المحرر موضوع: كم هو هشّ هذا الانسان العظيم  (زيارة 792 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
كم هو هشّ هذا الانسان العظيم

شمعون كوسا

سأتناول أمراً عادياً جدا قد يثير استغراب الكثيرين . انها حالة تدعوني للتوقف والتفكير بالرغم من بداهتها . لقد اعتدت على التعبير عمّا يجول في خاطري ويشغل أفكاري ، هذا ما جال في خاطري ولا بدّ لي ان اكتب عنه : 
كلما تلقيت نبأ وفاة احد الاشخاص ، إذا كان من المقربين او المعارف او غيرهم ، أقطع خيط افكاري لدقائق وارفع رأسي  شاخصا بانظاري الى نقطة غامضة بعيدة ، ودون ان أهزّ رأسي اقول صامتا : لماذا ، لماذا وكيف ؟ لماذا بهذه السهولة وهذه البساطة ؟ لماذا في هذا الوقت المبكر من الحياة ولماذا هوَ بالذات . اقول هذا ايضا عن مشاهير لعبوا دورا مهما في حياتهم وخلّدوا آثاراً . إن ظاهرة الاختفاء بسرعة وبسهولة تضعني في حيرة تبقى ساهرة في خيالي لانها لا تلقى جوابا.
الحياة بكافة دقائقها مليئة بمثل هذه الحالات ، وهذا امر طبيعي لان قدر الانسان هو الموت . تتنوع الحالات بتنوع الظروف واختلاف الاجواء ، وبما ان الكلام يطيب دوما اذا رافقته قصص وحوادث واقعية ، ساقوم بتأمين هذه المرافقة عبر بعض حالات بسيطة عشتها أوسمعتها :

كان هناك طبيب في مقتبل العمر يمارس مهنته بهدوء وسعادة . بدأ صيته يذيع بين الناس وهذا اكسبه شعبية كبيرة . كان انسانا لطيفا ، طيب المعشر . ذكاؤه أولد فيه طموحا ودعاه لتوسيع مساحة نشاطاته ،  فوضع العديد من الخطط والمشاريع ومن ضمنها كان بناء مستشفى خاص يديره بامكانياته مستعيناً ببعض الاطباء من اصدقائه .
 خرج الطبيب ذات يوم بمعية احد اصدقائه الى مسبح المدينة ، حيث كان قد اعتاد على قضاء ساعة او ساعتين في السباحة . كانت هذه الرياضة توفر له الاسترخاء الذي كان يحتاج اليه في غمرة انشغاله. دخل الطبيب حوض السباحة مرة ومرتين واستلقى بعد ذلك  تحت المظلة على الاريكة المخصصة له بجانب صديقه . استمر صديقه بالسباحة لانه كان قد دخل في مباريات كرّ وفرّ مع بعض السباحين المتواجدين معه في الحوض . في احدى كرّاته ، جلب انتباهه هاتف الطبيب الذي كان يرنّ  مطوّلا ولا يردّ عليه أحد . فكّر الصديق بان الطبيب نائم فتركه واستأنف الفرّ . بعد فترة قصيرة رنّ الهاتف من جديد وتوقف ، ولم يطل كثيرا ليعاود الرنّة ثالثة ورابعة ، فقام الصديق بمناداة الطبيب من وسط الحوض ، فلم يلقَ ردّة فعل . خرج من حوض السباحة وبدأ  يؤنب صديقه الطبيب بصوت عال قائلا : الا يكفيك نوما ، الا تسمع الهاتف ، لماذا لا تجيب ؟ ، معتبرا الطبيب غائصا في نوم عميق ، امسك به وهزّه وقلبه على ظهره ، ففوجئ برؤية جسم بارد ووجه مصفرّ، امسك بيده ليفحصها ، وعندما افلتها وسقطت متدلية ايقن بان صاحبه كان قد فارق الحياة . بقي حائرا من امره لان الطبيب فارق الحياة دون سابق إنذار . كيف اختفى هذا الطبيب الشاب ، ولماذا تبخر بهذه السرعة وهذه السهولة وهو ممتدّ على الاريكة ، وتبخرت معه كافة طموحاته ومشاريعه ؟
وفي حادثة اخرى سمعتُها يوم وقوعها ، كان الامر يتعلق باصدقاء توجهوا في نزهة قرب نهر يقع في احدى بقاع الشمال . بعد ان انهى الاصدقاء جلستهم التي بدأوها أكلا وشربا وأنهوها لهوا وطربا ورقصا وغناء ، أحسّ احدهم برغبة شديدة لتلطيف جسمه بماء النهر . دخل الشاب النهر بارتعاش تحول الى انتعاش واستمر في سيره الى ان بلغ منتصف النهر واذا به يرى نفسه منجرفا في دوامة ، لم يعرللتيار اهتماما في البداية معتبرا ان النهر يمازحه ، واذا بالتيار يكتسب  قوة لا يمكن مقاومتها،  فبدأ بالصراخ مستنجدا ، هرع احد اصدقائه الى نجدته دون ان يعرف ما ينتظره ، واذا بالصديقين تلتهمهما الدوّامة ، وكأنهما اللقمة التي كان يتربص بها وحش مفترس . شابان في مقتبل العمر ، يتنفسان السعادة في حياة بدأت لتوّها ، كانا يبتسمان لكل شئ لانها لم يكونان يبصران غير الفرح ،  اختفيا بسرعة البرق ، واختفت معهما آمالهما وامّحى مستقبلهما. اظلمت الدنيا واختفت لان الشابين الممتلئان حياتا زالا عن الوجود . لدى سماعي الخبر المؤلم في يومه ،  تساءلت بيني وبين نفسي ، واتجهت بالسؤال الى الجرف قائلا : لماذا يا نهرُ ، لقد كنتَ جميلا بجريانك ، لقد انجذب هؤلاء الشباب لخرير مياهك وصفائِها ، لماذا غدرت بأناس اغريتهم فدنَوا منك ؟  توقّف النهر ، ورمقني بنظرة ازدراء من طرف عينه اليسرى وكأني به يقول :  إن استفهامك غريب جدا ، انا لا اعرفك كما لا اعرف أيّ من هذين الشابين . أنا لم أصنع نفسي ، أنا مجرد سرير لمياه تسرع وتبطئ أو تتموج في جريانها ، طريقي تفرضه المنبسطات والمنحدرات وأيضا التجاويف التي تتميز بمغامراتها الخاصة ، كل هذا  طبيعي بالنسبة لي ، ويؤسفني ان تجدوا انتم الهلاك فيه ، كانت الدوامة هذه ستبتلع كل ما يصادفها من شجر وحيوان واجسام اخرى .

