اضاءة قانونية خافتة
على موقفنا من الأستفتاء
د.منى ياقو
- فكرة الدولة القومية الكردية من المعلوم ، ان مبدأ ( لا تفتيت و لا تجميع بالاكراه ) ، كان سائداً في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر ، و كان قد استند اساساً الى مبدأ القوميات ( principle of nationalities ) حين برزت فكرة (الدولة القومية ) ، التي انطلقت اساساً من ضرورة الا يٌكره شعب على العيش مع غيره في اِطار كيان سياسي واحد ، و الا يتم تفتيت شعب له ثقافة و خصائص تميزه ، بتوزيعه قسراً بين عدة كيانات سياسية .
و تم التركيز حينها ، على العوامل العرقية و الثقافية و اللغوية من اجل تقرير هوية الشعب و مستقبله السياسي ، وذلك انطلاقا من التقارب بين مفهومي (الشعب) و ( الأمة ) ، على الأقل بالقدر الذي يخدم الارادة السياسية لأية وحدة طبيعية ، و دعمها لأمتلاك دولتها القومية المستقلة ، الا ان تغيرات و انقلابات سريعة حدثت ، في وقت قياسي ، لا يتعدى ستون عاماً ، دفع الى التريث و اِعادة النظر في تقييم فكرة الدولة القائمة على أساس مبدأ القوميات .
و أصبحت النظرة السائدة ، هي ان فكرة الدولة القومية ، ان كانت تصح بالنسبة لدول تتألف من أمة واحدة ، لكنها لا تصح ابداً بالنسبة للدول التي تكون مؤلفة من أمم عديدة .
و اليوم ، تشير مجمل الدلائل ، الى ان الأقليم مقبل على انشاء دولة كردية قومية ، و ان دحض هذه الفكرة لا يأتي من خلال انكارها شفهياً ، كما هو جارِ ، بل من خلال تقديم الاثباتات و البراهين التي تمهد لذلك، بخطوات ملموسة ، فمثلاً ، اعلان دولة تحت مسمىً قومي ( دولة كردية أو دولة كردستان ) ، لا يعني بالنسبة لنا كأقلية و كسكان البلاد الأصليين ، اِلا القبول بصهر تاريخ يعود لأكثر من سبعة الآف عام ، و التعود على التعايش مع أصحاب الدولة كضيوفٍ معززين مكرمين ، و هذا التوجه لن نرضى به نحن ،كما و لن تؤيده ، على الأرجح ، الاطراف الدولية و الاقليمية .
- حق تقرير المصير في اِطار ميثاق الأمم المتحدة بصدور ميثاق الأمم المتحدة في 1945 ، ( ينظر المادتين : 1/2 و 5 منه ) ، تحول حق تقرير المصير من مبدأ سياسي بحت الى مبدأ قانوني راسخ ، و هذا ما أكده قرار محكمة العدل الدولية الصادر بشأن اقليم تيمور الشرقية في حزيران 1995 ، الذي جاء فيه " ان مبدأ حق تقرير المصير للشعوب ، قد تم الاعتراف به من قبل ميثاق الامم المتحدة .............. وهو احد المبادئ الاساسية للقانون الدولي ".
و رغم رسم الاطار القانوني لهذا الحق ، الا ان تعدد معانيه و كثرة الزوايا التي ينظر منها اليه ، كالزاوية القانونية ،الزاوية السياسية ، زاوية المصالح الدولية البحتة ، الخ ،و كذلك عدم توضيح المقصود ب (الشعوب ) التي يحق لها المطالبة به ، كأن تكون أمة او مجموعة او شعب الدولة ، كل ذلك قد يعد أمراً سلبياً بالنسبة للمطالبين به ،لا سيما و ان سياسة الكيل بمكيالين ، تصبح واردة جدا ، حيث يُعطى الحق لمجموعة و يُحرم على اخرى.
- أوجه حق تقرير المصير تجدر الاشارة ، الى ان حق تقرير المصير ، يكون على نوعين : اولهما – داخلي : و يتمثل بحق الشعوب ، في اختيار نظام الحكم الذي يلائمها و حقها في ادارة شؤونها على النحو الذي يحقق مصالحها ، دون تدخل او تهديد . و ثانيهما : خارجي – و يتضمن حق الشعوب في ان تختار بحرية وضعها الدولي الذي تراه مناسبا لها ، سواء بالأنفصال او الأندماج او الأتحاد .
وان الوجه الداخلي لتقرير المصير ، قد أتضح من خلال الاعمال التحضيرية لنص المادة 1 من العهدين الدوليين ، كذلك من خلال صياغة المادة في العهدين ، التي استخدمت مفردة (الشعب) بشكل مطلق ، حين اكدت على ان " لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها ".
