ذكريات عن إعتقال وإستشهاد الخالدين يوسف ويوبرت ويوخنا=====================================
صدام حسين: " للمرة الثالثة يعملها الآثوريون... وهذه المرة راح أكسر راسهم"
أبرم شبيرا
في هذه الشهر الذي تمر الذكرى (29) على إستشهاد الخالدين يوسف توما ويوبرت بنيامين ويوخنا إيشو من مؤسسي وقيادي الحركة الديموقراطية الآشورية (زوعا) بعد إعتقالهم في صيف عام 1984 ومن ثم أعدامهم من قبل النظام البعثي المقبور في بداية شهر شباط من عام 1985، تكثر الأقلام والكلمات بهذا الحدث الحاسم في التاريخ المعاصر للحركة القومية لأمتنا لما وقفه هؤلاء الخالدين مواقف بطولية قل نظيرها سواء أثناء الإعتقال أو المحاكمة الصورية ومن ثم إرسالهم إلى مسرح الإستشهاد في سجن أبو غريب غربي بغداد. ومن حق، لا بل هو واجب، رفاقهم في الحركة وأصدقاءهم أن يعبروا بكل ما تجيش بها مشاعرهم وأفكارهم وترسخ مواقفهم وتؤكد سياساتهم تجاه هذه المسيرة البطولية لهؤلاء الشهداء ولكن في نفس الوقت ليس من حق أحد أي من كان أن يستغل هذا الحدث وأسم الشهداء لتأكيد وترسيخ بعض السياسات والمواقف التي لم تكن لا من قريب ولا من بعيد من ضمن السياسات والمواقف التي أستشهد هؤلاء الأبطال من أجلها، وأنه من المؤسف لا المغزي أن يستغل البعض ذكرى إسشهاد هؤلاء الأبطال للتناطح وكسب المكاسب. صحيح كان هؤلاء من قادة زوعا ومنضمين إليها ولكن إذا أعتبرنا زوعا الحركة الرئيسية والحزب الممثل لأمتنا فإذن هؤلاء هم شهداء الأمة قبل أن يكون شهداء زوعا لذلك فمن حق وواجب كل إنسان محب لأمته أن يثمن تثميناً عاليه هذه البطولة في التضحية والإستشهاد.
على أية حال، أن تسطير هذه السطور ليس الغرض منها تأييد هذه السياسات والمواقف أو رفضها لأن قدسية الحدث لا يسمح لنا إطلاقا التطرق إلى مثل هذه المسائل التي تؤخر ولا تقدم ولكن الغرض هو أنعاش ذاكرتي عن الأيام التي سبقت إعتقال المجموعة التي تراوح عددها أكثر من 21 عضوا في زوعا والأيام التي قضوها في السجن وحتى آخر أيام إعدام الشهداء وما صاحب ذلك من اجواء مرعبة ومخيفة سادت بين معظم أبناء أمتنا في تلك الفترة. هذه هي بعض الحقائق عن تلك المرحلة الحرجة من مرحلة إعتقال وإستشهاد مناضلي أمتنا ولكن من المؤكد ليست كلها لأنها مجرد ذكريات مر عليها ما يقارب ثلاثة عقود وربما تآكل جزء منها بالتقادم الزمني فهي عرضت بوجهة نظر شخصية معايشة لجوانب من الحدث ومن المؤكد العديد من أعضاء زوعا ومن أفراد عوائلهم وأصدقائهم لهم الكثير من الذكريات المؤلمة عن هذه المرحلة والتي هي من الضروري لزوعا أن تقوم بتوثيقها ونشرها لأنها مرحلة مهمة في سلسلة النضال القومي المعاصر لأمتنا.
