كنيسة مار گورگيس في منگيش
" ليكن السلام على هذا البيت وعلى كل من يدخل هنا"
بقلم فرنسيس كلو خوشو
ترجمة حنا شمعون ، عن الأنكليزيةكان صيفاً زاخراً بالمحاصيل والحيوية في قرية منگيش، وكالعادة كان حاراً وخالياً من المطر وهذه حالة ملائمة لجلب عشرات المحاصيل في هذه الفترة من السنة. كل يوم كان ثمة محصول ينتظر دوره ليُنقل الى البيت او البيدر، محاصيل مثل الشعير والحنطة والعدس والعنب وغيرها كثيرة.
الأسبوع الاول من تشرين الاول هو بداية موسم قطف العنب وتحويله الى الزبيب الذي تشتهر به هذه القرية والذي قسم منه يستهلك محلياً كونه زاخر بالسعرات الحرارية ، اما البقية فيستبدل في القرى الأخرى بمحاصيل تفتقر اليها القرية ]او يُصدر الى أسواق الموصل لبيعه بثمن زهيد وشراء منتوجات اخرى يفتقر اليها سكان القرية، كالسكر والشاي والصابون; المترجم [
تتذكر العمة كتو اودو بيداوث وكان عمرها حينذاك ثمان سنين انه في تلك السنة بالذات كاد المنگيشيون أن يتخلو عن قطف محصول العنب من الكروم المحاذية لجبل منگيش في أراض شاسعة تسمى" سردشتي" ، وذلك بسبب أمر غير عادي.
في كل عام من نهاية أيلول وبداية تشرين الأول كانت مجموعة من سبع الى عشر عوائل تمكث طوال ما يقارب الشهر في هذه المنطقة الواقعة جنوب شرق القرية. كل عائلة من هذه العوائل التي كانت كرومها متلاصقة كانت تصنع مظلة على شكل غرفة وذلك من جذوع وأغصان أشجار البلوط المتوفرة في سردشتي وكانت الأغصان الطرية تركب بعضها على البعض على شكل شبكة كي تقي داخل الغرفة من حرارة الشمس اللاهبة الا جهة واحدة كانت مفتوحة كي تكون المدخل الواسع الى هذه الغرفة المسماة " قوبرانا" بلهجة منگيش. هذه المظلة كانت بمثابة بيت مؤقت في هذه الفترة لهذه العوائل لغايات الأستراحة والاكل والمنام.
تقول بيداوث ان هذه الفترة كانت تستمر لمدة شهر في الظروف الاعتيادية. العوائل كانت تثابر سوية لإنهاء المهمة قبل حلول سقوط المطر الذي يدمر محصول الزبيب. المرحلة الاولى من أنتاج هذا المحصول تبدأ بمشاركة جميع أفراد العائلة الا الأطفال الصغار بقطف عناقيد العنب ووضعها في سلات لتعبأ بعد ذلك في سلات اكبر تسمى " قرطالا" وبعد ملئ عدة من هذه السلالي الكبيرة كان يحملها شخصان الى حيث موقع قريب لغمس هذه العناقيد في محلول رماد الخشب المغلي (زركي) ومن ثم تفرش على مساحة ارض معدة مدلكة ونظيفة لتكون لمساء تسطع عليها الشمس الحارقة والغرض هو تيبيس العنب ]ومن هنا استمدت التسمية السريانية للزبيب وهي "يبيشي " اي المجفف; المترجم[. وبعد بضع ايام من عملية التجفيف كانت تجمع عناقيد العنب المجففة وتهز قوياً ليتناثر الزبيب وغالبه محتفظ بالنتؤء الخشبي ) دسقا (على الارض المدلكة النظيفة لتكون صالحة للأكل او يحتفظ بها لفصل الشتاء كونه غذاء يعطي طاقة ، وكان احياناً يقايض هذا المحصول بأخرى مع قرى مسيحية في سهل نينوى.
