الكنيسة وتحديات المرحلة الراهنة
الأب بشار متي وردة
أستاذ الأخلاق في كلية بابل
تواجه كنيسة العراق تحديات عدة في مرحلة حاسمة من تاريخها المُعاصر. وأود هنا أن أواصل ما طُرح من بحوث ومقالات وتأملات في ذات الموضوع من قبل العديد من أبناء الكنيسة الغيارى، في محاولة منّا جميعاً للمُساهمة في ديمومة رسالة الكنيسة من أجل دور أكثر فعّالية في مجتمعنا.
وأريد أن أُشير أولاً وقبل كل شيء أني لستُ من الذين يُشيرون مُنتقدين بل أُحب أن أكون في ركب العاملين، كنيستنا بحاجة إلى عاملين أكثر منها منتقدين. وما انتقادي إلا غيرة لكنيسة العراق ذات الأصالة والتاريخ والبُطولات، وأريدها رائدة في كل المجالات وتُواصل حضارة نفتخر بها جميعاً بذات الهمة والعزيمة التي جعلت أباءنا يستلمون ويُسلمون الأمانة لنا لتكون منارة تُضيء وتُنير ظلمة مُجتمعاتنا الشرقية. إضافة إلى أن ما سأكتبه ليس رأياً شخصياً فحسب، بل هو جزء من تعليم ورؤية الكنيسة الكاثوليكية في الشؤون الاجتماعية، ونابع أيضاً من تعايشنا لواقعنا العراقي وإصغائنا لأصوات وهموم شعبنا وتطلعاته المُستقبلية.
وصل الجميع إلى قناعة من أن هناك أزمات بدأت تُحرج الكنيسة وتسأل عن تفهمٍ وحلول أود تلخيصها وفق أولويات أرها من وجهة نظري المحدودة بالطبع:-
1. أزمة رؤية. رؤية مُشتركة لكنائس العراق، خطاب فيه رؤية وقراءة للواقع وللطموحات من منظور كنيسة العراق يأتي مؤثراً على الساحة العراقية. أصدر رؤساء كنائسنا العديد من الرسائل والبيانات، إلا أنها جاءت مُعظمها (إن لم يكن جميعها) كردة فعل لحدث أو ظاهرة، في حين أننا بحاجة إلى خطاب مُبادرة له وزنه في أحداث البلاد وواقعها. كيف ترى كنيسة العراق سير ألأحداث وما الذي ترجوه وتنتظره من الجميع مسؤولين ومواطنين. وكُنا نتوقع أن يأتي خطاب كنيسة العراق مُذكراً الجميع بمبادئ أساسية لأي حضارة تريد الحياة الكريمة: كرامة الإنسان وشرف الحياة، المواطنة، الكفاءة في القيادة، حقوق الإنسان الأساسية، العلاقة والحوار مع الديانات الأخرى ... اختلاف الطوائف المسيحية لن يمنعها من التجمع والبحث عن قواسم مُشتركة تؤول لتبني رؤية مسيحية لواقع البلاد ومسيرته.
2. بالطبع إنعكست هذه الظاهرة أيضاً على الخطاب السياسي المسيحي الذي تمنيناه موحدا والذي لم يشهد النور لحد الآن وأعني به خطاب تجمع الأحزاب المسيحية العراقية الذي يتعهد فيه الجميع بالعمل معاً لضمان الحقوق الأساسية لمسيحي العراق، بالرغم من اختلاف توجهات الأحزاب ورؤيتها، ولكني أرى أن هناك أمكانية للاتفاق على الأساسي الذي لن يتنازل عنه أي تجمع سياسي مسيحي. مسيحيونا يُعانون في العراق من إهمال وتجاهل وتنكر لكفاءاتهم ودورهم، هناك مَن يُجبرون على ترك وظائفهم، وآخرون كثيرون لا ينالون المناصب التي يستحقونها. حقوقونا تُهضَم وبأشكال عدّة مَن الذي سيُدافع عنها.
3. أزمة التعامل مع الشؤون السياسية والقضايا القومية. للكنيسة الكاثوليكية (كما لغيرها) توجيهات واضحة وصريحة في هذا المجال، فهي إذ تحضر إي نشاط سياسي على الإكليروس تُشجع وتحث مؤمنيها لأن يلتزموا دورهم السياسي في البلاد التي يعيشون فيها ليتمكنوا من إظهار تأثير بشارة يسوع المسيح على حياة الإنسان اليومية ولن يسمحوا لأن يُرخص الإنسان من أجل مصالح سياسية واقتصادية. الكنيسة بحاجة لأن ترسم خطوطاً واضحة في هذا المجال، ولا تحاول أن تعلب أدواراً ليست لها. لقد قرءنا العديد من البيانات السياسية التوجه من العديد من رؤساء الكنائس في العراق وخارجه كان الأجدر بهم أن يتأنوا قبل تبنيها رغم ما تحمله من حقائق، إلا أنها تبقى خارج الاختصاص.