في ليلة من شهر تموز عام 1984 خرجنا من النادي الثقافي الآشوري في بغداد وكنا مجموعة زادت عن عشرة أشخاص وبينهم أعضاء وكوادر في زوعا وإنطلقنا إلى منطقة الدورة حيث كان مسكن أحد أعضاء زوعا وهناك قضينا ساعات طويلة دنت من طلوع الفجر في أحاديث ومناقشات حامية ووطيسة في السياسة والقومية والأحزاب جرت بين عدد من الذين كانوا معروفين بـ "المستقلين" وأنا واحد منهم وأعضاء من زوعا. لم يكن جوهر المناقشات الإختلاف على المسائل القومية وأهمية وجود تنظيم سياسي ومساعدته بقدر الإمكان خاصة بعد ألتحاق زوعا بركب الكفاح المسلح في شمال الوطن وما يتطلب ذلك من مساعدات مالية ومعنوية، لكن الإختلاف كان على أسلوب العمل الذي كان يسلكه بعض أعضاء زوعا المشاركين في هذه المناقشات والذي كان قائماً على الإندفاع والحماس في الفكر والعمل القومي والتنظيمي وعدم الإحتراس وتقدير المخاطر الناجمة من العمل شبه المكشوف في ظل نظام سياسي مستبد لا يقر ولا يعترف بمثل هذا التنظيم. وكان هذا الأسلوب يعكس أمرين: أولهما: إخلاص وتفاني هؤلاء من أجل أمتهم وإستعدادهم للتضحية من أجلها ومن دون خوف أو تردد. وثانيهما: قلة الخبرة والتجربة في العمل السياسي والتنظيمي حيث معظمهم كانوا من الشباب والطلاب اللذين كانوا في مقتبل حياتهم السياسية.
في اليوم الثاني من بعد مناقشات الليلة الماضية، جاء إلى مسكني أحد الكوادر من اللذين شاركوا في المناقشات وهو صديق عزيز وكان جاري ساكناً في نفس المنطقة في بغداد فأعترف بأن ما ذكرته في مناقشات الليلة الماضية هو صحيح وأن مثل هذا الأسلوب سيعرضهم إلى الإعتقال من قبل النظام حيث كانت هناك أخبار غير مؤكدة تأتي من كركوك بإحتمال قيام أزلام النظام البعثي بحملة إعتقالات ضد أعضاء زوعا... وفعلاً لم تمضي بضعة أيام حتى بدأت سلسلة الإعتقالات إبتداءاً من كركوك وموصل وحتى بغداد لا بل وطالت معسكرات الجيش حيث كان البعض من أعضاء زوعا في الخدمة العسكرية الإجبارية وشملت هذه الأعتقالات أيضا صديقي وجاري المنوه عنه أعلاه. ومن يتابع حيثيات وتفاصيل الأيام السابقة لإعتقالهم والمحاذير أو التهديدات التي وجهت إلى البعض من المعتقلين من جهات أمنية أو غير أمنية كلها تؤكد حماسهم وعدم الخوف من الإستمرار في العمل السياسي من جهة وقلة الخبرة السياسية والتنظيمية والإفتقار إلى الحذاقة والفطنة في الإختفاء عن العيون الإستخباراتية والإبتعاد عن قبضة السلطة من جهة أخرى، وهو ما سبق وأن أكدناه في أعلاه.
أمضى مناضلوا زوعا ما يقارب ستة أشهر بين المعتقل والمحاكمة الصورية والسجن بعد أن حكم عليهم بالسجن المؤبد مع مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة. وبعد ورود أخبار عن الحكم عليهم وزجهم في سجن أبو غريب والسماح بزيارتهم في الأيام المحددة، كنت أنا والصديقان نوئيل داود توما والمرحوم إيشايا هرمز يونان أول من قام بزيارهم في سجن أبو غريب إضافة إلى أفراد من عوائلهم، ونحن الثلاثة لم تكن لنا أية صلة عائلية معهم بل مجرد علاقة صداقة وهذا ما أثار مخاوف البعض من المعتقلين على زيارتنا لهم لأنهم كانوا يعتقدون بأن من بين السجناء عملاء للنظام يراقبون زوار السجن وإننا بهذه الزيارة سنعرض حياتنا للخطر. لم يكن بين المعتقلين الشهداء الثلاثة يوسف ويوبرت ويوخنا وقد جاءت الأخبار بأنه حكم عليهم بالإعدام ولكن كان في السجن مجموعة من أعضاء حزب الدعوة الإسلامي الذين حكم عليهم أيضا بالإعدام ولكن عندما رفع قرار المحكمة إلى رئيس النظام البعثي المقبور صدام حسين للمصادقة عليه خفف الحكم من الإعدام إلى السجن المؤبد مع العلم بأن البعض من هؤلاء كانوا قد شاركوا في أعمال العنف والإغتيالات، وفي حينها ذكروا بأن الشهداء الثلاثة كانوا معهم وأنه من المؤكد عندما تحول المحكمة قرار الحكم بالإعدام إلى رئيس النظام للمصادقة عليه سوف يخفف الحكم إلى المؤبد كما فعل معهم لأن الإثباتات ضدهم ليس قوية وكافية لكي يحكم عليهم بالإعدام، وهذا الكلام زرع نوع من الأمل في قلوب أهل الشهداء بأنه في القريب سوف يلتقون بهم في السجن. وبعد مدة تم تبليغ عوائل الشهداء لزيارتهم غير أن الأمر لم يكن هكذا فتبين بأن تبليغهم هو لإستلام جثثهم التي وضعت في أكياس (كواني) ويقال بأن عيونهم كانت مقلوعة.
