المحرر موضوع: ثمرة الكستناء المحروقة  (زيارة 1356 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سـلوان سـاكو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 454
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ثمرة الكستناء المحروقة
« في: 11:24 29/06/2016 »


ثمرة الكسَتناء المحروقة

قصة قصيرة

سلوان ساكو

مستوحاةّ من مأسيْ شعب أعزل توالتْ عليه المِحنْ والمصائب، كان يظنْ أنه في مأمن من الأشرار في ذلك الركن البعيد أقصى البلاد، ولكن فجأةً وبدون مُقدمات يبدأ سفر جديد من الألم والضياع والهجرة ، تمتزج فيها دماء القتلى بدماء العذارى ، بُكَاء الرجال بنحيب الثكَالَى ، أزيز الرصاصْ بصرخات الأبرياء الفارين نحو المجهول، الأقدام الحافية تتمزقْ على ذلك الحجر المُلتهب. كل هذا يتجسد عبر صورة أزلية  للشر، في تراجيديا دموية كان عنوانها الموت والدمار واللاإنسانية.
   
إهداء
الى كل أبرياء هذا الوطن من قُتلْ على يدّ المتعصبين والتكفيريين.
                                                       
                                                   
                                               

( الشيئ الوحيد الذي يجعل الشر ينتصر هو أن يظل الخير ساكناً لا يفعل شيئاً)                                           
                                                  أدموند بورك
                              ***
 
مع بزوغ خيوط الفجرالأولى، ومع صيحات الديك المُتتالية التي لا تهدأ ، تنهض بفرين بتمَهل كي لا تصدر أي حركة وصوت فينهض الباقون من أفراد الأسرة . تتجه نحو غرفة المعيشة الصغيرة بهدوء وتوقد التنور الحطبي بسهولة ، وتأخذ قدر العجين الذي كانت قد أعدته قبل هذا الوقت بأربع ساعات. تجلس مفترشة الارض قبالة النار التي بدأت تخمد ، وبدأ الجمر يتخذ شكله الأحمر القاني، في حركة من يديها البيضاء الخفيفة تفتح كرات العجين وتجعله على شكل أقراص متوسطة الحجم وترميه فوق قطعة الصاج الحديدية  فيتحول بعد دقائق الى خبز طازج لذيذ له مذاق الحطب.
ينهض زوجها خيري من سباته العميق عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً ، ويغتسل بصنبور الماء في الباحة الأمامية للبيت، ينظر وهو يستقيم وقطرات الماء تسيل من على وجهه الى قِمم الجبال البعيدة وهي تُعانق عنان السماء، لطالما أعجبه هذا المنظر وهو صغير حيث كان يطلب من أبيه الغائب أن يحمله على كتفه ليشاهد الجبال ، لقد مرَ وقت طويل على ذلك قال لنفسه، أتجه الى المطبخ ووقف أمام زوجته قال لها وهو يُنشف رأسه بمنشفة رمادية اللون ، صباح الخير ، ردت عليه بالمثل وهي تبتسم، أخذ قطعة من الخبز الحار وصار يمضغها متجهاً الى غرفته ليرتدي ملابس الخروج. تنهض أمه العجوز بصعوبة من على السرير  معصوبة  الرأس وهي تأن من آلام الركبة والمفاصل. الأولاد بعدهم نيام لم يصحوا ، فالدوام في المدرسة لم يبدأ بعد. يجلس الثلاثة مفترشين الأرض على صينية الأفطار المكونة من جبن جبلي من حليب الماعز وعسل أسود تشتهر به تلك المنطاق وبيض مَقلي على دهن حر من دجاجات المنزل وخبز حار طري. ينهض خيري من على الصينية مودعاً زوجته ومقَبلا رأس أمه التي تذكره أن لا ينسى مسُكن المفاصل حيث لم يتبقى في العلبة سوى حبتين وهي لا تقدر بدونه، يحرك رأسه بالإيجاب وينطلق الى عمله في المستوصف الصحي الصغير للقرية البعيدة على الحدود العراقية السورية التابعة من الناحية  الادارية  لقضاء سنجار ، والتي يقطنها عدد قليل من السكان القرويين الطيبين يأكلون ما يزرعون وما تجود به الأرض من خيرات، ويشربون ما يخمرونه من كحول بلدي مُعتق ، كأن العالم قد نسيهم هناك في هذا الجيب الجَبلي البعيد.
 عند حلول الظهيرة  يعود خيري الى بيته الطيني المكون من غرفتان صغيرتان واحدة له ولزوجته مع أبنتهم والاخرى لأمه وأولاده الأثنين بالاضافة لصالة جلوس أكبر من الغرف قليلاً ، وفي الفناء الخارجي حضيرة متوسطة الحجم لتربية الدجاج مع معزتين وثلاثة خراف. فكل بيوت القرية السبعة والاربعين هي من الطين المخلوط بحليب الماعز، حيث يكون في الصيف بارداً وفي الشتاء دافئاً. يفتح خيري الباب الحديدي الأخضر المتأكل عند الحواف ويدخل الى المطبخ حيث تعد زوجته طعام الغداء وأمه في الباحة الخلفية للبيت تُطعم الدجاجات من بقايا فُتات خُبز الصباح، وأولاده الاثنين يلهون مع الديك الذي بات يعرفهم ويحبّ أن يلعب معهم ويُشاغبهم دون أذية. أبنته الطفلة ذات السنة والنصف والشبيهة بأمها تجلس على قطعة من صوف الخروف وتراقب حركات والدتها الرشيقة. حين ترى بفرين خيري وهو يدخل عليه تنفتح أساريرها وتأخذ من يده أكياس الخُضار والفواكه ، يبتسم لها وهو يأخذ أبنته من الارض ويقبلها من وجهها وهي تضحك مسروره ،تطلب بفرين من زوجها أخراج جاني الى أشعة  الشمس لحين الأنتهائي من أعداد الطعام.
