الرابطة الكلدانية
وأزمة المفاهيم والاعلانات
د . عبدالله مرقس رابي
باحث أكاديمي
وقد دفعني لكتابة هذه المقالة مسالتين هما : التساؤلات التي اطلقها الكاتب الاعلامي ( سيزار هرمز ) في مقالته الموسومة ( من اجل مؤتمر تأسيسي ناجح للرابطة الكلدانية العالمية ). والافكار المطروحة من الاخوة الكتاب الاخرين، والثانية هي المستجدات السريعة التي يطرحها بين حين وآخر اعلام البطريركية الكلدانية عن مسودات النظام الداخلي للرابطة وبمفاهيم مختلفة ،مما أربكت المتابع لظاهرة تأسيس الرابطة الكلدانية .
ولكوني أحد المتابعين والمهتمين بهذا المشروع الذي أحتدم النقاش حوله ، وبالاخص حول المفاهيم التي وردت في مسودة النظام الداخلي المستخدمة في تسميتها والمتضمنة في المواد المتعلقة بالاهداف وشروط القبول.ولعله أبرز الجدالات وأهم الملاحظات هي حول : هل الرابطة كنسية أم علمانية ؟ لماذا الاكتفاء بالقول الرابطة الكلدانية وليس رابطة القومية الكلدانية ؟ وهل الافضل ان يكون أحد شروط الانتماء ،أن يكون كلداني الانتماء أو ان يكون كنسيا وكلدانيا وثقافيا؟ وهل سيرأسها رجل الدين أم أحد العلمانيين ؟ .
الدعوة الى تأسيس الرابطة الكلدانية بدون شك هي فكرة غبطة البطريرك مار لويس ساكو ، فهو الذي بادر باطلاق الدعوة لتاسيسها ، وان وُجدت تسميات لجمعيات أو مجالس مشابهة لها فلا يدل ذلك على أنها فكرة قد أقتبسها من تلك المحاولات والتي فشلت في عملها ، فالافكار وفقا لمبدأ نشوء الافكار والحضارات قد تبدا متوازية ومن بيئات مختلفة وأزمان مختلفة. فالتشابه قد يحدث في طرح الافكار ، ومع هذا ، المهم في الفكرة هي مسألة التفعيل والمتابعة والرعاية وليس الادعاء انها فكرة فلان أو قد سبق طرحها من قبل الاخرين .
الفكرة والدعوة هي كما قلت لغبطة البطريك مار ساكو ، فأذا المتبع والمخطط الرئيسي لترجمتها الى الواقع العملي والفعلي سيكون بلا شك غبطته ، وكما ذكرت في مناسبات عديدة أنها رابطة علمانية برعاية ومساندة كنسية . ولماذا هذه المساندة ؟ فهي ضرورية وفي أقصى حدود الضرورة لكي تتمكن الرابطة من تحقيق أهدافها في ظل المعطيات السياسية والاجتماعية والقانونية وأنظمة الحكم السائدة في العراق المعاصر والمنطقة الاقليمية برمتها .فما هو الضرر في أن يستشير القائمون في ادارة الرابطة لرجال الدين للقيام بأعمالهم المناطة اليهم طالما الاوضاع السياسية السائدة في المنطقة تحركها المفاهيم الدينية وأن كانت مرحلية ؟
لم يفاجىء مار ساكو الاخرين بتأسيس الرابطة ،بل منذ اللحظة الاولى أعلن عن المبادرة في الاعلام وطلب من الكل بدون أستثناء للتعاون وطرح الافكار لأعداد مسودة النظام الداخلي للرابطة. وهذا الاعلان خلق الالتباس والمداخلات، كانت بعضها غير ملائمة وبالمستوى المطلوب فأقتصرت على تأزيم المسألة بالطرح السلبي، أي تناولت الوجه السلبي وبل طالت الى الاسقاطات الشخصية و لم تكترث للجوانب الايجابية للرابطة وأهمية وجودها . وبالمقابل وُجدت أراء ومقترحات بناءة وجديرة بالاهتمام ،وظهرت طروحات تشجيعية تؤيد تحقيق الرابطة .
