المحرر موضوع: العلاقة الجدلية بين الكنيسة والقومية في فكر قداسة مار دنخا الرابع الراحل إلى الأخدار السماوية  (زيارة 1737 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل أبرم شبيرا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 396
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
العلاقة الجدلية بين الكنيسة والقومية في فكر قداسة مار دنخا الرابع  الراحل إلى الأخدار السماوية
=====================================================
أبرم شبيرا
الإنفتاح الفكري لقداسته:
===============

رحل المثلث الرحمات مار دنخا الرابع بطريرك كنيسة المشرق الآشورية من العالم الزمني الزائل إلى الأخدار السماوية  السرمدية، نعم رحلت روحه الطاهرة عن هذا العالم ولكن كل أعمال وأفكاره وذكرياته ستجعل قداسته عائشاً معنا ولدهور طويلة نتور بها ونحن سائرين على طريقنا القومي والكنسي. رحل وترك أثراً كبيراً وعميقاً في نفوس معظم أبناء الكنيسة والأمة لما كان يتحلى به من صفات قلمنا عرفناها في من سبقه، خاصة إنفتاحه الفكري ليس على بقية الكنائس وأكليرتها بل على الجميع من دون إستثناء خاصة المثقفين ومسؤولي منظماتنا القومية والسياسية. صحيح هو أن قداسته لم يكن يحمل شهادات عليا في اللاهوت أو في الفلسفة ولكن كان واسع الثقافة وعميق الفكر وموضوعي جداً في كلامه وأفكاره وفي مختلف المجالات والحقول خاصة الكنسية والقومية، ومن جالسه وإجتمع معه يدرك هذه الحقيقة التي لا جدال فيها ولا مجاملة. والأكثر من هذا فقد عرف بهدوء طبعه ومنطقية كلامه وإتزان أفكاره فخلال أربعين سنة التي عرفت قداسته لم أجده يوماً متعصباً أو غاضباً إطلاقاً فكان دائماً مرحباً بكل زواره ومستمعاً لهم بهدوء ومن دون إنقطاع.  ففي كل زيارة للعراق كان لايتردد إطلاقاً في قبول دعوة النادي الثقافي الآشوري في بغداد لزيارته والإطلاع على نشاطاته والإلتقاء باعضاء الذين كان له مكانة خاصة عند قداسته:
 

صورة تعكس إهتمام قداسته بالثقافة والمثقفين وتبين أيضا الدور الكبير الذي لعبه النادي الثقافي الآشوري في مختلف حقول الأمة والكنيسة، ففي الصورة يظهر مع قداسته السيد نينوس بثيو السكرتير السابق الحركة الديموقراطية الآشورية والإستاذ إيشو القس عوديشو الذي أصبح راعي الكنيسة في سرسنك واالسيد عمانوئيل يوخنا الذي نال درجة الأرشميندرت الكهنوتية وحاليا راعي الكنيسة في ألمانيا، والدكتور روبين بيت شموئيل أول آشوري من العراق ينال شهادة دكتوراه دولة في اللغة السريانية وغيرهم الذي أنخرطوا في العمل السياسي والكنسي والثقافي.
======================================================================

 وهناك أمثلة عن مقابلاته وإجتماعته لا تعد ولا تحصى في هذا السياق حتى وأن كان وقت قداسته محكوماً بالإنشغال الدائم أو بظروفه الصحية فالأولية كانت دائماً الألتقاء بأبناء كنيسته وأمته والإستماع إليه بكل شغف وإهتمام. وقد يكون لقائي مع قداسته في صيف العام الماضي في شيكاغو خير مثال على ذلك. ففي الوقت الذي كان في فترة النقاهة بعد السقطة التي ألمت به وهو في زيارة كنسية لموسكو وحددت، لا بل منعت، الزيارات لقداسته لم يتردد إطلاقاً طلبنا أنا والإعلامي المعروف ولسن يونان من زيارته في القلاية البطريركية في شيكاغو والدخول معه كعادتنا في مناقشات جدية مهمة حول مختلف القاضايا وبالأخص القومية منها رغم صعوبة الحركة والوهن الذي كان بادياً عليه ولكن إهتمامه بحديثنا كان بالنسبة لقداسته الدواء الشافي له والعامل القوي في أبداء الصلابة والقوة للتغلب على وضعه الصحي.