وتستمر العمة كتو قائلة: اتذكر في تلك السنة كان علينا الإسراع لإنجاز العمل ( طماشا/ الغمس ) سريعاً لانه في اليوم التالي كان علينا للرجوع الى القرية لحضور تقديس الكنيسة الجديدة للقرية. وعندما قابلت العمة كتو جلب اهتمامي قدرتها لتذكر هذه البرهة النفيسة من تاريخ قريتنا. أخبرتني في ذلك الصباح من عام ١٩٣٥لتقديس كنيسة مار گورگيس جاءت الجموع الى الكنيسة وتحشدت على بابها منتظرة الدخول اليها. كل المانگيشيون كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءاً قدموا مبكرين ليشاركوا في مراسيم افتتاح الكنيسة الجديدة. الأكليروس وعامة الناس تجمعوا ومعهم نيافة مار فرنسيس داؤد مطران العمادية في البوابة الشرقية للكنيسة. وعندما حان الأوان بدأ ناقوس الكنيسة بالدق وتقدم موكب المرتلين نحو باب الكنيسة ماراً بالجموع المحتشدة ومنشدين التراتيل الشجية المصحوبة بصوت الصنوج. صاح صاحب الغبطة "فلينفتح الباب" وانفتح وهناك كان واقفون على الطرف الآخر كاهن القرية رابي هرمز گيژي ومعه الشمامسة. المطران رسم علامة الصليب على عتبة الكنيسة قائلاً: " ليكن السلام على هذا البيت وعلى كل من يدخل من هنا، بسم الآب والأبن والروح القدس، آمين".
وتضيف ضيفتي قائلة ودخلت الجموع الكنيسة وأمتلأت بكامل سعتها. وحين كان المؤمنون واقفين قرأ مار فرنسيس كلمات التقديس من الإنجيل التي لا بد انها احتوت بعض ما جاء في إنجيل متى عن تقديس الكنيسة كما هو آت:
رجل بنى بيته على الصخرة؛ متي ٧: ٢٤
وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي؛ متى ١٦: ١٨
بيتي هو بيت الصلاة؛ متي ٢١: ١٣
بعد هذا تقدم مار فرنسيس الى المذبح واضعاً يديه على شرفته قائلاً بالسريانية: ليتقدس اسم الآب والإبن والفرح القدس الآن والى نهاية العالم ، آمين. هذا كان مرفقاً بصوت دقات الناقوس والصنوج تضرب داخل الكنيسة والشموع توقد. سيادة المطران أنهى تقديس الكنيسة مخاطباً الجموع بقوله لهم، ليكن سلام الرب معكم على الدوام. وجموع المؤمنين أجابت: ومعك أيضاً . بارك المطران جموع الحاضرين منهياً القداس ، وبعد ذلك التقى المطران ومعه رابي هرمز گيژي في ساحة الكنيسة مهنئين بعضهم البعض لهذه المناسبة المباركة.
كنيسة ما گورگيس الحديثة بنيت على أنقاض اخرى بنفس الأسم وهذه الحديثة أصبحت اعلى بناء في القرية وفي نفس الوقت أوسع بناء عرفته القرية، وقد جلبت احجار الكنيسة الحديثة من جبل منگيش الواقع جنوب القرية . وما يجب ذكره هنا ان جميع اساسات بيوت قرية منكَيش حجارتها جلبت من صخور هذا الجبل . الدكتور عبدالله رابي له دراسة حول تاريخ منگيش وبحث سيسولوجيا حول المجتمع المنگيشي في كتاب عنوانه" منگيش بين الماضي والحاضر، دراسة في التغيرات الأجتماعية" وقد صدر هذا لكتاب عام ١٩٩٩.
قبل المسيحية لفترة طويلة ، أسلافنا كانوا قد سكنوا منطقة منگيش، وكنيسة مار گورگيس يرجع عهدها الى بداية ظهور المسيحية في المنطقة وكان بناءها فوق اثر لمعبد زرادوشتي ( بيث مگوشي) وهذه الكنيسة جذبت المؤمنين من القرى والمقاطعات المجاورة.
ومؤخراً عندما قرأت خبر ناقوس جديد يدق في سماء منگيش في الموقع الأغر Mangish.net مباشرة خطر ببالي حدث مشابه وقع قبل ست وثمانون عام خلت. فقد هدمت الكنيسة القديمة عام ١٩٢٩ برعاية القس هرمز گيژي وبمؤازرة ومعاضدة أهل القرية أنجز بناء الكنيسة الجديدة عام ١٩٣٣ وثم قُدست عام ١٩٣٥على يد المطران مار فرنسيس داؤد ومنذ ذلك العهد وناقوس الكنيسة يدق من وسط القرية ومن على برج القبة . في عهد طفولتي وشبابي ذلك كان الناقوس يطرق مسمعي كل يوم مرتين على الأقل.
أبناء الأبرشية كانوا يحضرون القداس الالهي في الصباح وصلاة الرمش في العصر بدعوة من هذا الناقوس ، وهكذا أيضاً كان يدق فرحاً بقدوم مطران الأبرشية وكذلك كان يدق مع موسيقى الحزن حين وفاة واحد من أفراد القرية داعياً الى حضور مراسيم الدفن.
