المحرر موضوع: أصنام الغناء  (زيارة 995 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سـلوان سـاكو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 454
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
أصنام الغناء
« في: 06:33 22/09/2015 »
أصنام  الغناء 
الغناء هو جزء من ذاكرة الشعوب الحية ، وايضاً جزء من هويتهم الثقافية، مع الكثير من المفردات التي تُثبت هذه الهوية ، مثل  العادات والتقاليد ،  والملابس ، والطعام ، وحتى اللهجة المحكية الدارجة جزء من هذه الثقافة  وهذا التنوع. تصبح هذه المفردات مع توالي السنينّ مصدر تذكُر، تتناقلها الأجيال من جيل الى أخر، وخاصة الاغاني المُتوارثة ،   فأصبحت  تسمُع ، وتُعاد وتُغنىَ في ليالي السمر ، وذات إقاع  ورنة خاصة،  وأن مضى عليها وقت طويل ، مثل أغنية يردلي المصلاوية  التي هي بالأساس جاءت من منطقة ماردين مع هجرة الأرمن والسريان الى العراق مع بدايات القرن العشرين ، وأستقرت في الاذهان لكلماتها البسيطة ويقاعها الجميل ، مَع أضافة بعض التحسينات أليها من وقت الى أخر ،  وهو الحال في  الكثير من الأغاني والمقطوعات التي تُسمة في اللهجة المصرية طقطوقة، والتي ظلت مُترسخة في الاذهان.
في العراق حملت الحروب المتتالي والعبثية  ثقافة غنائية من نوع أخر ، هو الغناء السياسي أو الأناشيد الوطنية لمرحلة الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988 ، حيث حصل توجيه من القيادة العليا الى وزوارة الثقافة والإعلام أن توجه الشعراء والملُحنين  وكتاب الأغاني الى تسَخَير أمكانيتها وأبداعاتهم الفنية  لخدمة هذه الحرب،  ولكن عن طريق الصوت العذب والقلم البليغْ وليس البندقية ، فظهرت لنا مجموعة اغانى تُمجد المعركة القادسية وشخصية صدام ،  وتهيء الجندي معنويا،  وتشحنه فكرياً في قوالب جاهزة تجعل  القتال مُقدس ، فيموت  وهو مُرتاح الضمير ، ويقتل ايضاً بدم  بارد معتُقدّ أن الآخر هو المُعتدي،  بدون أن يعرف أو يجرئ على التفكير كيف بدأت هذه الحرب وكيف أنتهت ولماذا ذهب أكثر من مليون شهيد ومفقود  دون أي معنىً يذكر ، المُهم أن صُرفاتْ الدبابات تدور رحاها،  ورائحة البارود تعبقّ المكان ، والدخان يعانق  السماء،  وأشلاء الجثث تتناثر على التراب في  مشهد  مأساوي مرُعب.
أشترك في أخراج هذه المجموعة من الأغاني الى النور شعراء كبار منهم عبد الرزاق عبد الواحد مكي الربيعي  دَاوُدَ القيسي والملحن طالب القره غولي ، وعمالقة  الطرب العراقي ألياس خضر فاضل عوّاد  سعدون جابر محمود أنور صلاح عبد الغفور..... الخ .  كل هذه الأسماء والمؤسسات  الإعلامية   تعمل على تمجيد  وأعلاء من شأن شخص واحد هو القائد. وكان التوجيه والبث عن طريق قناة  تلفزيونية واحدة، هي القناة الأولى  التي  تعرض هذه الأناشيد الوطنية على مدار الساعة وتعُاد أكثر من مرة في اليوم الواحد،  فستقرت في الأذهان وأخذت حيّز واسع من مخزون الذاكرة الجماعية للناس، لأنها حُشرت عنوة مع التكرار والأعادة، وأصبح مع مرور الوقت الانعتاق والتحرر ونسيانها  أمر صعّب ، لكونها مرتبطة بصور كثيرة  في ألبومات من الحياة اليومية مطبوعة في اللاشعور، مثلاً ، المقاتل حين يعود الى البيت في أجازة مرتدي الزِّي العسكرية  ، السيارة الخاكية  ، البندقية ، وصورة  بانورامية تراجيدية تحُاكي هذا الواقع.