                                ***
بفرين أمرأة في السابعة والعشرين من العمر تملك قدر كبير من الجمال ، بيضاء البشرة من الولادة وعلى هذا الأساس دعوها بفرين الذي يعني الثلج ، متوسطة الطول لها عينان زرقاوان كبيرتان، وشعر أسود داكن ، يقُال أنها ورثتهم من جدّ أمها حيث كان بهي الطلعة حسن الوجه طويل القامة ذوْ ملامح حاده، يُحكى في القرية على لسان كبار السن  أنه جاء من تخوم أرمينيا على حصان أشهب مع مال وفير من ليرات ذهب رشادي وأستقر في هذه القرية البعيدة بعد أن تزوج من ثلاث نساء أحبهم جميعاً  وأنجب منهم ذرية كبيرة.
 إلتقت بفرين بزوجها خيري أول مرة في عيد رأس السنة سري صال في مزار شرف الدين شمال جبل سنجار صدفة ، فأبتسمت له وأبتسم لها وأرخت العينان الواسعتان الى الأرض علامة الحياء والخفرْ، في تلك الساعة دقْ القلبان معاً في نفس الوقت. لم ينم خيري ليلتها ، وظل يفكر في الفتاة ، الى أن طلع الصباح وأخبر أمه ما جاش في صدره من حب في عيد رأس السنة ، لم تدخر باران الوقت فذهبت برفقة أختها وعمْ خيري الكبير الشيخ بركات علي شمو لخطبتها ، فوافقت بفرين دون تردد. مع أن خيري شاب قصير القامة صغير العينين معقوف الانف في  السادسة والعشرين من العمر وهي بنت الثامنة عشر ، ولكنها أحست أنه طيب القلب نبيل المشاعر ونقي السريرة ذوّ نفساً صافية ويحبها كثيراً ، وفعلاً  لم يخيب ظنها.  بعد أقل من شهر تمت المراسيم ، ودقت الطبول وصدحْ المزمار العالي في وسط القرية ، وذبُحت سبعْ خراف سمينة  لأطعام  الناس والضيوف الذين جاءوا من البلدات والقرى المجاورة للمشاركة في العرس ، كل واحد يحمل معه ما تيسر من هَدايا أكراماً للعريس وحباً فيه. هكذا كانت العادات والتقاليد في تلك النواحي. تم كل ذلك في نهاية ربيع عام 2001.
خيري  هو الأبن الثالث في ترتيب الأسرة من الزوج الثاني ، فأمه باران كانت متزوجة من رجل أخر ، مات في البرية  مسموماً حيث لدغته أفعى صغيرة سامة وهو  يجمع فطر الكمأ في موسم الربيع. لم تفلحْ محاولات أصدقائه في أنقاذه فمات مُخلفاً ورائه أرملة شابة مع فتاتين كانت الكبيرة في السابعة والاخرى في الخامسة من العمر. ظلت باران عازفة عن الزواج الى أن تقدم إليها درويش علي شمو أبن خالة زوجها الاول وصديقه الحمَيم بعد ذلك الحادث بسنة ونصف ، كان درويش متزوج من واحدة أخرى ولم ينجب منها ذرية ، لم يشأ أن تتربى بنات صديقه وابن خالته في كنف رجل غريب ، فاعتنى بالفتاتين مثل بناته الى حين تزوجا. أنجب من باران بعد الزواج بعامين ولد أسماه خيري وبعد ذلك بسنة فتاة  ثم فتاة أخرى.
في شتاء عام 1986 والثلوج تُغطي قِمِم الجبال البعيدة ، والليل في الهزيع الاول منه حيث كان جميع  أفراد العائلة مجتمعين حولة نار المدفأة الخشبية يتحدثون ، والاولاد  يلعبون، والأب يُقلب ثِمار الكستناء التركي على القطعة المعدنية التي كانت فوق المدفأة  بمخرز حديدي ويثقشرها ويوزعها  على أبنائه.