4. أزمة الهجرة التي لم تنفك تتزايد والجميع يتصور خطأً أن الكنيسة ليس بمقدورها أن تفعل شيء إزاء هذه المُشكلة العويصة، وأعتقد أن ذلك هو نُصف الحقيقة. فالكنيسة قادرة على استيعاب وتوجيه الكفاءات المسيحية في مجال التعليم والصحة (والتي والحمد لله) والتي نفتخر جميعاً بكثرتها وكفاءتها. للكنيسة إمكانية وفرصة استثمار مواردها المالية لفتح مراكز أكاديمية (مدراس ومعاهد وجامعات) ومُستشفيات لتُوفر لأبنائها فرص عمل آمنة (أكاديميين وكوادر إدارية من موظفين ومنتسبين)، ناهيك عن التأثير البليغ على ثقافة البلاد وتوجهاتها، نظراً للثقة التي يتحلى بها نظام التعليم المسيحي من قبل جميع فئات البلاد. وتستطيع الكنيسة في ذات الوقت أن تطبع في بحروف من ذهب عظمة حضارتنا المسيحية في العراق وما حوله (تُعلّم لغتها وتاريخها وحضارتها). والحديث يطول في هذا المجال وأتركه للمُختصين في شؤون التربية والثقافة والاقتصاد لاستكشاف جوانبه وإمكانياته. وبذلك سنُسهِم بشكل فعّال في محو الوصمة التي وُسِمنا بها من أننا مُختصون في بيع الخمر.
5. أزمة البطالة التي ضربت البلاد ومسيحينا بشكل خاص نتيجة الظرف الأمني بالتأكيد، ولكن سياسية المُحاصصة والمحسوبية والفساد الإداري والاضطهاد الغير المُعلن على كفاءاتنا من قبل "بعض" (وليس الجميع) المسؤولين ساهم في تعظيم الأزمة علينا والتي ستؤول بالتأكيد لزيادة عدد الراغبين في الهجرة. وكما ذكرت أعلاه للكنيسة إمكانية التخفيف عن الأزمة من خلال حوار جدي مع ذوي الإمكانيات المالية المُستقرة لفتح باب الاستثمار وتوجيه رؤوس الأموال المسيحية في هذا المجال، وللمعنيين بشؤون المال والاقتصاد حديث شيّق في هذا المجال.
6. أزمة التعامل مع التجمعات الإيمانية الجديدة التي بدأت تتغلغل في تجمعاتنا الكنيسة وراحت تستقطب عدداً ليس بالقليل، وليس لنا أن نتعامل معها وكأنها "خراف تبحث عن مراعٍ خصبة" (أي إنهم قوم ضالون يبحثون عن المال) لأننا نلاحظ أن هناك مسيحيون مُلتزمون من كنائسنا يعملون في مُختلف الأنشطة الرعوية وبُمسميات جديدة. على الكنيسة أن تُراجع برامجها التعليمية وأنشطتها التثقيفية المسيحية فتُبادر وتُسخر إمكانياتها في هذا المجال لإعادة هذه الطاقات واستثمار مواهبهم خدمة لكنائسهم. نحمد الله لنا علمانيون يحبون الكنيسة وكلهم غيرة لها يُرخصون الغالي والنفيس لتدوم منارة لمجتمع تفككت أُسسه الإنسانية وينتظر الخلاص.
7. أزمة تقييم حضارتنا المسيحية العراقية. بالطبع أُسجل بافتخار محاولات قام بها العديد من أبناء كنائسنا العراقية البررة، إلا أن الحاجة باتت ماسة لمشروع تُوظف فيه كنائس العراق خبرائها ومُختصيها في مجال الأدب، والفن والتراث والفلكلور ليُوثق ويتم إحيائه ليكون جزء من تميزنا في الأمة العراقية. نحن مواطنون مميزون بكفاءاتنا ليس فحسب، بل في لغتنا (بلهجاتها) وتراثنا وطقوسنا وعاداتنا وفلكلورنا وفننا، مع أمنياتي لفضائيتنا بالتوفيق في هذا المجال.
8. أزمة في الحوار مع الآخر المُختلف عني مذهبياً ودينياً وحضارياً. فما زال الخوف من الآخر يُسيّر مسارات الحوار وبالتالي لن يُوصلنا إلى حوار حقيقي. لنا أن نستفيد من خبرات أباءنا الذين واجهوا قدوم الإسلام وانتشاره بنزولهم إلى عاصمة الخلافة الإسلامية والعمل فيها بشكل مؤثر، فلم يخافوهم لأنهم كانوا مُتسلحين بالثقافة والعلوم فعلموهم الفلسفة والطب وغيرها من العلوم . لقد استطاعت المسيحية أن تفتح أبواب الحضارة العالمية أمام الإسلام، فلما لا نستفيد من دروس الماضي؟