وحال  المعارك  الكبيرة ، هو  خسائر ، وشهداء وأسرى، و قتال شرس مهلُك ، تضيع  فيها القيمّ  ، ومن هو الغالب والمغلوب ، والظالم والمظلوم . ومع  كل هذا تعرض الانتصارات الكاذبة من ساحات الوغى على شاشات التلفاز بدون آي حرج ، وحين غنى كاظم  الساهر عروستنا وأخذناها، بمناسبة   تحرير الفاو،  لم يقل لنا لا الساهر ولا غيره كم  هو  كان عدد  الشهداء الذي ذهبوا  في أتون  هذه المعركة ، وعدد العوائل التي نُكبت.  كل  هذا كان مع  سنوات الثمانينات  والتسعينيات ، وبدأت تخف مَع  بداية الألفية  الجديدة  وأنتهت مع أحتلال  وسقوط العراق في 2003.  ولكن ظلت مستقرة في الوجدان العاطفي تُدغدغ  المشاعر المكبوتة ، ونقلناها معنا حيث رحلنا ، نرددها ونغُنيها في حفلتنا وأعراسنا،  وانا شخصيا حضرت أكثر من ثلاث أو أربع حفلات أعراس في ولاية ملبورن أستراليا ، كان المُطرب يغنى فيها  يا كاع  ترابج  كافوري ، ولكن أرض العراق ليست كَافور كما تقول الاغنية ، هي مرَويا ومتُشبعَة  بدماء الشهداء الأبرياء من بداية  الكون والى الان ،  ولم يخطر ببال المُغني والفرقة التي معه أن هذا النوع من الغناء يحمل  ويستحضر  في طياته وجعْ  وألم  ذكريات لناس ودعوا  ودفنوا موتاهم  وفلذات  أكبادهم  بسبب  قضية  تبين  انها خاسرة من البداية. مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود ألاف الاغاني الغزلية والعاطفية  والزجل لهذا النوع من  المناسبات والأعراس.
الشعب الألماني أول شيء  فعله بعد الحرب الكونية الثانية هو طَي صفحة الماضي،  وترك كل ما يتعلق بها،  بما ذلك  الأغاني الوطني التي كانت تمُجد هتلر والحزب النازي  ، في وقت كانت برلين العاصمة مدمرة بالكامل  ولا يوجد حجر على حجر مستقر فيها ولا تصلح لشيء  ، ومع  كل هذا حلق الشعب الألماني مجددا في فضاء الحرية والبناء والتجديد ، وأنشاء ارقى الجامعات والكليات التي هي بدورها أقامت جيل  جديد يؤمن بالمعرفة والعلم،  والفكر والفلسفة ، ويطور ذاته ويصلح ما عطبته الحرب  في جميع نواحي الحياة فنهض من كبوته وهو أقوى من الاول . وايضاً اليابان التي أتعضت من تلك الحرب اللعينة بعد قنبلة هيورشيما ونجازاكي ، وأتخذت من ناصية العلم  والتطوير التقني لهم سبيلاً،  فنبغوا في هذا المجال  بدون  منازع ، ورذلوا الماضي الغير مأسوف  عليه.
هل نسطيع نحن أن نعبر الى المستقبل  ونقفز فوق ماضينا وجروحنا وآلامنا،  ونلحق في ركب الحداثة ، أم نبقى نشتر الماضي ، الذي ذهب ولن يعود،  ونصبح مثل النعامة التي   تدفن رأسها  في التراب كي لا تتفاعل مع محيطها وبيئتها. أم أن هذا صعب ، ومازلنا بعد  في قوقعة  الوهم  والسراب، لا مقدرة لنا على تمزيق قشرة البيضة الهش والخروج من عنق الزجاجة القصير ، وعيش  الحياة ، وتحطيم صنم الماضي البغيض.