فجأةً يدق باب البيت الخارجي بقوة  فينقبض قلب باران وتمسك يده راجيه أن لا يذهب، فقد أحست أن كارثة سوف تقع هذه الليلة.  ولكن هو مسحَ يدها بهدوء وأعطاها المخرز الحديدي،  وأسرع الى الباب ، سأل عن الطارق قبل أن يدير العروة، فجاءه صوت  صديقه شوان حجي كئيباً ، حين فتح الباب رأى صديقه مع مختار القرية وأثنان في زيّ مدني وسيارة لاندكروزر بيضاء اللون موحلة واقفة تنتظرهم مع السائق. حين شاهدهم  درويش هكذا دهمته الحيرة وأرتبك فقال بعد أن جال نظره على الجميع تفضلوا الى الداخل ، فقال واحد من العناصر مباغتاً ، "شكراً  لك ، هي شغلة دقائق" ، تدخل المختار على عجل  وهو مكَفهر الوجه حزين من لا حول ولا قوة له، الجماعة من معاونية أمن سنجار يودون أن يستفسروا منك على بعض الأمور ، أستغرب خيري من هذه المفرزة في هذه الوقت ، فهو حسب علمه لم يخالف أمراً طوال حياته، ولم يقع في آي مشاكل مع الحكومة ، صحيح هو غير منتمى لحزب االبعث ولكن ليس ضده على أية حال ، وهو في سراية الدفاع الوطني (الفرسان)  حاله حال كل أقرانه وكل رجال القرية ويحمل هوية خضراء اللون مختومة بالاحمر على صورته الشخصية تُثبت ذلك. وهو في لَجة أفكاره شارد الذهن،  قاطعه صوت عريض أجش ذوّ لكنة عربية  قروية  لعنصر الدورية ، قائلاً له بهدوء شاخصاً الى عينيه ، لا تقلق هي مُجرد أسئلة وأستفسارات بسيطة نأخذها منك في المعاونية وتعود الى بيتك بعد ساعة.  كان العنصر المتكلم أسمر الوجه ضعيف البنُية  يكاد ينقطع من الوسط ، ذو نظرات حادة مُخيفة ، أسنانه مُصفرة من دخان السكائر، نظر درويش الى المفوض فتوجسه الشك والريبة، ولكن ما العمل فليس باليد حيلة ، فانصاع للأمر وطلب من المفوض أن يرتدي ملابسه فقد كان بملابس البيت، فسمح له العنصر بالدخول ولكن دون تأخير وأشعل سجارة مطأطأ رأسه نحو الأرض، دخلَ خيري الى البيت ممُتقع الوجه يكاد يخلو الدم منه، فسألته زوجته ما الخطب فقال وهو تَائهِ البال حائر الفكر ، إن أمن سنجار يطلبوني للتحقيق سوف أذهب معهم وأعود بعدة ساعة انتِ أغلقي الباب جيداً وأطعمي الاولاد لن أتأخر سوف أعود قبل منتصف الليل ،أخذ فروته الصوفية ومحفظة  نقوده وخرج. أجلسوه في الوسط وأحكموا أقفال الأصفاد على يديه ، كأنه مجرم خطير، وقبل أن يتحرك السائق تلاقت نظراته بنظرات صديقه شوان عبرَ نافذة السيارة وعلى ضوء مصباحها ، فازادد أضطراباً وتوجس قلبه خوفاً ، لم يرى شوان كما رآه الليلة وبتلك النظرات النصف مُغمضة. سارت السيارة بهم بتمهل على الطريق الترابي قبل أن تنطلق مسرعة في الشارع العام. في ذلك المساء الرهيب وفي غرفة باردة من الطابق الثاني في معاونية أمن ناحية سنجار أجريت معه التحقيقات ألاولية حول أتصاله مع مجموعة تنتمى للحزب الشيوعي ، أنكر درويش كل التهُم الموجه إليه وقال أنه لا يعرف شيئاً عن هذا الموضوع ولم يسمع عنه في نواحي قريته ، نظر إليه الضابط بأشمئزاز وقال وهو ينقرّ بأصابعه الأربعة على مكتبه  نقرات خفيفة (راح أخليك تحجي ياحيوان ) ، وخرج ، بعد قليل دخل عليه رجلان ضخمان  فضربوه بشدة وعذبوه كثيراً وحين أنزلوه من على المروحة السقفية وهو يصرخ من الوجع قال كلمة واحدة والدم يسيل على  شفتيه ما هي تهمتي، فأجابه المفوض بحقد بالغ قائلاً ، التخابر مع سورية الدولة العدو للعراق والحزب والثورة وتشكيل نواة حزب شيوعي ثم بصق في وجهه، لم يعلق على  آي شيء فقد أيقن أن واحدة من هذه التُهم الملفقة تُؤدي الى غَياَهب السجون والمُعتقلات والأعدام. بعد قليل دخل الضابط  الخَفر وهو يتجه الى مكتبه وقال دون أن ينظر إليه الأن يجب أن توقع على أعترافتك ونشاطك السياسي المعارض ونفخ دخان سكارته في وجه خيري ، بيدّ ترتجف أمسك القلم ووقع على الورقة البيضاء التي سقط عليها نقطة دمْ صغيرة  كانت على طَرفَ شَفتَيِه لم ينتبه لها الضابط. مشى به المفوض  الى غرفة  التوقيف ، وقبل أن يُغلق الحارس الباب الحديدي الثقيل ويسحب المزِلاج الفولاذي . قال له المفوض وهو يبتسم بخبث ظاهر، تعرف من وَشَى بك ؟ صديقك الحَميم شوان ، وأغلق الباب بقوة وخرج .  في ذلك المساء الشتوي البارد ، جلس خيري على أرضية الغرفة وحيداً وهو يأن من التعذيب والألم، يفكر بكلمات المفوض التي قالها عن صديقه ،هل صحيح هو الذي وَشَى به ، ولكن لماذا ، فهو حقاً ليس لديه أي علاقة بكل هذه التهم وبعيد كل البُعد عن السياسة ويكرهها ولا يعرف شيئ عن الشيوعية والشيوعيين، ولكنه لاحظ في الفترة الاخيرة بعض التصرفات الغربية على شوان ويتحدث عن الثورة الاشتراكية والماركسية وشاهد في يده كتاب صغير الحجم أحمر اللون قرأ عنوانه العريض على الغلاف السميكّ، المادية والمذهب النقدي التجريبي وفي الأسفل لينين ، ولكن لم يُعير للأمر آي أهمية ولم يخطر على باله ابداً أن هذا النوع من الكتب ممنوع من التداول. أيقن بعد فوات الاوان أن شوان صديقه العزيز جعله كبش فداء وشوان هو الشيوعي الحقيقي. أصابه دوار شديد ، وبات يُفكر في أولاده الاطفال وزوجته ، ومصيره المجهول الذي لا يعرف أحد أين سيكون وكيف سوف ينتهي مع هؤلاء الذئاب ، فصار يبكي من الحسرة والألم والغبُن الذي لحق به وهو البريء ، حتى الحارس سمع صوت نحيبه العالي، وتبلل ثوبه الدامي  بدموعه الحارة حتى جفت المقلتين من العبَرات. هنالك في ذلك الركن من التوقيف أقصى العراق كانت صورة للرئيس المُفدى مُعلقة فوق رأس درويش ، جالساً القرفصاء يشرب الشاي في بيت من القصب وهو يبتسم في كبرياء وشمُوخ يُدخن  السيكار الكوبي الثمين.
