المحرر موضوع: في ضوء تناقضات وصراعات العراق المستديمة - 1/3  (زيارة 707 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل أبرم شبيرا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 395
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
في ضوء تناقضات وصراعات العراق المستديمة - الجزء الاول
=========================== 
إعادة تأسيس دولة العراق
أبرم شبيرا


توطئة: ذكريات أكاديمية:
--------------------------
في عام 1977 عندما شرعت بإختيار موضوع لأطروحتي لنيل درجة الماجستير في العلوم السياسية من كلية القانون والسياسة بجامعة بغداد أخترت أكثر من موضوع منها "الحركة الأثورية لعام 1933 في المنظور السياسي والقانوني للعراق". وحسب الأصول المتبعة قدمت نبذة مختصرة عنه إلى إستاذي المشرف، طيب الله ذكراه، فكان جوابه "تريد تهدم بيتنا ويخلونا بالسجن... أستر على خبزنا يارجل". ثم قدمت غيره من المواضيع فكان موضوع "دور المثقفين في التحولات الإجتماعية" من نصيب أطروحتي الذي نلتُ عنه درجة إمتياز والتي كانت أول درجة من نوعها تمنح لطالب في قسم العلوم السياسية. وهذا الموضوع هو دراسة مقارنة بين الفكر الماركسي والرأسمالي حول المثقفين وعلاقتهم بالطبقات الإجتماعية والسلطة السياسية. وهو الأمر الذي شجعني أكثر للتقديم  لنيل شهادة الدكتوراه في نفس الحقل. قدمت أكثر من مرة إلى دائرة البعثات وحصلت أكثر من قبول للدارسة من جامعات في بريطانيا والولايات المتحدة ولكن في كل مرة كانت تجرى مقابلة لي من قبل اللجنة المختصة للبعثات الدراسية كان أول سؤال يطرح لي هو "مو بعثي ها..." فكنت أُجاوبهم: "أنا عراقي وطني" ثم يبدأ السائل بهز رأسه. وبعد فترة من الزمن كنت أراجع دائرة البعثات في وزارة التعليم العالي لأجد النتيجة محسومة بقرار (لم تحصل موافقة الجهات العليا) !!!. وعلى العموم كنت أشكر دائماً ربنا الخالق لأن ما حصلت عليه من تعليم كان بجهود مضية وتحديات صعبة في ظل نظام مستبد عنصري لم يكن من السهل مواجهاتها والإفلات منها وأنت "عراقي وطني".  في تلك الفترة أي من الثمانينيات وصاعدا من القرن الماضي  تكون في جعبتي عدد من المواضيع التي كنت أطمح أن يكون أحدهم موضوع لرسالتي الجامعية للدكتوراه. وخلال الأيام الماضية كنت أغوص في دفاتري القديمة فوجدت من بين هذه المواضيع موضوع عن تأسيس كيان سياسي في بلاد مابين النهرين من قبل بريطانيا والذي سمي بـ "دولة العراق" فوجدت فيه الكثير من التطابق بين ما كتبته قبل ثلاثون عاماً وما يجري في العراق في أيامنا هذه فأعدت النظر في بعض من جوانبه وبما يتلائم لقراءته وفق الوضع الحالي للعراق لأصل إلى إستنتاج بأن ما يجري في العراق ليس وليد السنوات القليلة الماضية بل له جذور تواصلت وأستمرت منذ تأسيس كيان العراق السياسي، فوجدت من المفيد أن أنشره قبل أن يلتهمه النسيان ويدخل في عالم الغيب، ولكن بسبب طول الموضوع، وكأي بحث أكاديمي لا يستوعبه المواقع الألكترونية، وتحديداً موقعنا الغراء "عنكاوه دوت كوم" أختصرت  الموضوع بقدر الإمكان وقسمته إلى أكثر من قسم حتى يسهل قراءته وأضفت عليه ما أستجد وما يستجد على الساحة السياسية العراقية من أحدات تخص صلب الموضوع، علماً بأنه نادراً ما أكتب في المواضيع السياسيىة العامة لأني خصصت كل قلمي للكتابة عن المسائل التي تخص شعبنا "الكلداني السرياني الآشوري".




