پول الصغير
(قصة مٌستوحاة من حياة العلامة بولس نويا اليسوعي)
بولص آدم
أصبحَ قرار السفر الى الموصل هذا المساءُ في إينشكي، أكثَرَ جدية، والدي يريدُ أن يراني بجُبة قس سوداء، أنا أبنُ عشرة أعوام، أعرِفُ القرية والجبل، الكهف وينابيع المياه، جمع الحطب وأنتظار أن يُعانق شجَرُ السبيندار السماء، تُدَقُّ جذوعُ هذه الأشجارُ العملاقة بفؤوس ضخمة بأيدي رجال أقوياء مشدودة رؤوسَهُم بأذرع قماشٍ بقوة، تستلقي تلك الأعمدة النباتية الغليضة ويَتُمُّ التشليفُ على عجل ..أُراقِبُ مذبحة الأشجار تلك وأبكي كُلَّ مرةٍ تسقُطُ فيها شجرة صرعى، وأدفُنُ وجهي في أغصانها وأوراقها الخُضر الداكنة، ثم أركُضُ نحو كنيسة مارت شموني، أُشعلُ شمعة صلاتي، وأتوسَّلُ الربَّ أن يغفرَ لؤلئك الرجالُ القُساة، الجُناة، كيف لهُم نَحرَ عزيزاتي من الأشجار صديقاتي اللواتي تحدثتُ اليهُنَّ كثيرا، كيف ؟
عندَ الفجر، حَمَلتُ صُرَّة ملابسي وأنجيل والدي وصليب أُمي، كان علي أن أتقبل هذه اللحظات الوداعية ألمُرة، مُذ قال أبي: أُريدُهُ أن يصبح راهبا.. أترُك هذه الأرض وهي في أبهى حلة مكسوة بالأخضرار والمياه الوفيرة وهي الحياةُ التي أعرِفُها، رعي وزرع، اللعبُ مع أصدقائي هُنا والسباحة في برك المياه العذبة.بالكاد ألحقهُ أبي.. أبي
ـ يابولس، سَرسنك التي سنمشي اليها بعيدة، فَلنُسرِع كي نَلحَقَ سيارة قادمة من العمادية، لو حالفنا الحظ .
ــ ألَم يَكُ أفضلَ لو ركبنا حمارنا الأبيَض؟
ـ ومَن يُعيدُهُ الى إينشكي، جَدَّتُك، ها؟! سأُرافقُك حتى دير ماركوركيس، سترى مدينة الموصل، هناك عربات بجياد تنقُلُ الناس في المدينة، سيارات من كل نوع وشوارع معبدة بالقير ومُضاءة بمصابيح على أعمدة، ألا تُريدُ رؤية القطار؟
ــ أنا لا أعرف غيرَ إينشكي فقط، كيف سأعرفُ الدروبَ وأتحدثُ معهم هُناك؟
ـ ياولدي، هُناك رجُلٌ كلداني ذهبَ الى أمريكا قبل عشرات السنين، هو ليس أفضلَ منك، أعرفُ مهارتُكَ في عَدِّ الأغنام بسرعة قبل إدخالها الحضيرة، أنت حافظ صلوات أكثر من شماسي أينشكي، صوتُك جميلُ أكثر من أصواتهم، برَبِّك هل للشماس يوسف صَوت، هو لا يُرتل بل يندُب ويُلول، لا يُفرِّ قُ بين الكنيسة والمقبرة! …
عندما قال الراهبُ الدومينيكاني في الدير لوالدي، سَنُسَميه (پول الصغير) عَرِفتُ أن في الحياةَ تغيير..
وضعتُ رأسي على الوسادة ودموع فراق أٍمي تنهمرُ مع كُل كلمة اتذكر كيف نطقتها بهمس :
ــ هُناك كما قال لنا القس في مارت شموني، ستتعلمُ أشياءَ لن تتعلمها هُنا، يقول، بأنك صادق ومحب، نقي، ذلك الدرب يَصلُحُ لكَ..
كان أبي في طريقه عائدا من الدير، سيعود الى قلب الموصل، يَبيتُ في، خان بجوت، وغدا سيُسافرُ الى أرض الأجداد، إينشكي..