 فجر اليوم الثاني رُحل درويش الى مديرية أمن نينوى وبعد ذلك بثلاثة أيام الى دائرة الأمن العامة في بغداد ، هناك حُشر بين مئات المساجين والمُعتقلين، لم يسأله أحد عن تهمته، وبعدة شهرين   وجُهت له تهمة التخابر مع دولة معُادية وأنشاء خلية شيوعية، وقع على هذه الافادات أمام قاضي التحقيق في محكمة الثورة وأغلق الملف نهائياً ولم يُحقق معه أحد بعد ذلك، تحول درويش خلال هذه الفترة  بين مديرية الامن العامة ، ومعتقل الرضوانية. وبعد رحلة طويلة من العذاب والمعاناة أستمرت أربعة عشر عام فارق الحياة في أقبية سجن أبو غريب ، ولم يعرف به أحد ، ولم يتوصل شخصاً الى مكانه ابدأ، دُفن مع كثيرين في مقبرة جماعية على نواحي صحراء الرمادي.
                           ***
خلال هذه الفترة مرت الأعوام ودارت الفصول ، وأنهى خيري دراسته المتوسطة ثم الاعدادية في قضاء سنجار بمعدل مقبول وتم قبوله في معهد التمريض والطبابة  في مدينة الموصل ، يسكن في غرفة  مع طلاب من نفس المعهد  وفي عطلة نهاية الاسبوع يعود الى قريته ، الى أن أنتهت الدورة التدريبة بعد سنتين ، تعين بعدها في مستشفى قضاء تلعفر العام  ونقُل بعد سنة ونصف الى مستوصف القرية. تزوجت أختاه وشقيقتيه ، وأصبحت أمه عجوز مُسنة ، ونُسيا الأب ألا من قلب الأم ، فقد كانت تنتظر عودته وتشعر في قلبها  أنه ذهبَ ضحية دسائس دنيئة ليس له علاقة بها  ،وكل ما تتذكر تلك الليلة المشؤومة من ذلك الشتاء البعيد، تعود الى فتح تلك العلبة المعدنية التي بها حبات الكستناء وهي ملفوفة بقطعة قماش بالية من أثر الزمان مع المخرز الحديدي ، تنظر اليهم ثم تسكب الدموع متُذكرة ما حصل تلك الليلة البعيدة.
 سارت كل الامور طبيعية في تخوم تلك القرية المنسية.  وأخذت حصتها من الحصار الصعب الذي ضرب البلد من أقصاه الى أقصاه ، والذي كان بسبب تهور قائد مجنون  تصور أن العالم سوف يسامحه على تصرفاته وحمقاته. فبان في  تفاصيل الحياة اليومية للناس من قلة في الدواء والغذائية ، وشحة في  المواد الاولية. الى أن أنقضى ذلك العصر المرير وفتحت حقبة جديدة من زمان أفضل ، أو هكذا كانت الناس تتصور حيث دخلت الجيوش الغازية بأساطيلها وبساطيلها حضارة ميزوبوتاميا العريقة ، وسقط القائد المعبود من عليائه وكبريائه وبان الكذب والخداع على وجوه الرفاق ، ففر الكل وإنهزم الرئيس المقدام. وتغيرت البلاد وتشتت العباد وأصبح العراق  مرتع لكل اللصوص والسراق. كل هذا والقرية المنسية لم تتغير ، كأن ساعة الزمان قد توقفت فيها. حصل بعض التحسن في المعيشة ولكن النسق العام للحياة ظل كما هو. بعض شبان القرية أنخرطوا في الشرطة المحلية وأخرين في صفوف الحرس الوطني وقوة البيشمركة الكردية ، ومنهم من ترك البلدة وهاجر الى البلاد البعيدة حيث يحلمون أن الأمل والفردوس المفقود هنالك. كل هذا تمّ خلال عقدّ واحد فقط. ظل خيري في عمله الطبي وطرأ تحسن كبير على راتبه الشهري ، حيث أثث البيت من جديد ودهنه وأشترى تلفزيون كبير، وكان في نيته أن يوسع البيت من الجهة الخلفية حيث ضاق بهم المكان بعد أن رُزقت زوجته  بمولودة ثانية.  ولكن حصل  ما لم  يكن في الحسبان والتوقعات أبداً ، حيث  سقطت محافظة نينوى  ثاني أكبر مدينة في العراق ذات المليون والنصف نسمة ، وأنهارت دفاعات الجيش والشرطة الكبيرة مثل بيادق ورقية  خلال  ساعات  ، ودخل الأرهابيين الأسلاميين المُتشددين الى كل نواحي المدينة ، كان ذلك في 10 حزيران 2014. وبعد ذلك بأسبوع تمت السيطرة على كل مفاصل ودوائر المحافظة والبلدات التابعة لها ، وباتّ الارهابيين يزحفون الى جهات الشمال والجنوب والشرق والغرب ، والحصون والوحدات العسكرية  تتهاوى أمامهم كأنها صُنعِت من رمال، ورايتهم السوداء ترفرف عالياً فوق مركباتهم الحديثة، الى أن وصلوا الى قضاء تلعفر في 19 حزيران، وسيطروا على المدينة بعد معركة خاسرة مع لواء العقرب الذي  كان يمسك بزمام الامور في تلك النواحي بقيادة اللواء الركن (محمد القريشي ابو الوليد). أنتهت  المعركة في 22 حزيران  بهزيمة القوات الحكومية وفرار اللواء، منُسحبين تاركين المدينة تغرق في الفوضى والخراب على يد تنظيم داعش، الذي أنتهكها وأستباح حرمتها. في هذه الفترة واصل تنظيم  الدولة الاسلامية تقدمه الى باقي أجزاء المناطق المتُاخمة للحدود العراقية السورية، فدخلوا قضاء سنجار في صبيحة 3 أب  2014. منسحبة من أمامهم القوات الكردية والجيش الوطني والشرطة المحلية،  فعاثوا في الارض فساداً وسرقوا البيوت وخطفوا النساء والفتيات وتم سبيهنّ، قتلوا الرجال الشباب أين وجدوهم  دون رحمة أو شفقة ، في مجزرة مُروعة. أصبح الهواء والتراب في تلك النواحي ممزوجان بدماء الناس الأبرياء ، وفزعْ الناس وخافوا، فهرب من أستطاع الى  نواحي الجبال القريبة ، مخُلفين ورائهم  القتلى  والنساء المسبيات.