بريطانيا تؤسس كيان سياسي في بلاد مابين النهرين:

-----------------------------
أفرزت ثورة العشرين في بلاد مابين النهرين عام 1920 نتائج مؤثرة ساهمت بشكل مباشر في إرساء الخطوط الرئيسية لمستقبل كيان العراق السياسي، كان من بينها إخلال موازين سياسات حكم بريطانيا لبلاد ما بين النهرين "ميسوبيتيميا" وإقرار سياستها النهائية واختيار شكل الحكم المناسب لمصالحها والذي تمثل في الأسلوب غير المباشر للحكم وعن طريق حكومة "وطنية" ترتبط معها بمعاهدة ضامنة لمصالحها السياسية والاقتصادية وتخفف من عبئ الخزينة البريطانية الناجمة من الاحتلال المباشر، وهو الأسلوب الذي أرتبط باسم "السير برسي كوكس" المعين كمندوب سامي لحكومة جلالة الملك البريطاني في العراق والذي كان بالضد من مدرسة سياسية بريطانية أخرى في الحكم، عرفت بالمدرسة الهندية او الإمبريالية ومثلها "ارنولد ولسن" نائب الحاكم البريطاني في العراق، والتي كانت قد دعت إلى الإدارة العسكرية المباشرة للعراق وربطها بالحكومة البريطانية في الهند. وفعلاً، ما أن وصل السير كوكس إلى بغداد في 11/10/1920 طلب من السيد عبد الرحمن النقيب، نقيب الأشراف القادرية، قبول رئاسة مجلس حكومة مؤقتة. واستجابة لهذا التكليف تم في 20/10/1920 تشكيل أول وزارة عراقية.

بريطانيا تختار ملكاً على عرش دولة العراق:
------------------------------------------
بعد إرساء الخطوة الأولى في إقامة الكيان السياسي العراقي، بدأت الحكومة البريطانية البحث عن الخطوة الثانية واختيار الشخص المناسب ليتولى عرش الدولة الفتية، فطرحت على الساحة العراقية عدة أسماء، منها الأمير برهان الدين نجل السلطان عبد الحميد الثاني وطالب النقيب وعبد الرحمن النقيب والشيخ خزعل أمير عربستان وعبد الهادي العمري وآغا خان ويوسف السويدي وأمين الجليلي وأحد أعضاء الأسرة الخديوية في مصر. كان كل واحد من هؤلاء يطمح في أن يكون ملكاً على العراق، غير أن الأمير فيصل بن الحسين شريف مكة كان من أبرز المرشحين، خاصة بعد اندحار قواته في معركة ميسلون في الشام أمام القوات الفرنسية وطرده من عرشها. ثم جاء قرار مؤتمر القاهرة (أذار 1921) الذي عقد برئاسة وزير المستعمرات المستر ونستن تشرشل فاصلاً في تخصيص العرش للأمير فيصل. وتحقيقاً لهذا الغرض غادر الأمير فيصل مدينة جدة في 12/6/1921 على ظهر سفينة بريطانية متوجهاً إلى العراق وعن طريق البصرة. وبناءً على طلب المندوب السامي البريطاني أنعقد مجلس الوزراء جلسة بتاريخ 11/7/1921 أقر فيه ترشيح الأمير فيصل ملكاً على العراق ثم تم تتوجيه رسميا في 23/8/1921. وبهذا يكون قد تأسس كيان العراق السياسي، ولو من الناحية الشكلية، وظهرت على الخريطة السياسية كدولة جديدة ولكن خاضعة للإنتداب البريطاني حسب قرارات عصبة الأمم.

أسباب إختيار بريطانيا الأمير فيصل ملكاً على العراق:
-----------------------------
كان لبريطانيا أسباب خاصة تخدم مصحلتها بالدرجة الأولى في إختيار الأمير فيصل على رأس هذا النظام منها:
  أولا: لبريطانيا خلفية سياسية في التعامل مع الأمير فيصل خاصة مع والده الشريف حسين والعائلة الهاشمية قبل وأثناء الثورة العربية الكبرى لعام 1916 في الحجاز، حيث قاد الأمير فيصل الجيوش العربية في شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام ضد القوات العثمانية أثناء الحرب الكونية الأولى.
ثانياً: يحقق إختيار الأمير فيصل ملكا على العراق هدف بريطانيا في الإيفاء بجزء من وعودها للعرب وللعائلة الهاشمية بتأسيس دولة عربية في المشرق العربي لقاء خدمات الشريف حسين والد الملك فيصل المقدمة لبريطانيا في دحر القوات العثمانية.
ثالثا: لم يكن امام بريطانيا من خيار غير إستمرار السياسة العثمانية السابقة في بلاد مابين النهرين القائمة على هيمنة الطائفة السنية على شؤون الحكم وإدارة ألأمور السياسية خاصة وأن معظم النخب السياسية التي كانت تخدم في المؤسسات العسكرية والمدنية العثمانية، ومنهم الأمير فيصل الذي كان عضواً في مجلس المبعوثين العثماني، قد أنتقلت إلى العراق بعد الحرب العالمية الأولى  وتولت مناصب وزارية في الحكومة أو في قيادة الجيش، لا بل البعض من هؤلاء عمل مع الأمير فيصل أثناء ثورة عام 1916 وكذلك أثناء حكمه القصير في سوريا. فقبل منح العراق الإستقلال عام 1932 وتقديم طلب الإنضمام إلى عصبة الأمم أعد المعهد الملكي للشؤون الدولية في بريطانيا دراسة في عام 1932 ذكر فيها أن النخبة السياسية العراقية التي كانت معظمها من طائفة السنة لم يكن يتجاوز عدد أعضاءها 300 شخص  ولم تكن كفوءة ومتدربة للحكم كذلك لم تكن تمثل الشعب العراقي وبقاءها في السلطة كان مقروناً بالدعم البريطاني  لها وكان الملك فيصل الأول على قمة هذه النخبة السياسية السنية ولم يكن أمام بريطانيا إلا أن تختاره لعرش العراق.
(Royal Institute of International Affairs, Memorandum on The Termination of The
Mandatory Regime in Iraq, 1932, British Library Ac 2773D – P. 40)
 