بعد هذا أنتقلت بتفكيري الى العظماء الذين تركونا ،  رؤساء خدموا الناس بتفانٍ ونزاهة ، كتّاب أبدعوا باشعارهم ورواياتهم ، فلاسفة اهتدت الاجيال بنظرياتهم وتحليلاتهم ، أو اصواتا جميلة أصيلة ، لم تفقد رنتها وبقيت تطرب السامع ليومنا وكأنها في أولى انطلاقاتها . توقفتُ هناايضا وقلت بنفس التأوّه الصامت : لماذا اختفى هؤلاء الخالدون ، انهم كانوا عظماء وكانوا يفيدون العالم بافكارهم وكتاباتهم ومشاريعهم واختراعاتهم واصواتهم الجميلة، اختفوا عن الانظار بسرعة وبسهولة ، اصبح مصيرهم مصيرالجهلة والاغبياء والمجرمين الذين يتبرم منهم المجتمع او يرغب في التخلص منهم .
 انتقل الفكر بين العقود التي عشتها واستعرضتُ حالات لا تحصى وقلت : يا لهشاشة هذا الانسان العظيم . كائن يستوعب العالم كله ويحتضنه بعقله ، كائن يفكر ويبدع ويصنع العالم ويطوره ، كائن عبقري يضع خططا مستقبلية ، يختفي هذا العبقري العظيم  على حين غرّة لمجرد شهقة ، يختفي مختنقا بقطرة ماء ، يختفي لعسر تنفسه ،  واذا لم يمت يدخل في غيبوته او يشلّ الى الابد . هذا الكائن العظيم القوي بعضلاته وبأسه ، هذا القوي الذي بامكانه قهر اشرس الاعداء ، يختفي لانه بالغ بطعامه مثلا ، او وقع ضحية اصطدام ، او اصبح هدفا لضربة طائشة او سقوط شجرة ، وملايين اخرى من الاسباب التافهة التي تودي بحياة هذا العملاق العظيم .
ختامي سوف لن يكون مختلفا عن تكراري المملّ ، لاني ساقول ايضا :  الانسان عظيم جدا غير انه سريع العطب . ففي الوقت الذي يمكنه الافتخار بعظمة عقله الخلاق ، يجب ان يتصف هذا العملاق بالتواضع العميق لانه في النهاية هو لاشئ بكل ما تعنيه الكلمة ، لا يجب ان تدعوه عظمته للعنجهية والتعالي والانانية ، لان احقر الاسباب واتفهها يمكن ان تمحوه عن الوجود الى الابد وبسرعة البرق . هذا كل ما جال بخاطري . ألم اقل بان ما ساقوله شئ عادي وبديهي جدا ؟!!
اريد ان اتوقف عند هذا السياج ، لاني اذا تجاوزت هذه الحدود سأقع في ارض النُصح والإرشاد ، عقار يحتكم على سند ملكيته إخوتُنا رجال الدين !!!