من هنا انطلق لأؤكد على حق شعبنا في المطالبة بتقرير مصيره داخلياً ( كما بينت مفهوم ذلك اعلاه )،و بأنه كان من واجب سلطات الأقليم ، ان تأخذ ذلك بنظر الأعتبار ،قبل اجتماع 7 حزيران ، حينها كان يمكن ان يتم التحاور حول امكانية تشكيل أقليم خاص بشعبنا، او الاقرار بالحكم الذاتي لمناطقنا ، أو أي خيار يناسب طموحاتنا المرحلية ،في اطار دولة اتحادية ( لا قومية ) ، تحمل هوية جميع المكونات ، اسوةً بمطالبة اخواننا الكرد ، بحق تقرير مصيرهم خارجياُ ، و ان احترامنا لحقهم و تأييدنا له ، سيبقى مرهوناً بمدى دعمهم التحريري الراسخ لحقنا ، حيث كان من واجبهم ان يهتموا بالأتفاق مع المكونات الأخرى ، قبل ان يجعلوا الاستفتاء أمراً واقعاً ، و كان يمكن ان يتم ذلك الاتفاق ، برعاية أحدى المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ، حينها أراهن على ان الأقليم كان سيصبح نموذجاً عصرياً راقياُ للممارسات الحديثة لحق تقرير المصير ، لا سيما و ان هذا الحق يقبل التطور بطبيعته .
و أما في الحالة الراهنة ، حيث تم اِنكار هذا الحق ،بشكلٍ غير مباشر ، من قبل شركائنا الكرد ، و تحت اية ذريعة كانت ، لذا فمن حقنا ان نظهر جلياً للعالم اجمع ، بأن من يقوم بالتحشيد لدعم حقه في تقرير المصير ، لا يرضى بمنح نفس الحق للآخرين ، و على شركائنا ، ان يتحملوا هذا الانطباع السلبي ، بروح رياضية .
هذا علماً بأن ، كل ما تقدم ، لا يمنع اطلاقاً ، امكانية طرح فكرة تقرير المصير بشقه الثاني (الخارجي ) مستقبلاً ، اذا ما استجدت ظروف تجعل المطالبة بذلك أمراً محتوماً و وفقاُ لمتطلبات المصلحة العليا لشعبنا .
حيث ان الأصل ،هو ان حق تقرير المصير غير قابل للتقادم ، اِذ يمكن استعماله لأكثر من مرة ، و بالمعنى الذي يختاره المطالبين به ، بمعنى انه ، لو طالبنا اليوم بأقليم مستقل ، فأن ذلك لن يمنعنا بعد عدة سنوات من المطالبة بالأستقلال كدولة ، اذا ما توفرت مستلزمات اعلان الدولة ، المعروفة في القانون الدولي العام .
- الأقلية و حق تقرير المصير أما حول حقنا كأقلية قومية - دينية ، في المطالبة بتقرير المصير ، و رغم احتدام النقاش بشان تحديد المقصود بمصطلح ( الشعب ) الذي ورد ذكره في الفقرة 2 من المادة 1 من ميثاق الأمم المتحدة ، في تحديد مقاصد انشاء المنظمة الدولية ، و التي من بينها حق (الشعوب) في تقرير مصيرها ، الا ان خلاصة ما تشير اليه معظم الدراسات ، و القرارات و كذلك احكام المحاكم و التجارب ، تشير الى حق الأقلية في تقرير مصيرها ، بمجرد توافر الشروط التالية :
1- تمتع الاقلية بجميع العناصر التي تؤهلها ان تكون (أمة ) ، و تميزها عن بقية مكونات الشعب ، من خلال تلك الخصائص التي تجمهعا .
2- الاعلان عن الرغبة في تشكيل كيان سياسي مستقل .
3- ان يخدم مطاليبها البعد الجغرافي للمناطق التي تتوزع عليها .
4- وجود مبررات تدعو الى المطالبة بتقرير المصير ، و اهمها الحقوق التاريخية للشعب على أرضه .
- نظرية الاضطهاد كأساس للمطالبة بتقرير المصير من الضرورة بمكان ، الاشارة هنا ، الى نظرية الاضطهاد (التي يستند عليها ايضا اخواننا الكرد ) ، كأحدى اهم الذرائع المشروعة للمطالبة بتقرير المصير ، و تُبنى هذه النظرية على فكرة اساسية مفادها ، ان الدولة ( او سلطات الاقليم ) ، عليها ان تضمن الحماية الفعلية للموطنين ، في النصوص القانونية النافذة ، و كذلك في التطبيقات العملية ، و انها (أي سلطات الدولة او الاقليم ) تستمد شرعيتها من خلال اقرار المساواة و عدم التمييز ، أما ان تم انتهاك حقوق الاقليات ، بشتى الطرق ، كمحاولات الاخضاع المتواصلة ، و فرض الهيمنة و تشويه المشاركة في الحكومة او الحرمان منها ،فأن الامر يكون مختلفاً تماماً ، و لا أود هنا الدخول في تفاصيل الأضطهاد و عرض صوره ،(سواء تلك التي تعرضنا اليها على يد السلطة الاتحادية او سلطات الاقليم )، لأننا سبق و تحدثنا عنها في اكثر من مناسبة .
و تأتي اهمية هذه النظرية من قوة الاساس القانوني الذي تنطلق منه ، و المتمثل في القرار رقم 2625 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ، عام 1970 ، الذي أقر بحق الشعب بالمطالبة بتقرير مصيره ، في حال غياب المساواة و ثبوت التمييز ، على اساس الدين او العرق او اللغة .