بعد إجراء المراسيم الكنسية وبنوع من التردد والخوف، تم دفن الشهيدين يوبرت ويوخنا في مقبر "الآثوريين" في منطقة الراشدية على طريق بعقوبة، أما جثة الشهيد يوسف فقد حملها والده المناضل توما الزيباري ليدفنه في قريته "بليجانه" في شمال الوطن. كنًا في بغداد نزور قبر الشهيدين لوضع بعض الزهور عليها وتبخيرها ولكن إستلمنا تحذيرات في حينها بأن حارس المقبرة هو مخبر للأمن العراقي يقوم بأخبارهم عن الزائرين لقبر الشهيدين ولا ندري فيما إذا كان مثل هذه المعلومات صحيحة أم لا ولكن من المؤكد بأن كل الزهور والمأثورات التي كانت تضع على القبرين كانت أما تسرق أو تتلف من "مجهول" والحارس ساكن هناك ليل نهار. لهذا كانت المخاوف والمحاذير سائدة في عدم تعمير وتزين القبرين والتقليل من زيارتهما. والحال أيضا نفسه مع قبر الشهيد يوسف في قرية بليجانه الذي زرته أيضا عدة مرات لم يتم تعميره مع قبر الشهيدين يوبرت ويوخنا إلا بعد سقوط الصنم البعثي. كنت أعرف معظم المعتقلين ومنهم الشهداء الثلاثة وكانت لي مع بعضهم علاقات صداقة قوية وتتداخلات فكرية سياسية بحيث كنت أعرفهم حق المعرفة ومن جوانب كثيرة فكلهم كانوا بالنسبة لي مناضلين شجعان من الدرجة الأولى. ولكن وحسب إستبدادية النظام وقوانينه الجائرة كانوا كلهم "مجرمين" يستحقوق العقاب ومن من جانب آخر ووفق المعايير الديموقراطية والإنسانية لا بل الواقعية فأنهم كانوا أبرياء بكل معنى الكلمة فلم يقترفوا أي جرم ولا حاولوا الإستلاء على السلطة أوإغتيال رجالاتها ولكن النظام الجائر حكم عليهم بتهم جائرة لا أساس لها قائمة على ألإنضمام إلى تنظيم سري له إتصالات بجهات خارجية في زمن الحرب والعمل ضد السلطة وإقتناء سلاح وأجهزة "متطورة" للتجسس على أساس أن المسدس الصغير القديم (من زمن العصملي) والكاميرا البسيطة التي عثرت عند الشهيد يوخنا إيشو أولت وفق هذا السياق لتبرير حكم الإعدام بحقهم. من المؤكد بأن القاضي المستبد حكم على هؤلاء الثلاثة بأقصى عقوبة مستندا إلى مكانتهم في التنظيم ومعرفة خلفياتهم ودورهم ونشاطهم في الحركة ولكن الأمر المثير للإنتباه هو أن أسمائهم الثلاثة تبدأ بالحرفين (ي) و (و)، أي
يوسف –
يوخنا –
يوبرت ربما هذا تيسر للقاضي إيجاد كبش الفداء وتحقيق رغبة رئيسه المستبد في كسر رأس "الآثوريين"؟؟. وقيل في حينها بأنه حكم بالإعدام أيضاً على السيد
يونادم كنا الذي هو الآخر يبدأ أسمه بنفس الحرفين، أهي مصادفة أم مقصودة من القاضي؟
زيارة لقبر الشهيد يوسف توما قبل تعميره في قرية بليجانه في شمال الوطن وفي حينها دفنت قلمي في تراب قبره معاهداً أمام الله والحاضرين بأن لا أسخره إلا لخدمة نفس الرسالة التي من أجلها أستشهد.