وعود لم تتحقق:
=========

في بداية شهر كانون الثاني من هذا العام تسنى لي فرصة زيارة قداسته في القلاية البطريريكة في شيكاغو وكعادته في الإنفراد عند الحديث عن مجمل القاضيا القومية وحتى السياسية، ظهر من بين أحاديثنا بأن هناك بعض الوعود والخطط التي وضعها قداسته في أجندته، وأهمها كان تركيزه المشدد على المجمع السينودي المزمع عقد في نهاية شهر نيسان وبداية شهر مايس من هذا العام في دهوك وما يتضمنه من قرارات مهمة وحاسمة في تاريخ كنيستنا المشرقية وفي الوقت الذي تمر أمتنا بظروف ماحقة وصعبة للغاية أثقلت كاهل الكنيسة والأمة معاً. أما الوعد الثاني الذي يخصني شخصياً فكان قبول دعوتنا له لزيارة أثار دير الراهب يوحنان لكنيسة المشرق من القرن السابع الميلادي في جزيرة صير بني ياس في جنوب مدينة أبو ظبي بحدود 350 كلم والتي كانت ستكون الزيارة الثالثة له لدولة الإمارات العربية حيث سبق لقداسته وأن زارها في عام 2001 ومن ثم في عام 2011 وأقام قداديس ولقاءات مع أبناء امتنا الآشورية ومع عدد هائل من الهنود من رعية كنيسة المشرق، غير أن ربنا الخالق ذكره وطلبه إلى جناته قبل أن تتحق هذه الإمنيات والتي وأن لم تتحق فأنها ستبقى في ضمائرنا وعقولنا على مدى الدهر.
 

صورة لقداسته أثناء زيارته لدبي في عام 2001 وبجانبه نيافة الأسقف مار أبرم خامس ويظهر في الصور اللواء قرياقوس (أبو جوني) مع عدد من أبنا أمتنا المقيمين في دبي
==============================================================


 

صورة نادرة لقداسته وهو بدرجة أسقف للكنيسة في إيران أثناء زيارته للهند مبعوثاً من قبل البطريرك السابق مار إيشاي شمعون رحمة الله للإجتماع برجال الكنيسة ورعيتها والتباحث معهم لردع الصدع الذي أصاب الكنيسة في منتصف الستينيات من القرن الماضي من جراء تغيير التقويم الكنسية من اليوليالي إلى الغريغوري. كانت في نيتنا تأطير هذه الصورة النادرة في إطار جميل وتقديمها لقداسته أثناء زيارته المرتقبة لدبي في شهر مايس من هذا العام، ولكن مع الأسف الشديد المنية سبقتنا فلم تتحق هذه الأمنية.
=====================================================================

العلاقة الجدلية بين الكنيسة والقومية:
======================

منذ أزل ظهور كنيسة المشرق كان بطريركها زعيماً دينياً وقوميا لأبناء أمته وأنعكس هذا الترابط على جدلية العلاقة بين الكنيسة والقومية وأستمرت لقرون طويلة رغم كل الإرهاصات والظروف المميتة التي لحقت بالكنيسة وبشعبها، فكان المثلث الرحمات مار إيشاي شمعون آخر بطريرك يربط كلا الحقلين بعلاقة جدلية تجعل منه زعيماً دينياً وقومياً للآشوريين لحين جاءت ظروف متغيرة ومختلفة عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية بحيث لم يعد بالإمكان الإبقاء على هذه العلاقة مما حدا بالبطريرك مار شمعون فك الرباط بين الكنيسة والقومية والإبتعاد عن تمثيل أبناء رعيته من الناحية السياسية وأكتفى بالركون إلى الأمور الكنسية والدينية منسحباً تاركاً الساحة للعلمانيين للقيام بهذه المهمة، فنشأ من جراء ذلك تأسيس الإتحاد الآشوري العالمي. وعندما تسنم قداسة البطريرك مار دنخا الرابع الراحل إلى الأخدار السماوية وإلى جنات ربنا أدرك  حقيقة العلاقة الجدلية بين الكنيسة والقومية وضرورة صياغتها بشكل تتلام مع الظروف الحالية التي تمر بها الكنيسة. فهو من جهة شخص آشوري قومي نشأ وعمل في إيران التي كانت مركز الأشعاع الفكري والثقافي والقومي الآشوري فتنور بهذا الإشعاع وأرتوى بالأفكار القومية الآشورية ثم جاء إنتقاء ربنا الخالق له كبطريرك على الكنيسة ليضع الكنيسة جنباً إلى جنب مع القومية ممثلة في شخص البطريرك الجديد. فمن جهة كإنسان آشوري قومي لم يكن بالإمكان إطلاقاً التنازل عن آشوريته وأفكاره القومية لصالح الكنيسة وبالمقابل لم يكن بالإمكان عزل الكنيسة عن الأمة التي نشأت فيها وأستندت على أبناء هذه الأمة. فمن هذه العلاقة المصيرية بين الأثنين تمكن قداسته من صياغة معادلة جديدة أنعكست في كل كلماته وخطبه الكنسية والقومية. ففي أحدى خطبه ذكر وقال بأن الزمن الماضي، زمن هيكاري الذي كان البطريرك يقود الأمة وجيوشها ويترأس المفاوضات السياسية ويشارك المطارنة والأساقة في الحروب قد مضى ولا يمكن الرجوع إليه  فنحن في زمن آخر يختلف كلياً عنه تحكمه قوانين الدول التي نعيش فيها وعلينا ان نطيعها. هذا الموقف كان يتأكد عندما يقول بأن الكنيسة لا تتدخل إطلاقا في المسائل السياسية فهناك أحزاب سياسية ومنظمات قومية هي المعنية بهذه المسائل أما قداسته كآشوري يهمه جداً مسألة نجاح هذه الأحزاب والمنظمات في تحقيق أهدافها لأن نجاحهم هو فائدة للأمة وإخفاقهم خسارة لها فدوره كبطريرك يقتصر على الصلاة والدعاء لهم للنجاح في مهمتهم وتحقيق الصالح العام ولم يكن ينسى قداسته أيضاً في الإشارة إلى ضرورة التتفاهم بين هذه الأحزاب والمنظمات كسبيل لتحقيق النجاح.