رابعاً: لكون الأمير فيصل من عائلة مسلمة معروفة بانتسابها الهاشمي لأصل النبي محمد (ص) ولكونه أيضا من خارج التناقضات الطائفية والعشائرية التي كانت تفعل فعلها في العراقيين فقد جاء تنصيبه ملكاً عليهم غير مخل بموازين الصراعات القائمة فيه، وبالتالي كان أكثر ضماناً لاستمرار الواقع القائم. فالعراق كان يختلف عن البلدان العربية الأخرى التي هيمن النظام العشائري والقبلي على البينة الاجتماعية والنظام السياسي، فلم يكن في العراق عشيرة أو قبيلة تنفرد بالقوة والهيمنة والسيطرة وقادرة على التحول إلى نظام سياسي وإدارة شؤون الدولة،  بل كانت  الطوائف والعشائر والقبائل في العراق في قتال وصراعات مستمرة لم تثمر بنتيجة حتمية تفضيلية لأي واحد منهم حتى تتمكن من الانتقال إلى مرحلة سياسية لاحقة تتجسد في نظام سياسي والمعروفة بمرحلة إنتقال السلطة من البداوة إلى الدولة، كما هو الحال في بلدان الخليج العربي. لهذا السبب لم يكن ممكنا أمام بريطانيا اختيار أي مرشح من هذه التكوينات الطائفية والعشائرية العراقية من دون أن يخل هذا الاختيار بموازين القوى القائمة بينها، فجاء اختيارها من خارجها حفاظاً على التوازن العشائري في العراق.

