من روائع التراث المريمي لكنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية – أنشودة بصلوثا دموارختا: تحليل نقدي
ملاحظة: أقدم هذا التحليل لهذه القصيدة المريمية الرائعة الى الدكتور روبين بيث شموئيل، مدير عام الثقافة والفنون السريانية في اقليم كردستان، العراق، ومعه كافة الأخوة والأخوات القائمين على تدريس لغتنا المقدسة السريانية في أرض الأجداد او الشتات، وأقول إنني كنت أسعد إنسان في الدنيا عندما طرق سمعي أن بعضكم يعرج على مقالاتي عن دور اللغة وأدائي لبعض الأناشيد من تراث كنيسة المشرق المجيدة وتحليلها عند تدريسه. وكذلك أهدي التحليل والأداء الى ابناء وبنات كنيسة المشرق المجيدة من الكلدان والأشوريين وكل محب للغتنا الأم، هويتنا ووجودنا.
توطئة
والقصيدة التي بين أيدينا تعد من روائع الأدب المريمي في تراث كنيسة المشرق المجيدة. وحسب علمي، لم ألحظ أي تحليل نقدي يعتمد نظريات علم الخطاب الحديثة لأي نص بلغتنا السريانية. تحليل الخطاب، لا سيما ا لشق النقدي منه، عمل شاق، يتطلب جهدا ومعرفة بنظريات العلوم الاجتماعية. سأتجنب الشق المعرفي العميق من التحليل، وأركز باختصار شديد على الثيمات (الأفكار) الرئيسية التي ترد فيها، ونسقها ولغتها وترابطها وتماسكها وربطها المنطقي. ومن ثم سأحاول وضع النص ضمن سياقه التاريخي.
متابعة التحليلأرجو من القراء الكرام اولا الاستماع الى القصيدة من خلال ادائي المتواضع لها مع آلة الكمان، ومتابعة النص، بالحرف والصوت باللغة العربية، مع ترجمته الى العربية في أسفل المقال مع قراءة التحليل:
https://www.youtube.com/watch?v=ye5eGdugFcAمعلومات عامةالنص: شعر موزون بدقة، ولكنه غير مقفّى
المؤلف: حسب علمي مجهول
اللحن: يتراوح بين البيات القصير والرست
تاريخية النصلأن النص متوافر في حوذرة كنيستنا المقدسة فلا بد وأن يعود الى ما قبل القرن السابع. كما هو معلوم، فإن اول تأوين لطقوس وتراث وآداب كنيسة المشرق جرى على أيدي البطريرك إيشوعياب الثالث الحدياني في القرن السابع الميلادي. وإيشوعياب من عمالقة شعبنا وعلينا اتباع طريقته في التأوين التي كانت الحفاظ على التراث الكنسي من الضياع ووحدة شعب وأتباع كنيسة المشرق وحمايتهم من الضياع أيضا من خلال الحفاظ على التراث الكنسي بلغته. فجمع هذا الألمعي كل التراث الكنسي ورتبه بطريقة يتماشى فكرا وخطابا ولاهوتا وممارسه مع خطى حياة يسوع المسيح منذ ولادته حتى مماته وقيامته. ومنذ ذلك الحين، وحتى يومنا هذا، لا يزال العلماء ينبهرون بعبقريته وإجراءاته التأوينية البناءة التي حفظت لنا تراثنا ومعه هويتنا المشرقية الكنسية وكذلك جعلت أبناء وبنات كنيسة المشرق التي كانت مترامية الأطراف وأكبر كنيسة في الدنيا في حينه، ينشدون ويقرأون ذات النصوص وذات اللغة وتقريبا نفس اللحن في أي مكان حلوا على وجه الأرض.
شاعرية النصكما قلت النص شعر موزون بطريقة بارعة، ويقترب من الشعر الحر الحديث، لأنه يلتزم بالوزن وليس القافية.
تحليل النصأرجو متابعة النص أدناه والتبويب الرقمي للأبيات بالسريانية، حيث أن التحليل هنا يتكئ على الترقيم المتسلل للقصيدة.
وهذا ليس تحليلا لاهوتيا. التحليل هنا يستند الى النص ذاته لتبيان روعته وكيف أنه يسبق زمانه ليس ضمن نطاق محيطه بل ربما ضمن نطاق الشعر العالمي بحوالي 1500 سنة.
لماذا؟ لأن النص يبرع في توزيع الأبيات الشعرية ثيماتيا (أي أنه منظم بطريقة فكرية بارعة). وينتقل النص بين مخاطبة المؤنث والمذكر، وهذا، حسب علمي واطلاعي، غاب عن الترجمات التي بين أيدينا، كما سنرى.