في قدح من الماء الساخن، وضع ملعقة من زهر البيبون الجاف، يعاني منذ أيام من عدم أنتظام في دقات القلب، انه الخامس من شباط1980نزع عن وجه التقويم ورقة الرابع وقرأ آية مخصصة لليوم الخامس، نشرة أخبار صبيحة الثلاثاء من الأذاعة الفرنسية، معبأة بالتوترات العالمية، كارتر والرهائن في أيران، أميركا تطلب سحباً للجيش السوري من مناطق في لبنان، غروميكو والأسد يلتقيان، وأسرائيل تتوقع تجدد القتال بين المسيحيين والمسلمين في بيروت، الوضع في أفغانستان حالك والسوفييت ينددون بعقوبات أمريكية.. فتَح الأب اليسوعي علبة فيها لبن، أخرج من علبة الخبز الخشبية رقائق خبز، الأخبار تتوالى..محاولة فتاة الأنتحار تحت الأرض على سكة المترو الذاهب من كلوني الى السوربون.. زادت خفقات القلب تسارعا، شرب ماء البيبون وهو يعيدُ على نفسه ما كتبه في كتابه (صوت المسيح) وطغى همسه الداخلي، لكأن إلقاء المُذيعة المُسرِع توقف.. (لو كان على الأرض من المحبة أكثرُ ممّا عليها الآن لسهل حلّ جميع المشاكل، مشكلة السلام ومشكلة الأمن الأقتصادي ومشكلة رأس المال والعمل. لأنه ليس للأنسان من فاعليّة حقيقية وتأثير عميق في الحوادث الا على قدر ما له من محبّة. كان القديسون قادرين على كلّ شئ لأنّهم كانوا يحبّون كلّ شئ…)
ركَّزَ في ورقة اليوم من التقويم، كلماتُ مؤطرة بنقشة نباتية زاهية وصُلبان صغيرة في كل زاوية من زوايا الأطار الأربع.. ( أحبوا بعضٌكم بعضًا كما أنا أحببتُكم).
قد هيأ كُل شئ مساء أمس قبل أن يُصلي وينام، الحقيبة التي فيها ملاحظاته حول أوراق عن النفري ستُناقش مع طالب دكتوراه في السوربون ووصل بريدي سيستلم بموجبه اليوم ظرفا بريديا من الموصل، أبقى الشباك نصف مفتوح كما كان طوال الليل رُغم طقس الشتاء البارد، هواء باريس كله لم يَعُد يكفي رئتيه.. أغلق باب الغرفة..
لم يستطع هبوط درجات السلم دون أن يعرج قليلا، أحس بوجع في الصدر مع كل عتبة، آلام كَسر ساقٍ وهمية.. تذكر ذلك الحجر المنقوص وهو يضغط على فرشات حجر هذا الدرج، حجر قبر لم يكن في مكانه عند أسفل تل المقبرة في مار ياقو، قيل أنه علامة على أن للبناء قدم مكسور عند سقوطه، ينبغي الأعتقادُ بأن البناء لم يكُن كثير الأيمان، لأنهُ كان أقَلَ حظاً من زميله الذي أعاد بناء دير إينشك وهذا الأخير كان خائفاً وقت بناء القُبة، فقد أراحتهُ مُعجزة الربان عوديشوع من داسن وشدد عزمه،
ولم يَحدُث أي شئ أثناء البناء.. هناك أسفل تل المقبرة، قبرُ بَنّاء، قُتِلَ نتيجة سقوط جدار الكنيسة.
لهذا الجدار نفس الملمس البارد لجدار هناك قبل أعوام طويلة، أثناء تجديد الرهبنة الكلدانية في الموصل نهاية الخمسينيات، يتذكر تزامُن ذلك مع كثير من الأحباط احيانا فالبناءُ صعب والضغينةُ سهلة والعالم ملئٌ بها! ودير ماركوركيس على تلته مُطلا على البساتين وتلاميذُ محبة المسيح، يملأون التلال القريبة أحلاماَ سماوية يتأملون عظمة الخالق بين شقائق النُعمان والنرجس البري والحندقوق ..
ـ بونجور مسيو پول!
ـ بونجور مَدام فرانسوا
ـ علينا الحذر هذا الصباح فالطرقات متجمدة
ـ على كُل حال، ليس المشيُ عندي على مايُرام!
لم تفهم مدام فرانسوا، وتجاوزته صعودا والتافت مع لفة الدرج الحجري صعودا.
كان الطالبُ الذي جلس على كُرسي خشبي جنب باب الأب البروفيسور بألأنتظار، إنتظر كثيرا، أكثر من المُعتاد.. أطَلَّ البرفيسورعلى مهل والحقيبة الجامعية بيده، بعد تبادُل التحايا، قال مُبتسما:
ــ عودتنا اليوم الى النفري وذلك الماضي المُدهش تحتاجُ منا وقت أنتظار أطول أليس كذلك؟! ضحكا وهما يدخلان الغرفة التي كانت لعشرات السنين للمستشرق لويس ماسينيون، وهي الآن للمسيو بول بعد أن أرتقى الى كُرسيه الجامعي وحل محَل أُستاذه المشهور.
تقابلا على وجه منضدة من خشب الأبنوس، فُتحت الحقائبُ وتقابلت أيضا أكداس الأوراق، والنفري ملأ المكان روحانيات صوفية..
ماانفك الطالبُ شارل ينظُرُ نحو كولاج مؤطر بخشب رفيع بُني، بينما نظرات البرفيسور تتابعُ سطورا.. التقت نظراتهما ثانية:
ـ ذلك الكولاج المشغول بقطع صفراء مُكَولَجة على خلفية زرقاء صافية هي لوحة الشمس، للفنان الشاعر أدونيس، من أيام أطروحته الثابت والمتحول التي أشرفتُ عليها في جامعة القديس يوسف في بيروت
ـ عفوا مسيو پول، هل كان صوفياً ؟
ـ مُتأثر بالصوفيين.. في شعره ومقالاته لغة النفري ومأساة الحلاج
ـ الحلاج الذي صُلب في بغداد؟
ـ بالضبط، على جسر بغداد صُلبَ وأنزل وجلد ثم صُلب وهكذا حتى قُطعت أطرافُه وأذرعه ووضعت الى جانبه.