بين إعتقال مناضلي زوعا في صيف عام 1984 ولغاية يوم الشهادة في شباط 1985 كانت هذه الفترة من أكثر المراحل رهبة وخوفا في مجتمعنا حيث بعد إعتقالهم أختفى معظم أصدقائهم وحتى بعض من أفراد عوائلهم وأقاربهم خوفاً من بطش النظام. فمثل هذه الأجواء تكون أرضاً خصبة لإنتشار وتناقل الإشاعات والإخبار المؤكدة وغير المؤكدة كإنتشار النار في الهشيم. فكنا في حينها نسمع الكثير منها من يقول بأن فلان قد أتصل بأعلى الجهات الرسمية لإطلاق سراحهم ومنهم من كان يقول بأنه سيفرج عنهم قريبا كما أفرج من قبل عن بعض الآشوريين بعد فترة قصيرة من إعتقالهم في السنوات القليلة الماضية ... وهكذا، ولكن من أكثر الإخبار إثارة التي كانت قد وصلتنا هو ماذكر بأن رئيس النظام المقبور صدام حسين كان قد قال أثناء المصادقة على قرار إعدام الشهداء:
"للمرة الثالثة يعملها الآثوريون... وهذه المرة راح أكسر راسهم". فأصبح هذا الخبر وخاصة ما قصده بالمرة الثالثة لغزا لدينا للتأويل والتحليل... فما هي المرتين السابقتين التي عملها الآثوريون حسب أعتقاده.... هل هي حركة عام 1933، و مشاركتهم في قمع تمرد مايس عام 1941 والمدعوم من قبل النازية والذي قام به بعض من تلاميذ أودلف هتلر وكمال أتاتورك... أم كان القصد هو أعتقال مجموعة من الشباب الآشوري بتهمة تشيكلهم تنظيم سياسي في بداية السبعينيات و مرة أخرى لمجموعة أخرى في الثمانيات من القرن الماضي ومن ثم الإفراج عنهم بعد عدة أيام. ولكن مهما كان القصد فأنه من المؤكد بأن رئيس النظام المقبور لم يستطيع كسر رأس الأثوريين ومن يمثلهم سياسيا، إذ تواصل الآشوريون ممثلين بنضال الحركة الديموقراطية الآشورية في تلك الفترة بشكل أكثر فاعلية وحماس فأنضم إليها المئات من الشباب ومن مختلف الطوائف والملل من أبناء شعبنا وشاركت مع بقية الفصائل السياسية الوطنية في العمل من أجل نيل حقوق شعبنا في الوطن. ولكن عدم قدرة أعتى نظام دكتاتوري على كسر رأس الآثوريين جعلني أن أتذكر الدودة الصغير جداً التي تولد في التفاحة وتفسدها ومن ثم تفسد البقية إن لم تكافح منذ البداية.. وحسرتاه.. هناك ملامح على وجود مثل هذه الدودة في مجتمعنا وفي بعض أحزابنا وتنظيماتنا والتي بدأت تتحول إلى تنين مفترس بفعل الرائحة الزكية المشهية التي تنبعث من كراسي الحكومة والبرلمان، فإن لم تكافح هذه الدودة والحد من تحولها إلى تنين مفترس فإن الفساد لا محال سوف ينتشر في كل أجزاء الأمة وتنظيماتها القومية. أمل أن لا نصل إلى هذه الحالة المأساوية المهلكة ... وهنا أيضا تذكرت المثل التوراتي الذي يقول "الأمل المرجأ يمرض القلب" (سفر الأمثال 13-12). واالقارئ اللبيب يفهم المقصد من هذه الأمثال.
فليكن دم الشهداء الأبرار وذكرى إستشهادهم سبيلاً قوياً وفاعلاً في إبادة مثل هذه الدورة وقتل التنين لكي يستمر عجز أعتى دكتاتوريات العالم من كسر رأس الآشوريين. فإذا كان الآشوريون وحدهم على الساحة السياسية في تلك الفترة ولم يستطيع الدكتاتور المستبد من كسر رأس الآشوريين فكيف سيكون الحال لو توحدوا مع الكلدان والسريان تحت راية قومية واحدة؟؟؟