وينقسم النص الى ثلاث ثيمات رئيسية وهي 1 و2 و3. وكل ثيمة تتفرع الى ثيمة ثانوية: 1.4 و2.4 و3.4. بمعنى أخر، لدينا ست ثيمات، ثلاث رئيسية وثلاث فرعية. وهذا عمل فكري شاق ونادرا ما نلاحظه في الشعر القديم والحديث عدا محاولات شعراء الرومانسية وما بعدهم في الإنكليزية والفرنسية ولغات أخرى.
وهذا التقسيم يتبع الشرط الحديث للكتابة المنسقة والتي يجب ان تتحكم فيها الفكرة الموجهة او المنظمة، حيث تتسلسل فيها الأفكار بشكل منظم تبدأ بفكرة رأسية في المقدمة وتتبعها وتحوم حولها كل الأقسام الأخرى حتى الخاتمة.
ونلاحظ الفكرة الأساسية للنص في 1.1 و1.2 و1.3. من هذه الثيمة وفي نهايتها 1.3 نلحظ " حَيّْلا دَنْحِثْ مْن روما". هنا تبدأ الإشارة الى يسوع المسيح الذي نزل من السماء وحملت به العذراء.
لاحظ أنه حتى البيت 1.3 المخاطبة في النص هي للمؤنث (العذراء مريم). ولاحظ كذلك كيف أن المخاطبة والخطاب يتحول جذريا من المؤنث الى المذكر، أي الخطاب بعد 1.3 وحتى 2.4.8 لم يعد موجها للعذراء بل الذي ولد من احشائها، وهو يسوع المسيح.
وكذلك نرى ان في 1.1 وحتى 1.4 يقتصر الخطاب على طلب شفاعة مريم العذراء لدى ابنها وليس هناك طلبات مباشرة.
وتحويلة الخطاب الرئيسية في الفكر والنحو والصرف تبدأ في 1.4.2 حيث يوجه الكاتب خطابه مباشرة الى المسيح وتبدأ الطلبات. لاحظ هنا كيف ان النحو والصرف يتحول الى صيغة المذكر. وتستمر الطلبات حتى نهاية 2.4.8.
وما يميز الطلبات هذه أنها تعبر الزمنكانية، بمعنى يقف القارئ اليوم ونحن في العقد الثاني من القرن والواحد والعشرين، أي بعد 1500 سنة في أقل التقدير، ويمكن أن يقدم ذات الطلبات للمسيح، وهذا من النادر ان نلاحظه في نصوص في لغات أخرى حيث تبدل الزمنكانية ينهي حداثة النص، ولكن ليس هنا.
وتأتي التحويلة الثالثة الرئيسية في الثيمية 3.1. هنا يعود النص الى بدايته حيث يرجع الكاتب بعد ان قدم طلباته ووضعها امام المسيح الى العذراء مريم مرة أخرى للشفاعة. وتستمر الشفاعة من 3.1 وحتى النهاية، وهي تمثل الخاتمة الأهم بالنسبة للمسيحي المشرقي وكل مسيحي ومفادها أن "يكون لنا استحقاق التنعم بعرس ملكوت السماء معها (أي العذراء مريم) ونزمّر تسبحة الثالوث الأب والأبن والروح القدس" وذلك "في يوم الدينونة الذي يتم فيه فرز الأخيار عن الأشرار."
اللغة والبلاغةبعد ان قدمنا تحليلا موجزا عن الثيمات في النص، نعرج على اللغة والبلاغة. باختصار شديد، أقول إن النص نموذج شعري بديع للسهل الممتنع. أي متحدث بلهجاتنا المحلية، سيستوعب أغلب النص إن حاول جاهدا استيعابه، وسيهضمه بيسر إن استخدم قاموس سرياني-عربي مثلا.
والنص تتخلله صور بلاغية رائعة تتحدث معنا مباشرة ونحن في القرن الواحد والعشرين. لن أخوص غمارها لأنها لوحدها تحتاج مقالا منفصلا.
ولكن لاحظ الأسماء الحسنى التي يطلقها النص على العذراء مريم: "بثولتا، موارختا، قديشتا ... ." وكذلك لاحظ الأسماء الحسنى للمسيح، مثل: "نوهرا، سوّرا، حييي، فاروقا، ... ." وأغلب الأسماء الحسنى في القرآن ولدى المسلمين أصلها سرياني، أي مقتبسة من تراثنا.
