المحرر موضوع: وراء الليل  (زيارة 1189 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل فائق بلـو

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 19
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
وراء الليل
« في: 01:09 16/03/2007 »
                                                         وراء الليل
فائق بلو               

يعود أبو جان من الدوام المسائي مستقبلا من عائلته (الأم،ولدان وبنتان) شاكرا ربه على السلام الذي يخيم ويسترهو وعائلته من الأوضاع الغير الطبيعية،لان قبل أيام خلت عند دخوله إلى المستشفى تفاجئ باستقرار قذيفة مدفع في محل عمله ، وموجودات القسم قد انقلبت رأس على عقب وكان خارج الدائرة عند وقوع الحادث ...يدخل البيت لتستقر السكينة قلبه ويغير ملابسه الرسمية ويرتدي ملابس الراحة (البجامة) ويتناول العشاء مع عائلته التي تنتظره عن شغف. وبعد الاطمئنان من عملية صك الأبواب وغلق النوافذ وإسدال الستائر لتبقى العائلة بوضع آمن ،لان المنطقة التي يسكنها في بغداد غير مستقرة أمنيا بسبب المصادمات المستمرة بين قوات الحكومة ومجهولين من حملة السلاح ،وكالمعتاد أصبحت أصوات القنابل والبنادق لاتعيق سمع الموسيقى أو أخبار التلفزة لتكّيفهم على الوضع نفسيا وسمعيا. والتمت العائلة على مائدة العشاء وهم يناقشون مستقبل أفرادها وخصوصا المتخرجين من الجامعات وتحقيق مآربهم الثقافية والاجتماعية ليشقوا مسيرة حياتهم ويمسكوا قبضة المسؤولية التي تقرر مصير كل فرد وبدأ خطوته الأولى بتحمل عبئ متطلبات العيش،وبها يشعر الإنسان بإنسانيته ويحس بكيانه وينطق بما تعلمه وما حصل عليه علميا وسلاح التربية الصالحة خير دفاع له يشع طريقه وهالة الأخلاق الحسنة ترتسم سبيله وميزان رزق الحلال هو القلب النابض له والكسب الوحيد الذي يملا البطون ...بهذه النصائح وبالبذور الطيبة كان أبو جان يحرك مشاعر أولاده وعائلته، بأسلوبه الرقيق وكلامه الهادئ الخاص ممزوج بالبسمة الخفيفة التي تسيطر على شفتيه. هكذا كانت هذه العائلة النموذجية تقضي لياليها لتستيقظ مبكرا ويتوجه كل ذي عمل إلى عمله. لكن في ليلة 23-24نيسان من 2005م ما حصل لم يكن متوقعا و كالمعتاد وهم متناولين طعام العشاء والحوارات بينهم مستمرة ودردشة الأهل المنسجمة كالعادة ،والأمل يقطن جبينهم وأبو جان مسترخي على كرسي و هم على وشك توجههم إلى ثكناتهم لان الساعة اقتربت من الثانية عشرة ليلا وإذا بصوت أطلاقات نار قريبة من المنزل وتحديدا في الشارع المقابل والعائلة جالسة، فامسك دكة الكرسي لينهض لمعرفة مصدر الطلاقات وفجأة صعق جسمه ووهنت قدرته ليأخذ مكانه وإذا بالدم الغزير يتدفق من ظهره ،في اللحظة نفسها سمع الأهل صوت أطلاقة تضرب الباب الرئيسي(الخشبي) للمدخل وتثقب الباب لتستقر في جسم أبو جان ومن الجهة القريبة من القلب وسقط الضحية أرضا ونزيف الدم يأخذه و صرخات الأهل تشق صوت الطلاقات والنحيب العالي ...وهنا تكتمل المأساة حيث لا منجد يصل إليه ولا أنيس يمر يتصل جان بالإسعاف دون جدوى والآخر يطلب الشرطة وبدون جدوى  ليس له من يلبي طلبه والجيران تسمع العويل ولن يتمكنوا من الهروع إلى الدار بسبب كثافة النار! متى تكمن الكارثة إذا؟ الأب ينزف ويلفظ أنفاسه الأخيرة وهو في عقر دار والإسعاف يتعذر عليها الوصول والأهل ينظر بحزن ويأس ومرارة إلى مستقبل وليهم المحتوم ويغمض غمضته الأخيرة. آه ...ثم آه هل للقدر دور في هذه المأساة؟ أم قدرنا نحن العراقيون لتنهل علينا المصائب ونرضى بهذا الواقع المرير شئنا أم أبينا ... وهكذا يفارق أبو جان الحياة بكل بساطة وكأن لم يحدث شيء سوى أهله وعائلته التي تحترق أفئدتهم والحسرة تجر المآسي  وما في اليد حيلة إلا إبلاغ الأقارب بالفاجعة الكبرى والإجراءات الروتينية لإيصاله مثواه الأخير، وهنا بعد ساعات من المحنة وقطع أمل الحياة فيه وهدوء الوضع نسبيا هرعت الإسعاف وصوت صفارتها يدوي عن بعد ويتم إخلائه بحذر وسرعة فائقة لكن بعد أن فارق الحياة وأصبح جثة هامدة ويبقى في المستشفى(الطب العدلي) إلى اليوم الثاني ليسلم لذويه وينقل إلى مسقط رأسه ليدفن في مقبرته ويبقى سراب بسبب بطش ورعونة الحمقاء وهم يجولون بين منطقة وأخرى محدثون  الكوارث للآمنين في ديارهم وتبقى العائلة يتيمة بسبب الظلم ويذهب هو سدى دون أن يتذوق طعم الحياة أو يفرح بأولاده وتقطفه المنية بعمر لايتجاوز الخمسين عام . مثل ما رحلت قبله مئات الأبرياء ومن يعلم بعده لأنه ليس الأخير حتى بزوغ شعاع الأمان وتحقن دماء الأبرياء .