القديسين. آمين.
البطريرك لويس روفائيل ساكو
31 كانون الثاني 2014
الذكرى الأولى لانتخابي بطريركًا للكنيسة الكلدانية