الترجماتهناك كما قلت العديد من الترجمات للنص هذا، ولكن أغلبها تفتقر الى معرفة كنهه، لهذا لم ألحظ مثلا أن أي منها يميز بين الثيمات والنحو من حيث المذكر والمؤنث الخاص به. وترجمة الشعر عملية شاقة لا يتقنها الا من لهم ناصية رفيعة وتمكن لا غبار عليه في اللغتين، المترجمة منها والمترجمة إليها.
مكانة النصفي رأي النص واحد من عشرات النصوص المطولة (النص الحالي يتألف من 22 بيتا) ضمن المريميات الخاصة بكنيسة المشرق المجيدة. بيد أنني أظن أن هذا النص يعد من أشهرها.
مكانة النص في الليتورجياهذا النص بالذات كان قد تحول الى ما يشبه الفلكور المريمي الشعبي لا سيما لدى الكلدان، وكانوا ينشدونه كثيرا وتقريبا في اغلب احتفالاتهم. الا أنني لم اعد اسمعه منذ حوالي منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم لدى الكلدان. أخر مرة سمعته كان في كنيسة المشرق الأشورية في مدينتنا في السويد بعد القداس مباشرة.
أعياد مريم العذراءالنص يتناسق مع الأعياد الثلاثة الكبيرة للعذراء مريم في كنيسة المشرق وهي: (1) عيد منتصف أب الحالي (الحصاد ونهايته)، (2) عيد شهر أيار، حافظة الزروع، (3) والعيد الذي يعقب عيد الميلاد (الخوف على الزرع من الجماد وقسوة الجو). والأعياد الثلاثة، في ظني، لها بعد في عمق بلاد ما بين النهرين، حيث كانت الناس تحتفل بالزراعة والمحاصيل. ولقد اقتبس اليهود في الأسر في بابل ونينوى هذه المناسبات وحولوها الى أعياد توراتية. وعند قدوم المسيحية صارت اعيادا مجيدة لنا.
وكل عيد له أناشيده وتراثه وتقاليده وفلكلوره في قرى وقصبات ومدن شعبنا. ما احوجنا الى إحيائها أي تؤينها بلغتها ولحنها وتقاليدها أينما كنا، في أرض الأجداد أم في الشتات.
كلمة أخيرةهذه قصيدة رائعة من التراث، علينا المحافظة عليها، أي تأوينها، لأنها جزء من تكويننا كأمة وشعب وهوية وكنيسة.
ولا يجب ان تقتصر المحافظة عليها والتشبث بها أروقة الكنيسة والمؤمنين، ولو أنه يجب ان يكونوا هم في مقدمة محبيها ومقتنيها والمحافظين عليها. هذا التراث يعود للكل، المؤمن وغير المؤمن، والمتدين واللاديني.
في كليات التربية في السويد يتم تدريس التراث الكنسي السويدي بلغته وكما هو وبأناشيده، كي يقوم المتخرجون تدريسه في المدارس، رغم أن أغلب الشعب علماني الهوى، أي لا ديني.
أترككم مرة أخرى مع الأداء المتواضع لهذه القصيدة وكذلك مع أحرفها وأصواتها باللغة العربية، إضافة الى ترجمة حرفية للنص:
https://www.youtube.com/watch?v=ye5eGdugFcAطلب بسيطوقبل تقديم القصيدة، لدي طلب بسيط، وأظن أن قرائي الكرام لن يبخلوا علي به. أرجو وضع الروابط في مواقع التواصل الجماهيري لأي أداء لهذه القصيدة او ترجمة او نص لديكم، كي نتشبع بها وبمعانيها. النص رباني ونبوي بامتياز. ولكم الشكر الجزيل مقدما:
1
1.1 بَصْلوثا دَمْوارَخْتا شَيّنا نَمْلخ بَوْرْيْثا
بصلاة المباركة السلام يحل في الأرض
1.2 واوْواعْوثا دَوْثولْتا يَلْده دْعَيْتا نْثْنَطْرون
وبطلبات البتولة أبناء الكنيسة ينطرون
1.3 حَيّْلا دَنْحِثْ مْن روما وْقَدّْشَه وْصَبّثَه لإيْقاره