وحول شرعية الانفصال على اساس الاضطهاد ، يقول Buchheit ( Lee C. Bunchheit , The Legitimacy of Self- Determination , p.222 ) ان " القانون الدولي يعترف بمجموعة من الوسائل القانونية ابتداءا من حماية حقوق الافراد و حقوق الاقليات و انتهاءا بالانفصال كوسيلة اخيرة .........." .و لا ننفي هنا ، ان هذه النظرية قد تقيد حق تقرير المصير ، كونها لا تشترط الاختلاف الاثني كأساس لرعية المطالبة بهذا الحق ، بل تستلزم اثبات حصول الاضطهاد .
هنا علينا لفت الانتباه الى نقطة مهمة للغاية ، و هي ان نظرية الاضطهاد ، لكي يتم الاعتماد عليها و تفعيلها ، لا بد من تأكيد وجود الاضطهاد من قبل اعضاء الاقلية نفسها ، و هذا ما قد يتعذر تحقيقه بسهولة – بأعتقادي- بسبب كثرة اقطاب السياسة في شعبنا ، و تباين اجنداتهم و ولائاتهم .
- ما القيمة القانونية المستقبلية لموقفنا من الاستفتاء ، بالنسبة لنا كشعب و كقضية قومية ؟بغض النظر عن الهدف الحقيقي من الأستفتاء ، فأن موقفنا من هذه العملية له أثر كبير على التقييم العام لوضعنا السياسي ، و هو انعكاس لمدى الارادة الحرة المستقلة لممثلينا ، و هو موقف حاسم سيكون له دور فعال سواء في حالة اعلان الدولة (الكردية ) ، أو في حالة تأجيل الاعلان الى سنوات اخرى ، أو حتى في حالة اعادة اجراء الاستفتاء للمرة الثالثة ، بعد سنوات ، ما أقصده هنا ، ان المشاركة في الاستفتاء، كان ينبغي ان تتم بحرص و دراسة متأنية، مع أخذ كل الاحتمالات بنظر الاعتبار ، و هذا أمر يفرض نفسه ، و لا يمكن لأيٍ كان ان يتهرب من المسؤولية ، في ظل أي تبرير .
- ما القيمة القانونية لموقفنا في اضفاء الشرعية على حق الكرد في الأستقلال ؟رغم أنه وفق المعطيات الآنية ، فأن الأوان قد فات للحديث عن ضمانات أساسية لشعبنا ، كشرط للتحاور حول الأستفتاء ، الا اني أدعوا السلطة السياسية في الأقليم ، الى الوقوف بجدية عند موقفنا ، من الأستفتاء ، و احترام الأرادة الحرة لشعبنا، و البحث بذكاء عن مخرج قانوني- سياسي ، لتدارك ما جرى من تصغير حجم مطالب شعبنا ، في اجتماع 7 حزيران ، بشكل قد يجعل من تجربة الاقليم ، سابقة دولية يحتذى بها ، مع ما سيترتب على ذلك من تأثير ايجابي على مكانة الاقليم في المجتمع الدولي ، و بعكسه فأننا قد نخسر هذه الفرصة ، و قد نضحي بحقوق قومية – سياسية نعتبرها أساس الشراكة ، لكن الاقليم سوف يخسر دعم أحدى المكونات الاساسية ، مع ما يترتب عليه من التساؤلات التي سوف تثار حول أسباب ذلك التنافر بين السلطة و الاقليات ، و تساؤل حول الشرعية التي يستمدها الاقليم في اعلان دولته من المجتمع الدولي ، وهو اساساً يفتقر الى دعم الشرعية من مكون قومي- ديني عريق ، ذو تاريخ عملاق ، لا يمكن تهميشه في قضية كهذه .
- على الصعيد القومي في ضوء كل ما تقدم ، نعيد التأكيد ، على اننا نمر بمرحلة حساسة و حرجة ، آزاء مشروع الاستفتاء و اعلان الدولة (الكردية )، و اننا بحاجة الى تظافر الجهود السياسية و القانونية و الاقتصادية و غيرها ، و الى دراسة ابعاد القضية انطلاقا من المصلحة القومية ، و لنترك المزايدات السياسية و الفردية جانباً ، كيلا نعيد تجارب مؤلمة كانت السبب في الشرذمة و التفتيت ، نحن بحاجة ماسة الى الحوار المبني على اسس ، مع مراعاة الوضع السياسي الراهن ، و البعد القانوني الداخلي و الدولي ، و الاستفادة قدر الامكان من الحقائق التاريخية المغيبة عمداً ، و ان على مؤيدي أية جهة سياسية ان يطالبوا ممثليهم بالتوجه الى طاولات الحوار ، و عدم استهلاك الجهود و المقدرات و الوقت ، في مهاترات جانبية ، لن نجني منها الا المزيد من خيبات الأمل .
و سنستمر في عرض الجانب القانوني ، أملاً في خدمة شعبنا و قضاياه المصيرية .