 ألاخبار المُفجعة والكارثية تأتي سريعة ،وصوت أزيز الرصاص تحمله الرياح الى بقية القرى، والناس مُصابة بالفزع والخوف الشديد. وسكان القرية المنسية الفقراء يتخبطون في لجة  أفكارهم ومخاوفهم وماذا سوف تؤول له الساعات القادمة ، أخبار الفتك والقتل والسحل والاغتصاب المأساوية بأقربائهم في سنجار وباقي البلدات تصلهم متعاقبة من سيء الى أسوأ . هم الأن بين فكي كماشة ، والحصار مُطبق عليهم فحتى الحدود السورية المجاورة لهم تحت سيطرة تنظيم الدولة ، والكثير من القرى العربية المتاخمة لهم تؤيد التنظيم الأرهابي، فظلت الناس تتوجس شِراً وترتعش خوفاً.
مع حلول ظهيرة اليوم التالي ، وشمس آب الصيفية تِحرق الأرض وما عليها  وتُحول الحجارة الى حِممْ مُلتهبة ، دخلت ثمان سيارات رباعية الدفع ، يعلوها رايات سوداء تُرفرف في الهواء الحار، وأحاطت بالقرية التعيسة وظلت تدور وتدور مشكلة حلقة من الغُبَار الكثيف تحجب الأنظار وتغطي عينْ الشمس. الناس من شدة  الهلع والخوف بدأت تفر بكل الاتجاهات بدون هَدىَ ، ورشقات الرصاص الكثيف تُعبئ الجو وتخلق فوضى عارمة. في ظل هذا السَّعير المَحتدم أتجه القرويين  نحو الجبال القريبة يحتمون هنالك، ولكن فتكْ وقتل  عناصر داعش لهم كان أسرع منهم ،  فحصدوا من الارواح البريئة الكثير، وقتلوا العُزَّل من الرجال  والعجائز من النساء في باحة القرية.  الفرار أصبح صعب ، وبات الناس يتخبطون في مشهد مُرعب لا يعرفون ماذا يحدث لهم، الصراخ والعويل يعلو كأن يوم القيامة قد دَنا. حل الرعب والخوف في عائلة خيري وحاولوا الفرار باتجاه الجبل والاحتماء به لفترة الى إنِجِلاء الأمور. ولكن عندَ الخروج من  البيت  الطيني ، وخيري يدفع  أبنه أمامه ومن ورائه أمُه العجوز تجِرَّ حفيدها البكر ممسكا بيده ، وورائهم  بفرين تلفّ الطفلة الصغيرة على صدرها بقوة. عند الباب الخارجي تعثرت الأم  ساقطة على جانبها الأيمن مُتعثرة بالدكة ، فصرخت مستغيثة أسرع خيري إليها وساعدها على النهوض وأستأنفوا الجري. في أثناء ذلك شاهدهم الارهابيين وهم يركضون مرعوبين فصوب أحدهم مدفعه الرشاش من على سيارة البك أب ورشقهم  بزخة من الرصاص فأردوا خيري على الفور قتيلاً ، سقط على الارض وهو يحمل أبنه ذوّ السبع أعوام بين أضلعه . حين رأته أمه وزوجته يُقتل أمامهم  قامتا بالصُراخ والعويل والضرب على  رؤوسهن. دارت حولهن ثلاث سيارت رباعية الدفع وهن في وسط دائرة من التراب تعمي البصر وتشل الحركة ، نزل الاوباش عليهم مثل ذئاب جائعة تُشاهد حملان مُرتعبة ، وقفوا فوقهم مصوبين بنادقهم على رؤوس النساء ، قال أحدهم مخاطباً الجموع وعيناه تقدحان شر، نأخذ الفتاة ونقتل العجوز مع الغلام ، فأجاب واحد من الواقفين، دعّْ  العجوز لأنها حتماً سوف تموت من الحر  ، أو تأكلهم الكلاب عند حلول الليل، لنأخذ المرأة ونرحل. وافق الأول وسحب بفرين من ساعدها ، ولكن أبت أن تنهض وقاومت بكل بقوة ، أستغرب هو من شدة عنَادها فصفعها بكفه الكبير على وجهها ، نظرت إليه نظرة أحتقار وبصقت عليه ، فاستشاط غضباً وجن جنونه فركلها برجله على بطنها، وأمر مجموعته أن يحملوها الى السيارة ، ظلت بفرين  تصرخ  وتبكي وتجلجل عالياً ولم تدع أبنتها تنفلت منها ، رموها بقوة في حوض السيارة الخلفي ، وساروا يحصدون المزيد  القتلى الأبرياء ، تاركين جثة خيري وأمه والولدان. رحلوا بعد أن عاثوا في القرية فساداً وأخذوا منها النساء والفتيات سبايا لهم ، وسرقوا كل ما يمكن حمله من أثاث ونقود وذهب التي أعتبروها غنائم حرب ، متجهين الى قضاء تلعفر الذي أصبح مقر عمليتهم ومركز إنطلاق الى تلك القرى ونواحيها.