مقومات الكيان العراق السياسي:
------------------
هل كانت المقومات المطلوبة لإقامة دولة متوفرة أثناء تأسيس بريطانيا لكيان العراق السياسي؟؟؟ سؤال يستوجب البحث ولو بشكل مختصر في هذه المقومات الأساسية في إقامة الدول..  من بديهيات العلوم السياسية، أن الكيان السياسي، أي الدولة، لا يكتمل إلا بوجود أربعة مقومات وهي الإقليم، الشعب، الحكومة ثم السيادة، تجتمع جميعاً لتخلق ما يعرف بـ "الدولة". والدولة العراقية لا تستثنى منها منذ تأسيسها وحتى اليوم، باعتبارها كياناً سياسياً قائماً بحد ذاته. أما الإخلال أو الانتقاص من أي مقوم من هذه المقومات، فهي مسألة قانونية وسياسية عويصة تتضارب الآراء حولها ولا نريد التفصيل فيها حرصاً على حدود موضوعنا، ولكن الذي يهمنا هو القول بأن طبيعة هذه المقومات تختلف بعضها عن البعض من حيث التطور والتغير أو الإخلال بها أو الانتتقاص منها أو اختلاف مضامينها. ومثل هذه الطبيعة من الممكن تلمسها أكثر في المقومين "الحكومة والسيادة" واللذان يمكن إدراجهما مجازاً ضمن "المقومات المعنوية" أو السياسية. على العكس من المقومين "الإقليم والشعب" اللذان يكونان أكثر رسوخاً وثباتاً باعتباريهما مرتبطان بعنصري الجغرافيا والديموغرافيا، ويمكن درجهما ضمن"المقومات الموضوعية". وبغنى عن الصراع الفلسفي الدائر حول العلاقة بين الذات والموضوع، أو بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية وأولية كل منهما في خلق الظاهرة، فأن الحقائق التاريخية في تكوين الدول تؤكد بما لا تقبل الشك، بأن العوامل الموضوعية من إقليم وشعب تسبق، لا بل يجب أن تسبق، العوامل الذاتية السياسية من حكومة وسيادة في خلق الدولة، وبالتالي يمكن اعتبار هذين المقومين، الحكومة والسيادة، نتاج للمقومين الأخرين، أي بعبارة أخرى وجود الإقليم والشعب يسبق الحكومة والسيادة ويعتبران عنصران أساسيان لا بديل عنهما في خلق الدولة، فهي تشكل البنية التحتية لقيام الدولة وتمثيل إرادتها في الحكومة وسيادتها على الإقليم. وإذا كانت الحكومة والسيادة أكثر عرضة للتغير والتطور بحكم كونهما "مقومات معنوية"، أو بنية فوقية، فأن هذه الصفات لا يتجرد منها "الشعب والإقليم" رغم كونهما "مقومات موضوعية"، فهما أيضاً يتصفان بنوع من التغيير والتطور ولكن بشكل بطيء جداً ونسبي في مقارنتهما مع المقومين الآخرين. أي بعبارة أخرى، الثبات والرسوخ هما حالة طبيعية والتغير هو حالة استثنائية. ولكن حتى هذا التغيير والتطور في المقومين، الشعب والإقليم، يشترط أن يكون للمقومين الأولين، وتحديداً الحكومة، قدرة عالية على التفاعل مع المقومات الأخرى،  ومثل هذه القدرة لا يمكن اكتسابها إلا بامتلاك آلية فاعلة تتناسب مع طبيعة الشعب والإقليم، أي وجود نظام سياسي قادر على القيام بهذه المهمة يمتلك الوسائل المختلفة من عسكرية وسياسية واقتصادية لديمومة استقرار نظام الحكم (الحكومة ومؤسساتها) وفرض سيادتها على إقليمها وتطبيق قوانينها على شعبها.

وطبقاً لهذه البديهية، نتساءل: هل كان للعراق تلك المقومات التي يمكن أن يخلق منه كياناً وبالمعنى السياسي المعروف بالدولة عند تأسيس بريطانيا لهذا الكيان السياسي في بداية القرن العشرين؟ الإجابة بسيطة وواضحة جداً ومعروفة سلفاً فيما يخص الحكومة والسيادة طالما كانت بريطانيا متحكمة في مقدرات البلاد وتخضع مثل هذه الحكومة والسيادة لحكومة بريطانيا وسيادتها ضمن نظام دولي عرف بـ "الإنتداب" والذي تم إلغاءه في عام 1932 ومنح العراق الاستقلال وعضوية في عصبة الأمم. أما بخصوص الأرض أو الإقليم الذي تأسست دولة العراق عليه فبمراجعة بسيطة إلى صفحات تاريخ تأسيس دولة العراق نجد أن بريطانيا، سيدة الموقف في تلك الفترة، قد لعبت دوراً أساسياً إن لم يكن الوحيد في تحديد معالم هذا الإقليم سواء من خلال المفاوضات وتسويات الحدود مع دول الجوار أو مع فرنسا حسب إتفاقية سايكس بيكو وتعديلاتها  ونظام الإنتداب الذي تبنته عصبة الأمم بعد الحرب الكونية الأولى أو من خلال الإنتصارات التي حققها الجيش البريطاني في إنتزاع أو ضمان بعض المناطق الحدودية وضمها إلى العراق خاصة في المنطقة الشمالية. ودور بريطانيا الفاعل والحاسم في ضم ولاية الموصل إلى العراق بدلا من تركيا واضح وجلي حيث كان من صميم مصلحتها بضم ولاية الموصل إلى العراق وفي رسم حدود الأقليم العراقي ولم يكن ذلك لإعتبارات قومية ودينية وديموغرافية وثقافية وتاريخية وإجتماعية تخص العراقيين بل تجاهلتها وكبستها ضمن أقليم وكيان سياسي محدد بمصالحها.

ولكن ماذا بشأن الشعب كمقوم أساسي وجوهري في تأسيس كيان سياسي في العراق؟؟؟ هل كان هناك في بلاد مابين النهرين فعلا شعب بالمفهوم الإجتماعي السياسي لكي يمكن تأسيس دولة بكل معنى الكلمة... هذا ما سنتطرق إليه في القسم الثاني من هذا الموضوع.