المحرر موضوع: نصيبين .. زنبقة العفاف المسيحي في التاريخ السرياني  (زيارة 2090 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل seryane

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 42
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
[  نجيب ياكو
 للتعرف على المعالم والكنوز الثمينة لمدينة نصيبين السريانية يتطلب الكلام في البداية القاء نبذة يسيرة من جغرافيتها وتاريخها . حيث انها تجلس مع الامتدادات السهلية لجبال طوروس من الجهة الجنوبية لتركيا الحالية . كما انها تلامس جبال طورعبدين المقدسة التي حفظت اهلها لفترات طويلة من الظروف القاهرة والعصيبة . وقد تميزت نصيبين بتسميتها بالمدينة الحدودية في الماضي كما في الحاضر حيث قديما كانت تمثل الحدود الفاصلة بين الامبراطورية الفارسية والرومانية وحديثا تتنازع في انتمائها مع نفسها بين الحدود التركية والسورية المفروضة قسرا بعد اقتطاعها من بلاد سوريا لصالح تركيا . ويربط المؤرخون تسمية اللغة السريانية بالشرقية والغربية اشارة لوقوع البلاد السريانية بين شرق نصيبين وغربها . كما ان مدينة القامشلي التي اقيمت في الجانب السوري المقابل لها في العقد الثاني من القرن العشرين لاستيعاب النازحين من اهالي نصيبين والقرى المجاورة لها والتي هربت من البطش العثماني وازلامهم الماجورين وعليه تعرف لدى السريان بمدينة نصيبين الجديدة . ان معنى كلمة نصيبين وردت من المفردة السريانية التي تعني الغراس الكثير من الاشجار والتي ساعدت الظروف الطبيعية الملائمة في انباتها وكثافتها نتيجة توفر المناخ المعتدل والمياه الوفيرة والتربة الخصبة . وعندما دخلت المسيحية اليها في النصف االثاني من القرن الاول الميلادي حينما خرج مار ماري من الرها ( اورهاي ) للتبشير بالمسيحية في بلاد ما بين النهرين ( ميسوبوتاميا ) . وكما هو معروف انه تلميذ مارادي الرسول الذي كان قد بشر مملكة الاباجرة ( اسروينا ) او ( الرها ) في عهد ملكها ابجر الخامس ( اوكوما ) الذي عاصر عهد المسيح له المجد وله رسائل متبادلة معه .  فعندما قدم الى مدينة نصيبين قام بنشر الديانة الجديدة ( المسيحية ) واخذ يحطم الاصنام من معابدها الوثنية ويقيم في مكانها الاديرة والكنائس . وعندما نمت وكبرت البذرة المسيحية التي زرعها في التربة النصيبينية الخصبة اثمرت ثمارا ناضجة وطيبة ويشهد عمله ظهور العشرات ان لم نقل المئات من الاعلام السريانية البارزة . والتي تتجلى في الكثير من ابنائها الاخيار كالشهداء الابرار والعلماء والادباء البارزين والملافنة والاساقفة الكبار والتي لا يستوعب عمود المقال من حصرها او ذكرها وعلى هذا الاساس اطلق السريان على مدينة نصيبين بام العلماء ومدينة المعارف وام الملافنة . ومن اهم اعلامهاعلى سبيل المثال لا الحصر الاسقف يعقوب النصيبيني (309 ـ 338 م ) الذي انشأ مدرسة نصيبين التي ذاعت  شهرتها في مختلف بقاع العالم ومار افرام السرياني ( 306 ـ 373 م ) المعلم الكبير والناسك الفضيل والملفان العظيم الذي ودع مدينته باكيا ليقيم في جبال اسرهوني المقدسة ( الرها ) في عهد الامبراطور الروماني يوليانس الجاحد في حين كان قد لقب مدينة ولادته نصيبين بمدينة اكاد العظيمة . كما يجب ان لا ننسى الراهبة المظفرة والجوهرة السريانية والمسيحية النصيبينية فبرونيا العظيمة ( 284ـ304 م ) التي انتصرت على الجبروت الروماني الغاشم من خلال اكتسابها المثل اليسوعية الربانية كالوداعة والتواضع والعفاف والتقوى والايمان وغيرها . والتي ستضيف بحثنا قيمة موضوعية وتستنيره من خلال التطرق الى سيرة حياتها النسكية المباركة والتي من خلالها انتقلت الى الحياة الابدية في جنات النعيم السماوية .