القوة التي هبطت من العلى قدستها وأوقفتها لجلالته
1.4
1.4.1 وْيْلّْدَثْ نْوهْرا شَرْيْرا وْسَوْرا وْحَيّْيَىْ لْوْرْياثا
وأنجبت النور الحقيقي والأمل والحياة للبشرية
1.4.2 دْنِهْوِه عَمّْنْ وَيْناثَنْ كُلْهْونْ يَوْماثا دْحَيّْيَنْ
كي يكون معنا وبيننا كل أيام حياتنا
2
2.1 وْنَسِّهْ لْمَرْعْهْ وْلَكْرْيْهْى وْلَيْلَيْنْ دَرْمِنْ بْنِسْيْونِه
ليطبب السقماء والمرضى والذين قد دخلوا بالتجربة
2.2 وْنَپْنْه لإيْلِنْ دْيْثَيْهْونْ بْأورْحاثا رَحْيْقاثا
ويعيد الذين لا زالوا (يرومون) في الطرقات البعيدة
2.3 وَشْلاما بْغاوْ باتَيْهْونْ دْلا نِثْنْخْونْ مْنْ بْيْشا
ليحل السلام في بيوتهم ولا يدخلهم الشيطان في التجربة
2.4
2.4.1 وْأيْلْينْ دَوْيمَه رْاذَيْنْ نِشْتَوْزْونْ مْنْ كْيْمونِه
والذين يجوبون البحار يتجاوزون الأمواج (بسلام)
2.4.2 وْأيْلْينْ دَوْيَوْشا مْهَلْخْيْن نْثْپَصْونْ مْنْ بَرْبْرايْه
والذين يسيرون على اليابسة ينجون من البرابرة
2.4.3 وْأيْلْينْ دَوْشْويا إشْتْويْ نْشْتْرونْ مْنْ أسْوْرَيْهونْ
والذين يقبعون في الأسر يتم فك قيدهم
2.4.4 وْأيْلْينْ دْوَقْطْيْرا دْوْيْريْنْ حْنانَخْ نْوَيّْأ كَرْيْوْثْهْونْ
والذين يساقون عنوة تنبسط أساريهم برحمتك
2.4.5 وْأيْلْينْ دْوْيْشا شاحِقْلْهْونْ نْغْعْورْ به حَيْلَخْ رَبّا
والذين تحت سطوة الشرير توبخه سلطتك العظيمة
2.4.6 وْأيْلْينْ دَوَحْطاهِه مْهَلْخْيْنْ حَسّا وَشْوّقْ حًوْبَيْهْونْ
والذين في درب الخطيئة سائرون أصفح وأغفر ذنوبهم
2.4.7 وْأيْلْينْ دْقَرّْوْ قْوْرْبانه تْتْنْيحْ بْهْونْ ألاهْوثاخْ
والذين يقربون الذبائح تقبلها لهم ألوهيتك
2.4.8 وْأيْلْينْ دَشْخِوْ عْالّْ سَوْرْاخْ نَحِمْ وْأحْا بْطَيْبْوثاخْ
والذين رقدوا على أملك أقمهم وأمنحهم الحياة بنعمتك
3
3.1 وَحْنَنْ دَأحَّذْنا كَوْسْا بَصْلْوْثا دَمْوْارَخْتا
ونحن الذين اتكلنا على صلاة المباركة
3.2 مَرْيَمْ بْثْوْلْتْا قَدْيْشْتا إمِّهْ دْيْشْوْعْ َپَارْوْقانْ
مريم البتولة والقديسة والدة يسوع مخلصنا
3.3 ىبَهْ نِثْنّْطَرْ من بْيْشا وْنْزْكِهْ لْخْلْهَيْنْ صُنّْعْاثِهْ
بوساطتها نتجنب الشرير ونتغلب على كل صنائعه
3.4
3.4.1 وْاوْهْاوْ يَوْمْا دْوْوْحْرَانا دْپَرْشْيْنْ طْاوهْ من بْيْشِهْ
وفي يوم الدينونة الذي يتم فيه فرز الأخيار عن الأشرار
3.4.2 نْشْتْوْى دْعْمّهْ نْثْبَسَّمْ بَغْنْوْنا دْمَلْكْوثْ رَوْمْا
يكون لنا استحقاق التنعم معها بعرس ملكوت السماء
3.4.3 وْنِزْمَرْ شْوْحْا تْلْيْثايا لأوا واورا ْورْوحْ قُدْشا
ونزمّر تسبحة الثالوث الأب والأبن والروح القدس
تنويه:هذا المقال كتبته بمناسبة عيد مريم العذراء الذي يطل علينا في منتصف شهر أب من كل سنة. وهو عيد عزيز على قلبي، ولي فيه ذكريات جميلة تبدأ من القرية التي ولدت فيها في سهل نهلة، والى دير الرهبنة الهرمزدية الكلدانية، التي أنا مدين لها طوال العمر، والى التقاليد التي رافقتنا ككلدان أو اشوريين والخاصة بهذا العيد والتي لا يزال بعضنا يمارسها حتى يومنا هذا.