كان قداسته يؤكد أن هناك فرق بين التدخل في السياسة والإهتمام بها. فالتدخل ينشأ عن فعل مؤثر في العملية السياسية وفي أحزابها السياسية بينما الإهتمام هو تعبير عن موقف من هذه السياسة. من هذا المنطلق فقداسته لا يتدخل في السياسة القومية ولا يعمل بفعل يتعلق بشؤون الأحزاب السياسية وإنما، باعتباره فرد من أفراد هذه القومية، فأن أمرها يهمه ويعبر عن إهتمامه بها من خلال كلماته ودعواته. فالعلاقة العضوية والجدلية بين الكنيسة والأمة الغير قابلة للإنفصال، تجعل أن يظهر بأن كل أهتمام بأمر الكنيسة هو إهتمام بالأمة نفسها. أن هذاالترابط العضوي لا يعني بأنه غير ممكن التمييز بينهما، فلكل جانب له حدوده وعوامله الخاصة ولكن من جانب آخر لكل واحد منهما تأثير ضمن العلاقة الجدلية المتبادلة طالما هناك عوامل ومقومات مشتركة بين الأثنين لايمكن فصلهما عن أي طرف من المعادلة، مثلما لا يمكن فصل الروح عن الجسد إلا بالموت. فاليوم الذي تنفصل مقومات أمتنا من لغة وتقاليد وتاريخ عن أبناءها فلا محال من موت الأمة والحالة أيضا بالنسبة للكنيسة فإذا فقدت لغتها وتاريخها ولتروجيتها زالت من الوجود ككنيسة مشرقية معروفة. ففي معظم الأحيان كان قداسته يؤكد ويقول "أنا كفرد آشوري منتمي إلى الأمة الآشورية من حقي أن أعبر عن أفكاري وإيماني القومي وبإنتمائي لهذه الأمة، وكذلك من واجبي كرجل دين على رأس الكنيسة أن أصلي وأدعوا ربنا الخالق إلى أن ينعم أحزابنا السياسية ومنظماتنا القومية بالموفقية والنجاح والوحدة"، ومثل هذه الدعوات والمواقف نلاحظها دائماً أثناء مقابلة قداسته للكثير من قادة وممثلي أحزابنا السياسية ومنظماتنا القومية. لا بل وقد وصلت دعوات قداسته إلى تأييده أن يكون لأمتنا منطقة حكم ذاتي أو إدارة مستقلة ضمن دولة العراق، وهو التأييد الوحيد من بين بطاركة ورجال الدين لكنيسة المشرق بكل فروعها.

كتبنا كثيراً عن مواقف قداسته تجاه القومية وعلاقتها بالكنيسة ودوره كراعي لها من جهة وآشوري قومي من جهة أخرى، وهو موضوع طويل شغله عدة مقالات بعضها لم تنشر لحد الآن. وهنا ونحن في ظروف صعبة فقدت كنيستنا رجل عظيم حفرت أفكاره ومواقفه وسمو أخلاقه ورفعة روحه حفراً عميقاً في قلوبنا وعقولنا التي ترتكن في هذه الأيام  في حالة من المواساة والرحمة على روحه الطاهرة ولا يسعنا الإستزادة أكثر من التذرع إلى ربنا الخالق أن يرحم روحه برحماته السرمدية وأن ينور الطريق لمطارنة وأساقفة الكنيسة لينعموا ببركات ربنا يسوع المسيح ويسهل أمرهم في إختيار البطريرك الجديد ليسير على نفس النهج ويستمر في إحتضان الكنيسة والأمة كروح وجسد في كيان واحد.