كنيسة ما گورگيس عند مدخلها الشرقي كان يرتفع برج الناقوس الذي تعلوه القبة وعلى القبة كان ينتصب الصليب وتلك كانت اعلى ارتفاع يصله اي بناء في القرية. الارتفاع العالي هذا كان يساعد وصول صوت الناقوس الى كل ارجاء القرية والى مسافات بعيدة . البرج كان قائماً على أربعة أعمدة تسند القبة والصليب الذي فوقها . وقوفاً على حجرة النقاش كان بالأمكان رؤية القاع والحبال كانت مشدودة الى عتلة وبسحب الحبل بقوة ودراية كان يتمايل الناقوس ويدق بسرعة حسب الغاية كأن تكون قداس، رمشا، قدوم مطران او حزن وكل منها له عدده الخاص. وشخصياً كان لي شرف دق الناقوس عدة مرات وكان ذلك يبعث الفرحة في نفوس الفتية كونهم مهمين ويبعث الإيمان في قلوبهم.
هذا الناقوس وعبر الزمن ضعفت دقاته بسب الشقوق فيه وأصبحت حالته سيئة ، لكن التاريخ يعيد نفسه وهكذا اجتمع وجهاء القرية بما فيهم مختار القرية السيد حنا گلو مع حضرة كاهن الرعية الأب يوشيا صنا وقرروا تبديل ناقس الكنيسة بآخر ليدق من جديد للجيل القادم . الناقوس القديم أُنزِل ليحل محله آخر جديد اشترته الكنيسة من روما.
حين قراءة الخبر في منگيش. نت غمرتني ذكريات قديمة جعلتني ابحث عن تاريخ الناقوس القديم. ثمة كتابة منقورة على الناقوس القديم وهي تقرأ بالحرف الإنكليزي ما يلي : " MARIE ABRAHA, 15 AOUT 1933, HORMEZ CURE DE MANGEH" وهي بلا شك في النصف الثاني من هذه الكتابة يرمز الى هرمز گيژي خوري/ كاهن منگيش أما عن الشطر الأول فمن هو ماري ابراها هل هو/ هي الشخص الذي تبرع بهذا الناقوس ام اسم الشركة التي صنعته؟ ويبقى السؤال كيف جيء في ذلك الزمن بهذا الناقوس الثقيل من الموصل الى قرية منگيش البعيدة؟ ربما جيء به على ظهر بغل او حصان ، من يدري !!
الناقوس القديم هو بلا شك يشكل قطعة اثرية ثمينة ظلت تدق لمدة ٨٦ سنة تدعونا نحن و أباءنا وأجدادنا للصلاة وقد دقت دقات الحزن لأعزاء فارقونا. ونتمنى لو ان كاهن القرية الأب يوشيا صنا مع وجهاء القرية وفي مقدمتهم المختار حنا گلو سيكرسون غرفة في الكنيسة لهذا الناقوس مع تحف اخرى كان لها أهمية خاصة لتبقى هذه القطع الغالية تذكر الأجيال القادمة بتاريخ الكنيسة.
الى جانب الناقوس هناك تحف اخرى التي استبدلت ومنها على سبيل المثال جرن العماذ وأوعية زجاجية والكرسي التاجي المخصص للمطارنة و الحوامل الخشبية المخصصة لوضع كتب الأنجيل الكبيرة [ وحتى الستائر التي كانت تفصل المذبح عن الحضور والتي تخلت الكنيسة عن استعمالها في الثمانينات من القرن الماضي؛ المترجم.]
وجود هكذا متحف في كنيسة القرية سيعطي هذا الجيل والأجيال القادمة فكرة رائعة عن مجريات الأمور في القرية قديماً.
الناقوس الجديد بلا شك سوف يستمر في ما فعله سلفه وهو دعوة المنگيشيون كمجموعة للصلاة سوية في رحاب الكنيسة.
ذكرى منگيش ستبقى معي على الدوام ولذا فإن املي هذه السنة هو الاستقرار في المنطقة . وبسبب الظروف الأستثائية التي يعيشها وطننا ، اني اصلي وأتذرع الى تحرير سهل نينوى بالكامل . اخوتنا الأبرياء لهم كل الحق لأن يرجعوا الى بيوتهم وأملاكهم ويعيشوا في أمان وسلام. اخوتنا وأخواتنا المشردين في تركيا، الأردن، لبنان، وعدة دول أُخرى الذين يعيشون حياة بدائية يستحقون حقاً صلاتنا ودعاءِنا. لنقف جميعاً معهم ونصلي لأن يجتازوا المِحنة التي يمرون بها حالياً. لنقول لهولاء الأخوة والأخوات من خلال كنائسنا في كافة أنحاء العالم وخلال موسم الأعياد هذا، اننا نتذكرهم في صلاتنا ونأمل لهم الخلاص من محنتهم.
عيد ميلاد سعيد وكل عام والجميع بخير ، مع بركة الرب.