                              ***
 في أعدادية للبنات وسط القضاء، زجوّا بالسبايا  كمجموعات في كل صف ، وأوصدوا الابواب عليهم وهنَ يبكين ويصرخنَ من الهلع والرعب.
في ذلك النهار الدموي والتاريخ يكتب سفره الجديد من المأساة الإنسانية في هذا القرن، وبعد مغادرة الأرهابيين المكان  ظلت باران مُغمى عليها وهي جاثمة فوق صدر أبنها ، والصبي الذي كان بيدها يُداعب شعر جدته يُحاول إيقاضها. عند حلول العصر عمْ  الهدوء في القرية بعض الشئ ، فرجعت مجموعة من الرجال الذين هربوا بتجاه الجبال والتلال القريبة لإنقاذ ما تبقى من النساء المختبأت وأجلاء الجرحى، فوجدوا العجوز وأبنها المقتول عند أول القرية قرب دكاكين البقالة القليلة ، أرادوا أخلائها هي والصبي من المكان كي لا يعود المجرمين ويقتلونهم أو تأكلهم الذئاب أوالكلاب عند قدوم الليل ، مدّ واحدا من الشبان ذراعه محاولاً  سحبها ففتحت عينيها وأستفاقت من غيبوبتها ونظرت حولها مُتشبثة بجثة خيري وهي تبكي وتصرخ  تأبى أن تترك أبنها الوحيد مرمي هكذا على الارض ، ولكن صُراخ أحد الرجال الذي فقد زوجته وقُتل أبنه ، بدأ يضرب على رأسه ويصرخ ويُمزق أسماله البالية بشكل هستيري غطى على بكاء الأم . تم أخيراً وبقوة فصلها عن خيري هي والولد الباقي على قيد الحياة. قبلَ المغادرة وفي ظل هذه المأساة المُروعة ومع أنكسار أشعة الشمس الحارقة لمح أحدهم  طفل مرمي بين أحضان جثة أبيه وهو مُعَفر بالتراب لا يكاد يبين ، فارتمى عليه محاولاً جره ، ولكن حين شاهد جماد عيني الطفل المفتوحتين وأزرقاق الشفتين ، إيقن أنه قد قُتل هو الأخر مُصاب بطلق ناري أثناء الهروب. ففارق الإثنَين الحياة  معناً. قال واحد من المجموعة لننهل عليهم بعضاً من التراب ونرحل فقد حل المساء. أخذوا العجوز والصبي الذي كان معها  وتجه نحو الحدود السورية ، لتبدأ من هنالك معاناة جديدة.
                             ***
عند صبيحة اليوم الثاني من الهجوم على القرية المنسية ، وفي مدرسة اعدادية البنات ، فتح الارهابيين أبواب الصفوف وأخرجوا النساء السبايا الى باحة المدرسة ، وصفوهم على شكل مجموعات. كل مجموعة مكونة من سبع فتيات مربوطين معاً بسلاسل حديدية عند الاقدام وأوقفوهم جميعهم على خط  الاصطفاف الصباحي، وكان عددهن يُقارب الستين جميعهن من القُرى المحيطة بالمنطقة. وقفنَ في الباحة الخارجية وهن يرتعدن خوفاً. بفرين كانت واقفة أخر الصف تقريباً وهي مشدوهة من الصدمة لا تعرف ماذا يحدث لها  وأين الان هي حماتها وما حل بجثة زوجها وأين أولادها. الطفلة الصغيرة نائمة على صدرها  من شدة الجوع والتعب. على هذه الصور المأساوية أنفتح مذياع أدارة المدرسة وتكلم  صوت أجَش ثقيل، عَرف النساء أنهم الأن في ظل دولة خلافة المسلمين وتحت حمية الخليفة أبي بكر البغدادي ، الذي بايعه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها خليفة عليهم ، وأنه يحكم الناس بالعدل والقسطاس ويوصي السبايا أن يطيعوا أمر الله ورسوله والمقاتلين المجاهدين الذين يريدون إعلاء شأن الاسلام والمسلمين ورفع راية الله عالياً ، وبعد البسملة والتعوذ بالله من الشيطان قام المُتحدث بقراءة سورة النساء  وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وسط تكبير وتهليل المقاتلين الذين بدأوا