ان مدينة نصيبين تتعاظم وتتسامى من خلال وجود الضريح المقدس للقديسة الشهيدة فبرونيا اليسوعية اضافة الى الكنيسة الشهيرة المكرسة باسمها الكريم . ويشير الاب جان فييه اليسوعي الى نفوذ الوجود اليهودي في نصيبين خلال العهد الاسلامي ووصل الامر بهم الى ان يهدموا كنيستها ثلاث مرات في جنح الظلام ويقوم اسقف حران  شمعون الزيتي من اعادة بنائها .
تبدأ سيرة القديسة فبرونيا الجليلة الذكر منذ ان اخذت من مربيتها وادخلت دير الراهبات في نصيبين وهي لا زالت في السنة الثانية من عمرها . ولما كانت عمتها ( برونة ) رئيسة الدير قد بذلت قصارى جهدها في تربيتها على الفضائل المسيحية السامية لكي تحفظها من الضلالة وتنقذها من المعاثر ولا سيما انها كانت رائعة الجمال . ولما كبرت فرضت على نفسها قيودا نسكية صارمة كتناول الطعام مرة كل يومين والنوم على سرير خشبي رفيع وكثيرا ما كانت ترقد على الارض العراء في سبيل قمع شهوة جسدها . وحينما تراودها التجارب والهواجس كانت تنهض وتلوذ بالصلاة والقراءة الروحية لكي تتمكن من طرد تلك الافكار الشريرة . كما انها تميزت بحب العلم والمعرفة الى درجة جعلت الرئيسة والراهبات يتعجبن من سعة معارفها . وعندما كانت النساء العلمانيات يقصدن الدير للاشتراك في الصلاة والقراءة المقدسة التي تتلوها فبرونيا , امرت الرئيسة بأن  تقرأ لهن وهي وراء الحجاب . ولكن رغم هذا الاجراء شاع خبرها في المدينة واخذ الناس يتحدثون عن علمها وجمالها ووداعتها وتقواها وتصوفها . وعندما وصل خبر اجتياح الجيش الروماني لمدينة نصيبين لغرض التنكيل بالمسيحيين وجعلهم يقدمون الذبائح للآلهة الوثنية الرومانية اضطر جميع المسيحيين بما فيهم الاكليروس والراهبات بالهروب والاختباء . ولكن الراهبة الباسلة فبرونيا اصرت البقاء مع الرئيسة ( برونة ) ونائبتها ( تومايس ) للخوض في غمار الجهاد والنضال من اجل اسم يسوع المسيح له المجد حيث قالت : " لعمر المسيح الذي خطبت له وقدمت له ذاتي لن اغادر هذا المكان وليكن ما شاء الله " وبهذا القول برهنت الدرة النصيبينية ذات العشرين ربيعا من تجسيد اروع القيم والمثل الجهادية من اجل الرسالة المسيحية ( وجاهد جهاد الايمان الجميل وفز بالحياة الابدية التي دعيت اليها واعترفت من اجلها الاعتراف الحسن امام شهود كثيرين )  من رسالة القديس بولس الاولى الى تيموتاوس / 6 : 12 . وبالفعل شهد ملعب نصيبين الحكم الجائر بحق الراهبة الضعيفة والشابة الجميلة فبرونيا النصيبينية حيث حكم عليها بالتعذيب الجسدي ولامس جسدها الطاهر مختلف انواع القمع والارهاب من جلد وحرق وبتر وقطع في معظم اعضاء جسدها الطاهر وذلك باستخدام النار المحرقة والامشاط الحديدية والسيف البتار والفأس القاطع . وماعلتها او ذنبها سوى انها مسيحية مسكينة وهبت نعمة الجمال وفضيلة العفاف.  ( وجميع الذين يريدون ان يحيوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون اما الاشرار والمغوون من الناس فيزدادون شرا مضِلين ومضَلين ) من رسالة القديس بولس الثانية الى تيموتاوس / 3 :12 -13.                                            وهذه بعض الاقوال النيرة والاجابات المضيئة التي تفوهت بها الطوباوية فبرونيا الثائرة امام الحاكم الجلاد سيلينس القبيح اثناء الاستجواب في وسط الملعب الرياضي في نصييين وهي موثوقة اليدين وفي عنقها طوق حديدي ثقيل وبحضور جمع غفير من الناس حيث الكثير منهم ترك ساحة الميدان البطولية التي استشهدت فيها القديسة السريانية فبرونيا المسيحية بسبب شدة التعذيب الجسدي واللاانساني . وادناه النصوص الكاملة كما وردت في المصدر المقتبس من قصة القديسة الشهيدة فبرونيا العظيمة وكما ذكرتها شاهدة العيان ( تومايس ) لتلك الاحداث الرهيبة :
ـ " ايها الحاكم .. ان لي في السماء خدرا لم تصنعه ايادي البشر وعرسا لايزول ومهرا قوامه ملكوت السماء وعريسا غير مائت ولا يزول ولا يتغير ومعه ساتنعم الى الابد . فلا تجهد نفسك ايها الحاكم اذ لن تحصل مني على شئ لا بالوعد ولا بالوعيد " .
