المحرر موضوع: خرجتُ والغمامةَ السوداء  (زيارة 845 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل شمعون كوسا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
خرجتُ والغمامةَ السوداء
« في: 02:06 22/05/2016 »
خرجتُ والغمامةَ السوداء
شمعون كوسا

كنت في يوم بانت السماءُ وكأنّها قد أوكلت خفارتَها  الى غيوم سوداء ، والغيوم السوداء تنقلني وكالمعتاد  الى عالم غامض محمّل بالأسرار. اصبحتِ الغيومُ الخافرة هذه حافزي  للخروج  الى ساحة عامة ، تؤمّها شرائحُ مختلفة من الناس ، بعضهم يفكر بصمت ، وبعضهم لا ينقطع عن الحديث  ، وبعض آخر  يعزف او يغني ويرقص ، وكلهم حريصون على ألاّ يقلقوا راحة بعضهم البعض . حاولتُ  المرور على اغلب هذه الاجنحة ، لأعاينَ ، وأسبر غور الافكار ، واصغي لبعض ما يقال ، وأخمّن بعض ما لا يُقال .
اخترتُ حيّز المفكرين بصمت، وحال جلوسي استقرّت أنظاري على حركة  نسيم يتجوّل بهدوء . كنت أرقب إلهاما يهوّن عليّ دخول الافكار وقراءتها.  وبانتظار ذلك ، انشغلت  بالنسمات الهادئة ، التي اعادتني تدريجيا الى فترة صباي ، أيام كنت اغنّي وأصغي بشغف وشوق الى كل ما هو عذب ويريح النفس . كانت الاشجار تطاوع ابسط حركات النسيم الذي كان يمرّ بسكون ، فيتوقف ، ويتابع مساره ، ويعود . بعض نقلاته كانت تخلق داخل نفسي  سعادة غريبة ، كنت اترقب عودة النسيم الى نفس النقطة لأستعيد نفس الاحساس السعيد  ولكن دون جدوى،  لان النسيم كالماء هو في حركة تغيير دائم .
 رأيت من بين المفكرين شخصا كان في حالة انشراح وكأنه يستعيد مثلي ذكرياته فيبتسم بهدوء ويحرك رأسه. ورأيت آخر يرفع انظاره الى السماء وكأني به يقول لها ، انني هنا  في قمة السعادة في أحضان هذه الطبيعة الخلابة وجلّ مناي ان استمرّ فيها الى الابد. وشخص آخر يقرأ كتابا ، فيترك الكتاب ويغمض عينه ويعود ليقرأ قليلا ويوجّه انظاره الى الغيوم السوداء وكأنه قد عقد العزم على  اختراق غموضها وخفاياها . 
ورأيت شخصا آخر وكأنه في مناجاة مع خالقه. كان كليمُ الله هذا مصحوباً بطفل لم ينهِ العقد الاول من عمره ولكنه يشكو من عوق في معظم انحاء جسمه . كان الاب يشكو حالة ابنه، فخِلته يقول :  ما ذنب هذا الطفل ؟  لماذا اوجده الله على هذه الحالة ؟ أليس اللهُ خالقَه ؟ اليس ابني مخلوقا مثل الجميع على صورة الله ؟ أين صورة الله فيه ؟ تصورت نفسي وكأني جالس بجانبه ، فأجبتُه قائلا : ان ما اصاب ابنك ليس خطأَه ولا خطأ والديه ، ولكن هي ارادة الله . هنا أتأنى جوابه فوريا وبنبرة حادة فقال : وما مصلحة الله وحكمته في إعاقة هذا الطفل الذي لا يطيق نفسه ولا يحتمل آلاما تفوق طاقته ؟ متابعاً  ردّي ، وكأني لا زلت معه قلت : ان الله قد خلق الطبيعة وتركها تسير وفق قوانين يسود فيها نظام العلة والمعلول أو السبب والنتيجة ، وهناك اسباب غير منظورة لا نفقهها تؤدي الى مثل هذه النتائج .  سمعت المشتكي يردّ قائلا : ألم يمكن بمقدور الله منع هذه الاسباب ؟ وبعد فترة صمت تابع حديثه قائلاً :  ولماذا لا يتدخل الله لإيقاف مثل هذه الاسباب؟ الم يتدخل في تغيير نظام الطبيعة أو ايقافه لدى اجتراح العجائب ؟ ألا يستحق ابني مثل هذا التدخل في نظام الطبيعة ؟ عندما رأيت بان الموضوع سيتّخذ منحىً لا أقوى الاسترسال فيه ، قلت لشاكي ربّه  : إن نوايا الله وسبله  غير قابلة للإدراك . ولا اعرف اذا كان قد سمعني أم لا !!!
تركت ذاك المكان  وتحوّلتُ الى حيث الصخب ، وبعد إمضاء بعض الوقت هناك،  هممت بالعودة  ، وقبل ان اتحرك ، سمعت  جدالا حادّا بين شخصين قد تأهبا للعودة ، ينتقدان رجلا دينيا . اردت الاسراع لعدم رغبتي الخوض في مثل هذا الحديث ، ولكن الاصوات كانت تتعالى أكثر فأكثر، فكان يقول احدهم : هل يليق بكاهن ، وهو في عطلته بعيداً عن كنيسته،  ان يتصل بأحد الاشخاص ويطلب منه بإلحاح ألاّ يدَعَ الكاهن ،الذي ينوب عنه في اقامة القداس ، بالسيطرة على المبلغ الذي يجمع في الصينية ؟ وتابع نفس الشخص ايضا وقال : هل يحق لنفس الكاهن ، الذي غاب  في  مهمة شخصية أخرى ، ان يطالب اجرة سرّ عماد  تمّ في غيابه على يد كاهن زميل له ؟  وكان ذيل  الحديث عن رجل ديني آخر ، يمنع احد رعاياه من دخول الكنيسة لأنه لا يرتاح له  ولا يطيقه ؟

ألم يكن أولى بهذا الرجل الروحاني جدا ان يبتهج لإقامة قداس في كنيسته  والاحتفال بمراسيم عماد فيها وهو غائب ؟  ولكن حب المال كان قد احتل المرتبة الاولى في أولويات هذا الرجل الزاهد عن الدنيا ، فحوّل بيت الله الى صالة تجارية!!!
قلت في نفسي ان كل ما سمعته دون ارادتي ليس إلاّ غيضاً من فيض ، وينتهي دوما الى طريق مغلق . هؤلاء الذين كان يُفترض ان يكونوا ناراً متّقدة تُدفئ المؤمنين وتنوّر طريقهم ، اصبح الكثيرون منهم يكتفون بمجرد  شمعة ، وبعضهم قد بهتت  شمعتهم ، وبعضهم تذبذب نورها ، والقسم الاكبر منهم  قد انطفأت منذ زمن طويل ولكنهم احتفظوا بلسان طويل  وحركات معدومة من الروح .  للأسف الشديد هذا ليس لا شعراً ولا خيالا ولا افتراء، ولكنه واقع وحقيقة.
دخلتُ الساحة بمعيّة غيوم سوداء ، فانشرحتْ نفسي لدقائق مع حركة النسيم الهادئة ، وعدت بصحبة نفس الغيوم السوداء بعد أن كشفت ما  تخفيه في ثناياها من كرب وشكاوى وانتقادات .