وقد بادرتُ شخصيا منذ البداية لتأدية طلب غبطة البطريرك مار لويس في أعداد مسودة النظام الداخلي منطلقا من قناعتي الشخصية بأهداف الرابطة الانفتاحية والحاجة الى مساندة الكنيسة والتعاون المشترك بينها وبين العلمانيين .وأعتقد قد وردت الى البطريركية مقترحات أو ملاحظات أخرى حول الموضوع من المهتمين والمتابعين الاخرين . وللمتغيرات الامنية والسياسية المتسارعة والتي طالت أبناء شعبنا في العراق أثرت على مسيرة التأسيس للرابطة ونضوج فكرتها .ولكن التصميم والاصرار الذي أبداه مار لويس ، نوقشت المسودة المطروحة للنظام الداخلي من قبل الاباء الاساقفة لابداء آرائهم، فتم صياغة المسودة وأُلاعلان عنها . وبدأت الطروحات أيضا على نصوصها ، وعلى أثر تلك المداخلات ظهر نوع من الالتباس والارتباك لدى البطريركية للتغيير والرد ،فظهرت عدة بيانات لتوضيح المقصود ببعض المفاهيم أو الاعلان عن مسودة جديدة تحت تأثير تلك المقترحات ، في الوقت الذي ارى عدم وجوب البطريركية للقيام بذلك ،ولماذا ؟
من المعروف أن أعداد مسودة النظام الداخلي لاية جمعية أو رابطة أو نقابة يمر بمراحل ،أولها أن يعلن الى المعنيين أو الجمهور أو الشعب عن النية في تأسيس الرابطة ويطلب أبداء المقترحات لأعداد النظام الداخلي ، وثم تشكيل لجنة من الاختصاصيين القانونيين والاداريين والاختصاصات ذات العلاقة بعمل الجماعات وذوي الخبرة في منظمات المجتمع المدني لتثبيت مواد النظام الداخلي ، والمرحلة الاخيرة مناقشتها والبث بها في المؤتمر التأسيسي . والاعلان عن الانتماء الى الرابطة ، فسوف يكون أنتماء الفرد بحسب قناعته بالنظام الداخلي، فأذا أنسجم النظام مع تطلعاته وأهتماماته فيطلب الانتماء وأذا رأى أنها لاتنسجم مع تطلعاته فلا يهتم بها .
لكن الذي حدث هنا تكررت عملية الاعلان عن مسودات النظام الداخلي من قبل البطريركية وعدم الاستقرار على صيغة معينة لغرض مناقشتها والبث بها في اللقاء التأسيسي. وفي كل محاولة ظهرت مفاهيم وتعاريف ومواد جديدة مغايرة عن المسودة السابقة مما يدل على وجود أزمة في الادراك للمفاهيم التي أحتدم النقاش حولها سوى من قبل البطريركية أو المناقشين والمقترحين .
ففي المسودة الاولى التي أُعلن عنها لم تكن هناك أشارة لرئاسة الرابطة من قبل غبطة البطريرك ، وبالرغم من ذلك فهم المتابعون أنها رابطة كنسية ومذهبية وأن الاكليروس سيديرها وما شابه من الاقوال ، بينما كانت الاهداف والمواد الخاصة بالادارة واضحة لتحقيق مبدأ علمانية الرابطة ومساندة الكنيسة ورعايتها لها . وزادت المسالة تعقيدا عندما جاء في نصوص المسودة المعلنة بعد السينودس أن البطريرك الكلداني سيكون رئيس الرابطة ووضعت لجنة من الاساقفة للتهيئة لتأسيسها ، بينما كنت أحد المؤيدين والمقترحين بأن يكون بطريرك الكلدان رئيسا فخريا للرابطة ، ولكن أبدى غبطة البطريرك مار لويس رفضه لهذه الفقرة ، وقال أن الاكليروس سوف لاينضمون الى الرابطة بل ستكون بأدارة العلمانيين تماما .وكرر غبطته أنه لا يطمح أن يكون رئيسا للرابطة فسوف تُقر وتُدار من قبل العلمانيين، فكيف حدث ذلك لطرح تلك الفقرة لا أدري؟
وظهرت في المسودة من شروط الانتماء : أن يكون كلدانيا ، كنسيا وقوميا وثقافيا. تلك الفقرة التي رحب بها العديد من المهتمين الكلدان ،بينما أعترض عليها الاخرين منطلقين على أنها مؤشرات التعصب وتجزئة شعبنا وما شابه من الاقوال، وأخيرا أُعلن عن مسودة أخرى أحدثت جدلا عميقا ورفضا للمفاهيم الواردة فيها ، بينما نالت رضى الاخرين .وفعلا كانت المسودة مرتبكة في نصوصها وموادها التعريفية وأفتقرت الى الدقة في صياغتها،فقد أشارت المادة الاولى المتعلقة بالاسم: الرابطة الكلدانية العالمية. هويتنا هي: كنيسة كلدانيّة كاثوليكيّة جامعة، شاهدة ومبشرة بفرح الانجيل لعالم اليوم، ولا تُقحم نفسَها بالانقياد الحصري وراء عملٍ قوميٍّ أو سياسيٍّ أو حزبيٍّ يُفقدها زخم هويتها الكنسيّة.أن هذا التعبير عن الهوية يصلح عندما يُطلب تحديد هوية الكنيسة الكلدانية وليس الرابطة الكلدانية ،فجاءت هذه العبارة غير منسجمة مع النظام بأجمعه.وهنا تبدو بوضوح الازمة في المفاهيم.