يرفعون بنادقهم في الهواء ويصرخون بصوت عالي الله أكبر الله أكبر. مع هذا المشهد المُثير والمُحفز للمقاتلين نزلت مجموعة منهم تختار لهم سبايا حسب الشريعة والفتوى التي أطلقها لهم شيخهم. بعض النساء رفضن الذهاب مع المقاتلين فتم جرهن بالإكراه ، والاخريات سحبوهم من السلسلة الحديدية التي في يديهم وأرجلهم، في ظل صراخ وعويل يمُزق عَنان السماء  والمجاهدين  يضحكون مسرورين بهذه الغنائم. الى أن وصل الدور أخيراً الى بفرين التي لفت وجهها بشال أبيض كان معها من  ليلة  أمس، وحين أقترب أحدهم منها وشاهد بياض البشرة والقوام الرشيق ، طاب قلبه لها واشتهاها ، مع أن ثيابها كانت موحلة وعيونها حمراء من البكاء ، ووجهها مكروب من الالم. ألا أنه رغبَ بها فشدها من ساعدها الأيمن، ولكن أبت هي أن تتحرك كأنها مسمرة في الارض، فشدها بقوة أكبر الى أن أستيقظت الطفلة التي كانت نائمة وقامت بالبكاء. حين شاهد الرجل صُراخها وعنَاد الأم، دفعها الى الخلف بذراعه فتهاوت على الأرض ساقطة وهي تحاول حماية أبنتها من الارتطام، وقفزّ عليها  مثل المجنون يُريد أن يأخذ البنت الصغيرة ، ولكن صوت ثقيل جاءه من الخلف قائلاً  له ، أتركها لي ، نظر الاخير في عين صديقه بحزم وقوة ، وقال بعربية ركيكة تشبه تلك التي يتكلم به المقاتلين الأفغان ، لم يشتد عودك بعد تحتاج الى تدريب أكثر، وصرخ  بوجهه  تدنا جانباً. طأطأ الاول راسه ووقف على جنب ، ذهب إليها الثاني بهدوء وعيناه تقدحان شرارة وغضب من وسط وجه مُغطى معضمه بالشعر الاسود الفحمي. مد يده الكبيرة يُريد أن يأخذ الطفلة ، ولكن حين شاهدت بفرين كل هذا  الشر يتطاير من الوجه القبيح  تشبثت بأبنتها  أكثر ، ولكن كان هو قوية البنية بشكل كبير، ففتح ذراعها بيد والتقط بيده الاخرى الطفلة وأخذها وسط صراخها وبكاء أمها الذي بدأ يعلو في المكان مما أسترعى أنتباه الموجودين هناك محّولين أنظارهم إليها. أمام هذا الحشد وهذا الصخب وتوسلات الأم وبكائها الذي يفلق الصخر رفع الارهابي الطفلة في الهواء عالياً بكلتا يديه وشدها الى الوراء ورماها بكل ما أوتي من قوة  الى إحدى الأعمدة الاسمنتية ، فارتطم رأسها الغضّ به وتمزقت جمجمتها وتناثرت على الأرض أشلائها مع جريان دمائها. ساد سكون قاتل له رائحة الموت لدقائق، بعدها عاد التكبير والهتاف. نظر القاتل الى ناحية الاول وقال له وهو يلهث ، أنها لكَ الأن فخذها. حين شاهدت بفرين ما حدث لإبنتها صرخت ومزقت الكون من شدة الالم والوجع وزحفت بتجاه العامود  تُريد لملمت بقايها المتناثرة بين بُرك الدماء ، وهي تضرب على رأسها وتمزق ثيابها التي تلطخت بدماء طفلتها، الى أن جاءها الداعشي ذوّ الملامح الشيطاني وجرها من شعرها حاولت  أن  تركله وهي تصرخ وتضرب على صدرها ودماء أبنتها على وجهها وبين ثنايا أصابعها ، ولكن خارت قواها وغابت عن الوعي فسحلها من شعرها جاراً خلفها خط عريض من الدماء الى أن وصل غرفة فراش المدرسة ففتح الباب وأدخلها وأوصده عليها بأحكام وذهب. كانت غرفة الفراش صغيرة في ركن المدرسة تحتوي على بساط أحمر قديم تعفن من شدة الرطوبة ، وتلفزيون صغير نوع قيثارة ، ومدفأة علاء الدين مركونة عند أقصى الزاوية، وبعض الوسائد والبطانيات تعود الى أصحاب المكان. ضلت بفرين هناك مغشياً عليها فاقدة الوعي بكل ما حولها.
