كتابة / أديسون هيدو
في العاشر من اذار من عام 2011 توفي عالم الاثار الاشوري العراقي ( دوني جورج يوخنا ) في ظروف غامضة , فطمرت بموته أخطر الأسرار , وانطوت معه صفحة مشرقة من تاريخ العراق القديم , وأسدلت برحيله الستارة على حياة شاهد لواحدة من اكبر عمليات السطو المبرمج على المواقع الاثرية العراقية , نفذت بمخططات عالمية مدبرة , ومخالب مخابراتية خبيثة اشتركت جميعها في نهب ارثنا الحضاري والتاريخي , بأيادي القوات الاميركية الغازية للعراق . لذلك حاولوا قتله وتصفيته لأنه اراد أن يفضحهم بعد أن فقد صبره ولم يعد يتحمل الكم الهائل من التجاوزات والانتهاكات السافرة , فكانت عمليات السرقة المنظمة , هي التي اقلقته وحثته على توظيف خبراته لكشف حيثيات المخططات المدبرة , ودعته إلى استنفار طاقاته كلها في فضح أعمال تلك الجهات وتعريتها أمام الملأ , وتبيان كيفية تسللها مع القوات الغازية التي دخلت العراق عام 2003 لتسرق كنوز العراق الأثرية , وكيفية استيلائها على التماثيل والأختام والمخطوطات والألواح الطينية والمجوهرات القديمة, فتوصل من خلال تحقيقاته الموقعية, وتحليلاته الميدانية إلى مجموعة من الحقائق المذهلة, فلم يكن في منأى من التهديدات والضغوط والإغراءات لكنه كان أصلب مما توقع الغزاة , وأشد منهم إيمانا بقضيته القومية والوطنية معاَ , التي أقسم أن لا يتخلى عنها مهما بلغت التضحيات , فاختار مواجهة الذئاب في أوكارها , واتخذ من مدينة ( نيويورك ) منطلقا لحملاته , التي كشف فيها زيف الادعاءات الامريكية , فكانت قاعات جامعة ( ستوني بروك ) الأمريكية هي المنبر الذي وقف فوق منصته , ليشرح للطلاب تفاصيل أكبر سرقة تاريخية لأقدم الحضارات في الكون , ولكن يد المنون كانت في أنتظاره , ففي العاشر من آذار ( مارس ) من عام 2011 , وهو اليوم المقرر لسفره بالطائرة من أمريكا إلى كندا ليلقي محاضرته في جامعة تورنتو , والتي كان ينوي فيها كشف الدوافع الحقيقية لتدمير العراق , وما أن هبطت الطائرة في المدرج , وتوجه الركاب نحو قاعة المسافرين , حتى سقط ( دوني جورج ) ميتا من دون أن ينبس ببنت شفة . فأعلنت إدارة المطار عن وفاته بالجلطة القلبية .
في عام 2006 وضمن زيارته الى دولة السويد في شهر أيار / مايو , والتي جاءت تلبية لدعوة رسمية من وزارة الثقافة السويدية وعمادة جامعة الشعب في العاصمة ستوكهولم ( folkuniversitet stockholm ) , كان لي شرف اللقاء مع الأستاذ الدكتور دوني جورج فكان أول لقاء وأخر لقاء بيننا , لازمته فيها في جولاته ومحاضراته العديدة التي القاها في عدد من المدن السويدية المختلفة ولقائاته الشخصية مع جمهور كبير من العلماء والأكاديميين السويديين والأجانب المهتمين بألآثار العراقية وحضارات العراق القديمة , لتعريف الشعب السويدي عن ما جرى من مأساة حقيقية أبان الحرب ألأخيرة ضد النظام البائد من تخريب أرث العراق النفيس , وعلى هامش هذه الجولات أجريت معه لقاءَ أذاعياَ مطولا عبر اذاعة صوت اشور باللغة السريانية التي كانت تبث من مدينة كَوتنبيرغ السويدية حينها وكنت مشرفاَ على أدارتها تحدث فيه بالتفصيل عن أحداث الأيام الأولى من دخول القوات الأمريكية الى بغداد وما جرى فيها من عمليات السلب والنهب وتخريب البنى التحتية بصورة منظمة في غياب ألأمن والحماية بعد زوال مؤسسات الدولة وأختفاء القائمين عليها , حيث تدفقت مجاميع من اللصوص وسرقت كل ما يمكنها من المتحف والمواقع التأريخية التي لا تحصى على مرأى ومسمع تلك القوات , متطرقاَ الى مشاهداته الشخصية لتلك الأحداث التي عايشها مع مجموعة من الخيرين من أبناء شعبنا شارحا الضروف المعقدة التي مرت عليهم وقتها وألأعداد المذهلة لقطع الآثار التي تم سرقتها والجهود التي بذلت في أعادة قسم منها الى المتحف بالتعاون مع المنظمات الأنسانية العالمية الكثيرة معززة بالصور وألأفلام الموثقة لتلك الفترة .
كان الفقيد الدكتور دوني جورج يجيد التحدث باللغات العراقية القديمة , الآشورية والبابلية والأكدية والسومرية, فضلا عن العربية والانجليزية وهو من مواليد 23 تشرين الأول 1950 , عالم آثار عراقي آشوري الأصل , تخرج من كلية الآداب قسم الآثار في جامعة بغداد عام 1974 وحصل على درجة الماجستير في تخصص آثار ما قبل التاريخ من كلية الآداب / قسم الآثار في جامعة بغداد عام 1986 , وعلى درجة الدكتوراة في نفس التخصص من جامعة بغداد عام 1995 , ليتولى بعدها عدة مناصب مهمة منها معاوناً لمدير عام دائرة الآثار العراقية للشؤون الفنية عام 1995 , ثم مدير عام دائرة الدراسات والبحوث في الهيئة العامة للآثار العراقية .
في تشرين الثاني 2003 تقلّد منصب مدير عام للمتاحف العراقية , ورئيس هيئة الآثار العراقية عام 2005 , وأستاذ زائر في جامعة نيويورك الحكومية في ستوني بروك , هذا بالإضافة إلى العديد من المناصب الفنية المثيرة والتي رافقت المناصب الإدارية التي تقلدها وأعمال التوثيق والمسح والصيانة والتنقيب عن الآثار في معظم مناطق العراق؛ والتي تشمل نينوى وسد بخمة وسامراء وآشور وأم العقارب في الرفاعي وأور والبصرة والعديد من المناطق الأخرى .
إن من يقرأ كلماته الأخيرة, التي قالها في العشرين من مايو أيار 2009 يدرك انه كتب وصيته قبل موته, فجاءت كلماتها زاخرة بعبارات التواد والتفاهم والتلاحم حيث قال ...
( أخواني الآشوريين من كل المذاهب, يكفي ما أصابنا حتى الآن , ولست بحاجة لأذكركم بما يحدث لنا على أرضنا المغتصبة من قتل وذبح وتهجير, وارتكاب أبشع الجرائم بحق هذه الأمة , ألم تدركوا بعد ما الذي سيكون عليه مصيرنا بعد هذه الفرقة, وهذا التمزق ؟؟.
إذن علينا اليوم جميعاَ التكاتف, لأن الأخطار المحدقة بنا ستمزقنا وتفرقنا , أدعوكم من أجل هذه الأمة العظيمة, التي وضعت اللبنات الأولى لمقومات الحضارة الإنسانية على وجه الأرض , والتي نفتخر بها أمام العالم, ألا تكونوا سبباً في تمزيقها وزوالها ) .
مصادر المعلومات بتصرف من الأنترنت