المحرر موضوع: لاهوت الوقت  (زيارة 578 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سـلوان سـاكو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 454
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
لاهوت الوقت
« في: 06:32 29/05/2020 »
لاهوت الوقت 
في نصه الفريد يُقدم لنا الكاتب الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي إسقاطًا عجيبًا من نوعه على ماهية الوقت Time، من خلال توظيف تجربته الشخصية في الاعتقال ومن بعد ذلك الحكم عليه بالإعدام، ليبتكر شخصية من نوع خاص تتصف بالمريضة في روايته الأبله. حيث يقوم السردّ البنائي في الرواية بالكشف عن بعض الصفات الدفينة داخل النفس البشرية لتبرز معالم حيوات كانت مستترة وراء كواليس الروح. ففي عام 1849 أُلقيَ القبض عل فيودور لانتمائه لرابطة بيتراشيفسكي، وهي مجموعةٌ أدبية من الشبان ذات طابع سريّ تُناقِش الكتب الممنوعة التي تنتقد النظام الحاكِم في روسيا وعلى هذا الآساس حكم عليه بالإعدام، يذكر دوستوفيسكي تفاصيل مرحلة الإعدام في نص الرواية بأسطر سريعة، فيقول، في صباح احد الأيام اخرجونا من الزنزانات وكنا عشرين متهمًا بالإعدام ، مقيدين بالسلاسل بالارجل والأيادي، يتقدم الركب كاهنًا متشحًا بالسواد، فاعتبرت ذلك نذيرَ شؤم، تقدمنا من منصة الإعدامات، وكان عليها ثلاثة أعمدة خشبية، فبدأ القاضي تلاوة نصّ الحكم على كل واحد والذي كان حكمًا الإعدام رميًا بالرصاص، كان تسلسلي حسب المرسوم القيصري هو الخامس، فقلت لنفسي، تبقى لي في هذه الحياة خمسة دقائق فقط كيف أستغلها، فهية ثمينة جدًا وقليلة جدًا، فوزعت الدقيقتين الأولى لتوديع الاصدقاء، والدقيقتين التاليتين للتفكير في سؤال معنى الوجود، والدقيقة الآخيرة ينبغي أن اتمعن في سر هذا الوجود وكينونته، بعد ذلك ذهبت المجموعة الأولى إلى موقع الرمي، وانطلقت الرصاصات تدوي في السماء ولكن لم يمت احد، فقد تمَ تصويب فوهات البنادق الى الهواء، وقرأ الجنرال قرار العفو الذي أصدره القيصر بحقنا.
تجربة عميقة في دلالاتها السيكولوجية للنفس عندما تكون إزاء تجربة واحدة لا تتكرر في رمزيتها المجازية. الوقت هو مُشغل العرض السينمائي لحياتنا، محاولات الإنسان لضبط الوقت هو أنعكاس لمتطلباته وإحتياجاته وأناته وأوجاعه، وبالتالي قيد ذاته بأغلال الوقت والزمن، حبس نفسه داخل دوامة اللحظة، أردنا ذلك آم لا نحن أسرى بنى ثقافية بإشكاليات تقنيات العصر، ( عصر السرعة the era of speed). الانتظار عند طبيب الاسنان مزعج، ولكن مشاهدة فلم أكشن لمدة ساعتين تمر كأنها الثواني. تزكية الوقت في ثرثارة لا طائل من ورائها تأخذ ساعات، بينما تصفح كتاب ولو لدقائق معدودات مُملّةً للغاية. أنشتاين قال أن الزمن نسبي وليس مطلق، بمعنى أن رائد الفضاء يكون أصغر في المجرة عنه في الأرض، آما عمانؤيل كانط فقد قال، لا يوجد شيء أسمه الزمن، بل أن عالمنا الذاتي وحياتنا تحاولان ضبط حركة تعاقب الأحداث لمعرفة الماضي والحاضر والمستقبل، بمعنى إبستمولوجي الزمن وهم ونحن داخل هذا الوهم سابحين. لم يكن الوقت مُعد سلفًا في أوكرانيا وقت حدوث كارثة تشيرنوبل، الماء لم يكن باردًا بما فيه الكفاية في المفاعل رقم 4، ساعة حصول الانفجار 23:04، خلال دقائق تغير وجه الكوكب، يعيد التاريخ نفسه في معظم الأحيان ولكن بشكل هزلي، الوقت لم يكن عاديًا عند بول تيبيتس ففي الساعة الثامنة والربع صباحًا أَلْقَى القنبلة على مدينة هيروشيما، التاريخ سوف يظل عالقًا في ذاكرة الأجيال طويلًا.
اليوم الأمراض القاتلة في تكاثر مستمر لا تمهل أصحابها الكثير من الوقت. خمسة عشر يوم هي فترة حضانة فيروس COVID-19 حسب منظمة الصحة العالمية، الوقت محدد بدقة، أما أن يعبر المرء البرزخ ويعود للحياة، وأما أن يفارق هذا الكون للأبد، بين هذا وذاك هوة واسعة، لا يمكن الجزم في أي بُعد سوف نكون، ولكن الأهم هو استحالة الرجوع الى الماضي ما يمكن تأكيده مع حالات الموت.
إحساسنا بالزمن هو وعينا بإنسانيتنا، ووعينا بذاتنا، ووعينا بخلاصة تجربتنا الحياتية سواء كانت طويلة أم قصيرة، من هذا المنطلق نستطيع أن نقول إن للوقت أهمية في صيرورة البشرية.