ظل الطالب ساكتاً وأستمَرَّ صَمتُ لكأنهُما في دقيقة الحِداد..
استَلّ البروفيسور پول نُسختين من صلاة حلاج الأسرار قبل صلبه، هذ الذي سمّاه جان شوفالييه “مسيح الإسلام”.. وضع نسخة بالعربية منها أمام طالب الدكتوراه شارل وبدأ المسيو العلامة بالترتيل وكأنه أمام المذبح الكنسي :
(نحن شواهدك نلوذ بسنى عزّتك لتبدي ما شئتَ من شأنك ومشيئتك، وأنتَ الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ، تتجلّى لِما تشاء مثل تجلّيك في مشيئتك كأحسن الصورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة، ثمّ أَوعزتَ إلى شاهدك الآني في ذاتكَ الهوى اليسير، كيف أنت إذا مثلت بذاتي، عند عقيب كرّاتي، ودعوتَ إلى ذاتي بذاتي، وأبديتَ حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدًا في معارجي إلى عروش أزليّاتي، عند القول من برّياتي، إنّي احتُضرتُ وقُتلتُ وصُلبتُ وأُحرقتُ واحتملتُ سافياتي الذاريات ولججت بي الجاريات، وإنّ ذرّة مِن يَنجوج مكانها كل متجلّياتي، لأعظم من الراسيات )
أدمَعَت عينا مسيو پول وزادت الحرقة في صدره أضطراما..
ــ هون عليك عزيزي الأبُ، لم أفهم كلمة ( يَنجوج)
ـ ينجوج، هو العود الذي يُتبخّر به.
ــ كلامٌ يَخرُجُ من القلب الى القلب.
ـ إنه الذوقُ الصوفي يا شارل..
ها أنذا في الشارع ثانية، ذلك حسن، صداعُ وضيق تنفُّس، ربما بمشيئة الرب، سيكون الألمُ عابرا، عند ظهيرة مدينة الجن والملائكة هذه، سأشُقُّ طريقي في مدينة الأسرار، أريد اللحاق بسريري والنوم قليلا، رغم أن هٌناك ضجيجٌ هائل في أعمال بناء المساكن الجديدة في بولوني بيونكور..على الأقل، سيكون هناك في غُرفتي أستلقاءٌ وأستئنافُ التحليقَ في سماء الخالق..
إتخذ الأب اليسوعي بولس نويا مكانه في المترو بمحطة السوربون، لايرى في الخارج عبر النافذة سوى المرور المُعاكس لألواح مُسطحة مُظلمة تتراجع بلمحات خاطفة الى الخلف، والمترو يُسرع الى أمام في أنبوبته اللولبية الواسعة، شعر بدوار شديد، فبدأ يُصلي، أمامه يجلسُ شاب يقرأ كتاباً، تُرى ماذا يقرأ؟ هل يقرأ أشعار شارل دو فوكو؟ الذي تشوق مثله أُستاذُه المستشرق ماسينيون، إلى الاستشهاد في الصحراء! عندما كُنت بعمر هذا الشاب، كاهنا يأخذُ تلاميذ المعهد الكهنوتي للتعلم في المدرسة المُنذرية في الموصل القديمة، أحكي لهُم في الطريق عن جبابرة الأزمان الغابرة ونحنُ نتزاحمُ في الأزقة الضيقة، فكانوا يتغامزون ويضحكون، فيتعجبون من قصص الأُسود التي روضها الرُّهبان، فتحمي الدواب والبشر من فتك الذئاب، فكانوا يَركضون أمامي أو يتباطئون خلفي واضعين أكفهم على أفواههم، ساترين الضحكات اليانعة البريئة.. وأنا أفكر ثانية في عنوان كتاب الشاب أمامي، بدأتُ أحسُّ بموجة كهربية يتقلَّصُ بها جسدي، يتوقفُ المترو ويُطبقٌ الشاب كتابه، قرأت بلمح البصر عنوانه، هو كتابي، الحلاج، كتابُ الطواسين! غادر الشابٌ والمترو ينطلق ثانية، يضيق تنفُّسي وبدأتُ أرتعش، تطابقت تلك الرعدة على أنفاسي ، مثلها قبل خمسون عاماً، عندما طاردني خنزيرٌ بري، وأفلحتُ في دخول الكهف العميق في أينشكي وتخفيتُ هناك والهلعُ يتنازعني و صليتُ .. وصليت …و..
توقف المترو في المحطة التالية ولم ينطلق بعد ثوان هذه المرة كالمعتاد، هناك أنتظارُ لسيارة أسعاف وحضرت الشُّرطة..
فتَّشَت المُسعفة عن أسم الرجل المتوفي بالسَّكتة القلبية في المترو.
المظروف البريدي من الموصل، لن يِستَلمهُ أحَد.