فالاكتفاء بهذا النص في المادة الاولى من النظام برأي هو الافضل " أسم الرابطة
الرابطة القومية الكلدانية ) أو تبقى ( الرابطة الكلدانية )وينص أحد شروطها ( الانتماء كلدانيا قوميا وثقافيا )، ولكي تنسجم مع رسالة الكنيسة فهناك احدى فقرات التعريف ، بأنها تعمل في سياق التعاليم الكنسية لكي تكون مؤشرا في مساندة ورعاية الكنيسة لها.وبهذا سيكون وضوحا بأن الرابطة هي خاصة بجماعة بشرية تحت مسمى الكلدان .وسيكون هذا أكثر أنسجاما مع المعطيات السياسية والاجتماعية للاوضاع الراهنة في العراق والمنطقة ، فالتصنيف الاجتماعي لمكونات الشعب العراقي الحالية تنطلق من المفاهيم الدينية والمذهبية والقومية ومكرسة بالدستور الذي يعد القانون الاساسي للبلد لتنظيم المجتمع ونظام الحكم في الحكومة المركزية في بغداد أو في أقليم كوردستان ،فلا ضرر من وضع هذا الاسم طالما يذكر الدستور المركزي أن الشعب العراقي يتكون من العرب والكورد والتركمان والكلدان والاشوريين ... الخ .فلو عُرف الشعب العراقي بأنه مجموعة الافراد الذين يعيشون على ارض العراق ويتمتعون بجنسية عراقية ومتساوون امام القانون ، لقلنا لا حاجة لذكر القومية الكلدانية .وهكذا بالنسبة الى دستور أقليم كوردستان ، لو نصت مادة التعريف بشعب كوردستان ، مجموعة الافراد الذين يعيشون على أرض أقليم كوردستان ومتساوون أمام القانون ،بدلا من النص القائل : يتكون من الكورد والتركمان والكلدان السريان الاشوريين والارمن ... الخ .
ولماذا يتخوف البعض من أطلاق كلمة القومية لمجموعة بشرية ؟ القومية بمفهومها اللغوي في العربية هي مصدر لكلمة القوم، فأية جماعة أثنية تطلق عليها تسمية معينة ولسبب ما وتجمعهم الخصائص الحضارية والاجتماعية المشتركة هي قوم من الاقوام .قالكلدان قوم والعرب قوم والاشوريين قوم والسريان قوم وهذا هو الواقع الاجتماعي المنظورفي عصرنا الحالي. فليست التسمية مهمة لكي تأخذ من المهتمين حيزا كبيرا من وقتهم وعملهم ،بل الاهم هو العمل المشترك والتعاون والاحترام المتبادل وقبول الاخر ووحدة القرار.
أن أعتبار الرابطة قومية كلدانية ،لا يدل ذلك عل تعصب القائمين عليها أو أنفصالهم،بل أن الاغراض التنظيمية التي يعكسها الواقع الاجتماعي والسياسي المعاصر لكي تنسجم مع معطياته تستوجب تلك التسمية ،وتتبين هويتها من أهدافها وتعريفها ، فلا خوف على أطلاقها طالما أن أهداف الرابطة واضحة جدا في أنفتاحها ومرونتها.فماذا يقول هؤلاء أنفسهم لو ثُبتت هوية الرابطة كما وردت في المسودة الاخيرة المُعلنة ؟ أ لم يقولوا أنها تعزز المذهبية وترسخها ؟وعلى كل حال فأن مسالة تداخل المفاهيم المرتبطة بتسمية الجماعات البشرية معقدة وغير محسومة من قبل العلماء وهي هلامية بحيث تُعرف وفق متغيرات متعددة ،وقد ناقشت هذا الموضوع في مقال سابق .
ولتلافي هذه الاشكالات والاعلانات المتكررة من البطريركية للايضاح وتغيير المسودات، براي أن تثبت المسودة التي تبنتها مجموعة من الاشخاص برعاية سيادة مار ابراهيم ابراهيم الاسقف الفخري لابرشية مار توما في مشيكن الامريكية والمسؤول عن الرابطة في المهجر للتحضير لتأسيسها وفقا لمقررات السينودس، لغرض مناقشتها والبث بنصوصها في المؤتمر التاسيسي، فهي قابلة للتغيير أضافة َأو حذفاَ .حيث تبنتها مجموعة من الاشخاص بمختلف الطبقات الاجتماعية والفكرية الاكاديمية والثقافية والخبرة العملية ، سواء الذين حضروا اللقاء أو ارسلوا ملاحظاتهم ايميليا لمناقشتها .فتميز اللقاء بالمناقشات الهادئة والاستفتاء على كل فقرة تخص المسودة وتثبيت نتيجة الاغلبية ، فكانت دقيقة ومنطقية وشاملة ، وتميزت بأهميتها للمداخلات الرزينة والهادئة من سيادة المطران مار ابراهيم وتعاطيه الديمقراطي مع المناقشين وقناعته بما طُرح حتى وان كانت الفكرة لا تتوافق مع رأيه ،فقلما صادفتُ رجل دين بهكذا مستوى من الوعي الفكري المُتسم بالنقاش المُريح والتبادل بالاراء والاهتمام برأي الاكثرية ،وأشعار المقابل بالطمأنينة في أبداء الرأي .
وأخيرا تمنياتي للمشتركين في اللقاء التأسيسي النجاح والخروج بمسودة للنظام الداخلي موفقة ومحددة المعالم ،فالنظام الداخلي سيعد القانون الاساسي الذي ستنطلق منه الرابطة في عملها الميداني .