ـ " اسمع ايها الحاكم .. فلو انك عريتني تماما من ثيابي لما حسبت هذا هوانا . لان صانع الذكور والاناث واحد . واني لست تائقة الى التعري من الثياب حسب بل انا متهيئة ايضا لعذاب النار والسيف ان كنت اهلا لأتألم في سبيل ذاك الذي تألم من اجلي " .
ـ " اسمع ايها الحاكم .. يعلم الله سيدي اني لم ار وجه رجل حتى الان ولاني وقعت بين يديك دعيت وقحة بلا حياء ! ولكن قل لي ايها الحاكم الجاهل وعديم الاحساس . هل من مجاهد ينزل الى حلبة الالعاب الاولمبية وهو متوشح بثيابه ؟ ألا يقف عاريا في الجهاد الى ان يتغلب على منافسه ؟ اما انا فانتظر العذابات والنار فأنى لي أن اصارع وأنا لابسة ثيابي ؟ اما ينبغي لي ان اجابه العذاب وانا عارية الى ان انتصر على الشرير ابيك واحتقر عذاباتك وتهديداتك ؟ ".
ـ " لقد علمت من الخبرة الاولى اني لا أُُغلب واني أحتقر عذاباتك ! " .
ـ " قبحك الله ايها الشيخ اللعين الشرير لانك تصدني عن الذهاب الى عريسي ، فأسرع واخرجني من هذا الجسد فها ان حبيبي ينتظرني  " .
واخيرا رفعت الطوباوية فبرونيا الباسلة صوتها الى السماء وصرخت بألم عظيم وقالت : " ايها الرب الهي انظر الى ما انا فيه من الشدة والظلم واقبل نفسي " . ثم سكتت وانتقلت روحها الى السماء.
وفي النهاية ان الدم الزكي والطاهر المراق على تراب ملعب نصيبين لم يذهب هراءً فقد  صرخ الى ربه في الحال وانتقم من القاتل الجاحد كالثور الهائج الذي ينطح عمودا فيسقط  ميتا وهكذا مات سيلينس اللعين والى جهنم وبئس المصير .
فقال لوسيماكس ( ابن اخ سيلينس ) عندما وجد عمه الحاكم جثة هامدة . " مااعظم اله المسيحيين ! فقد انتقم الله لدم فبرونيا الذي سفك ظلما " . كما دعا فريمس ( قائد الجيش الروماني ) وقال له : " ياسيدي فريمس اني اكفر بجميع عادات ابائي وبارثهم واموالهم وانضمُ الى المسيح ". كما قال فريمس : " وانا ايضا ياسيدي العن ديوقلتيانس ( امبراطور الرومان ) ومملكته واكفر بارث ابائي وانضم الى المسيح " . وهكذا انتصرت الجوهرة السريانية الباسلة على التنين الروماني الظالم فكان استشهادها سببا في ايمان الكثير من الوثنيين .
 المصادر
 1- الكتاب المقدس – العهد الجديد – رسائل القديس بولس – الطبعة الكاثوليكية .
2- البير ابونا – شهداء المشرق – الجزء الاول – بغداد 1985
3- انطون الثاني حايك – كلمة الراعي – درعون – لبنان 2002
   /move]