عند الهزيع الأخير من  الليل جاءها الشخص ذو الوجه الشيطاني واللحية السوداء نفسه ، فاتحً الباب بهدوء متسلسلاً الى الداخل. نظر إليها وهي فاقدة الوعي غائبة عن هذا العالم، فأخذ وسادة قذرة كانت هنالك ووضعها أسفل الظهر ونزع عنها ما يسترها من ثوب خارجي ، وحين وصلت يداه الأثمة الى السروال الداخلي إستيقظت بفرين وفتحت عيناها فشاهدت وجه قبيح وقد أخرج لسانه ذوّ الشقين يلعق وجهها، تجمدت من الخوف والرعب وأختلطت عليها المشاهد والصور بين أجزاء أبنتها الممزقة قبل ساعات وهذا المسخْ القبيح فلم تستطتيع ان تُحرك ساكن وظلت جامدة كالصخر، فخلع عنها السروال الداخلي الطويل ، وكممْ فمها بيده الأخرى كاتماً أنفاسها كي لا تصرخ ، بعدها أخرج قضيبه من مخدعه ، ووضعه بين أفخاذها محاولاً أن يولجه فيها ، ولكن القضيب ظل ساكن كأن الدماء فرت منه أو كانه حبل مُبلل بالماء ، حاول مرة ثانية وثالثة ولكن دون جدوى، فأدخل الأصبع الوسطى داخل مهبلها وواصل اللعب به دون أن ينتصب قضيبه، واصل لمس صدرها الغضّ ولكن دون فائدة الى أن استعادت  بفرين بعضاً من قواها الخائرة، وجمعت ما يمكنها من لعاب في فمها وبصقته في وسط وجهه بكل قوة. حين شاهد هو ذلك لم  يتكلم أو يفعل شيء مسحَ البُصاق بأكمام سترته ونظر الى القضيب الميت وتأكد من أنه عنين عاجز فتركها على هذا الوضع وخرج مغلقٍ الباب عليها. سحبت هي السروال قليلاً الى الاعلى وسترت جسمها، وأذرفت دموعاً حارة كانت هي الباقية تسيل على خديها في خط محفور من الشقاء والبؤس الى أن لاحت تباشير الفجر، ودخلت أشعة الشمس عبرَ النافذة الصغيرة. أستجمعت كل ما تبقى لديها من طاقة ونهضت واقفة تبحث في أركان الغرفة، فلمحت المدفأة النفطية ، هرعت إليها وفتحت الخزان ، كان مملوءاً الى النصف تقريباً ، رفعت الغطاء المعدني وأفرغت المادة الحارقة على ملابسها فبلل الجزء الخارجي. جالت بنظرها في محيط الغرفة عساها أن  ترى علبة الكبريت ، ولكن لم تجد شيئاً ، قَلَبتْ الوسائد والبطانيات بقلب مفطور جريح ولكن دون جدوى ، نظرت بتجاه التلفزيون فلمحت علبة الكبريت ، فهرعت إليها وفتحتها رأت بداخلها أربع أعواد ثقاب ، شعلت الاول ولم يحترق ثم الثاني ولم يحترق هو ايضاً ، في المرة الثالثة أشتعل عود الكبريت، نظرت أليه بتمعن دام جزءاً من الثاني ولكن كان بالنسبة لها العمر كله يحترق أمامها وهي تنظر الى اللهب  المُنبعث من العود الصغير، وفي حركة أنتقامية لشرفها وكبريائها ولزوجها المُقتول المرمي في العراء تنهش جسده الكلاب ولأطفالها الأبرياء وحماتها العجوز ، والفرار من ذاتها ومن شرور هذا العالم وقبُحه ، قربت عود الثقاب المشتعل الى ملابسها ، فأخذ الثوب يشتعل بسرعة لإنه كان من قماش الستان والنايلون، أخذت النار تأكل أنحاء الجسم كله ، كأنه بيدر حقل  يابس. ودون وعي منها ومن شدة الألم والوجع تمرغلت على البساط الاحمر فاشتعل هو أيضاً ،واصلت النار في الأنتشار فأخذت الوسائد تحترق ، وشبت النيران في جميع أثاث الغرفة ، ظلت بفرين تصرخ بلا أنقطاع الى أن سمع أحد الحراس الصراخ وأشتم رائحة الدخان المنبعث من تحت الباب. ففتح باب الغرفة والتي أصبحت ألان كورة من نار ملتهبة ، أحرقت ألسنة الهب وجه الداعشي فرجع الى الخلف وهو يلعن.  من وسط هذا اللهيب الحارق والدخان الكثيف خرجت بفرين من الغرفة  وقد أصبحت كتلة من نار مُشتعلة من كل جانب مثل طائر الفينيق يخرج من رماده وينبعث من جديد في ولادة ثانية ، ركضت  وسط الساحة كأنها تُطهر نفسها ، وتغسل عارها بنار الأبدية. هرع متراكضاً من كان  موجود في الساحة من الخوف والفزع ، أتجهت بفرين الشعلة ناحية مقتل أبنتها على نفس العامود ، هناك أنهارت وتكَّومت على جسدها محُتضنة بقايا الطفلة مفارقة الحياة وقد تفحم الجسد بأكمله.
 بعد ساعة ونصف انطفأت النار وسكنت، ذهب إليها خمسة من عناصر تنظيم الدولة ، ونظروا على الجثة وقال كبيرهم ، لندع السبايا يحملون الجثمان ويرمونه من هنا ، فحرام علينا لمسها فهي عاصية وكافرة، وبصق على الجثة  التي ما يزال يخرج منها دخان وذهبوا. جاءوا بعد قليل بثلاث نساء بائسات من الصف المجاور وأمروهم أن يضعوا بقايا الجسد في بطانية كانت معهم ففعلن وهن صاغرات وألقوها في حوض سيارة كانت واقفة قربهم.  أعادوا النساء الى الصف وسارت السيارة الى مكان غير بعيد  أشبه بمكب للنفايات ، نزل أثنان من العناصر وسحبوا البطانية مع  الجسد ودحرجوها على الأرض بأرجلهم  ورحلوا منطلقين.
 عند مغيب الشمس ، وفي ساعة الشفق الكونية، ظهر ضوء ساطع من وسط السمَاء يشبه الشُهُبْ المُذنبة متجهاً الى مكان الجسد المُتفحم وعائداً الى السماء من جديد بسرعة فائقة ، أثار هذا المشهد المُثير أنتباه من كان قريب من المكان ، فذهبت ثلة من العناصر الداعشي  تتفقد الموقع فوجدوا البطانية دون جثمان بفرين. نظر الواحد نحو الآخر بتعجب وأستغراب الى أن قطع الصمت أحدهم باستهزاء قائلاً ، لم تدعها الشياطين ترقد على هذه الأرض فأخذوها الى جهنم  وبأس المصير، فقال الثاني وهو يبتسم،  معك الحق ، ضحك الأخرون وعادوا أدراجهم.